

عروة بن أذينة بين الشعر والفقه
الشعر والفقهاء: إن الذين كتبوا الشعر من الفقهاء كثير، فالشعر وعاء اللغة، وديوان العرب، وقد جاء في الخبر من كلام عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (إن من الشعر حكمة وإذا التبس عليكم شيء من القرآن فالتمسوه من الشعر فإنه عربي)، رواه البيهقي في السنن الكبرى، فكان ذلك أحد أهم أسباب عناية الفقهاء بالشعر، لكنه ربما هو سبب عنايتهم بحفظه، أما عنايتهم بنظمه، فذلك لابد له من سبب آخر، ينبع من محبتهم له، وشغفهم به فناً من فنون التعبير، فلقد فاض الشعر من ذواتهم بالحب والحزن والغضب والفرح والثناء والذم، مع براعتهم في التعبير به، وصفاً وخيالاً، شأنهم في ذلك شأن الشعراء المجيدون، وإذا كان العرب قد برعوا في تأليف الشعر، حتى لكأن الشعر صار جزءً لا يتجزأ من كينونتهم، فإذا ملك أحدهم ناصية البيان بحظ كان من دواعي ظهور ذلك عليه، ارتشاح بعض الأشعار على لسانه، من فيض قريحته، سليقة من غير تكلف ولا عنت، وظل ذلك ديدانهم ما بقيت مكانة العربية فيهم، فانسحبت تلك العناية من عرب الجاهلية، إلى صدر الإسلام، ثم العصر الأموي، ثم العباسي، فجاء الشعر على لسان الفقهاء، كما الشعراء من أبناء جلدتهم، من فيض نفوسهم، ناراً تتأجج، ونوراً يتوهج، لا يكاد يُقال خبا حتى تراه قد فاق التوقع تألقاً وإحكاماً، لأنهم أبناء تلك البيئة التي تجذر الشعر في بنيانها الفكري، وتكوينها الثقافي، فلو أردت أن تحصي عدد الفقهاء الذين نظموا الشعر في كل عصر من العصور الثلاثة لتأتَّى لك ذلك بجَهد، من غير حصر بيقين، لأنهم كثير، وقد كان من أوائل من عُرفوا بذلك التابعي عروة بن أذينة، فقد كان شاعراً مطبوعاً، وقيل عنه مع ذلك أنه كان فقيهاً محدثاً، وهو مع هذا وذاك معدوداً من الزهاد أيضاً.
عروة الإنسان: كان عروة بن أذينة أحد التابعين، واسمه الحقيقي عروة بن يحيى بن مالك الليثي، وهو من أهل المدينة توفي سنة 130 للهجرة، وكان أبوه مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ثم إنه بعد وقعة الجمل استأذن علياً أن يبقى في البصرة، هو وابن عم له، فلم يشارك في معارك علي رضي الله عنه بعد ذلك، خشية انقراض أهل بيته، فكان عروة بذلك معاصراً لأحداث جسام، ولعله قد أدركه من الروع، والأسى على الأمة، ما كان له أثر في أعماق نفسه، شكل فيما بعد شخصيته، ورتب اهتماماته، وحدد نوعية أشعاره؛ جاء في أخبار مكة للأزرقي عن عروة بن أذينة قال: (قدمت مكة مع أبي يوم احترقت الكعبة، فرأيت الخشب قد خلصت إليه النار، ورأيتها مجردة، من الحريق، ورأيت الركن قد اسود، فقلت: ما أصاب الكعبة؟! فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير، فقالوا: هذا احترقت الكعبة في سببه، أخذ نارا في رأس رمح له، فطارت به الريح، فضربت أستار الكعبة فيما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود). وهو على ذلك يكون قد أدرك أيضاً يوم الحَرَّة، سنة 63هـ، ذلك اليوم المشؤم الذي ارتوت فيه أرض المدينة المنورة بدماء الصحابة وأبناء الصحابة بعد استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنهما، وكان عروة قد غادر البصرة واستقر في المدينة المنورة، فعاش فيها في العصر الأموي، فكان لتلك الأحداث الدموية المفجعة تأثيرها الخفي على تكوينه، إذ لا نلمح في شعره أثر ثورة على شيء، إنما هو شاعر تشكل وجدانه في زمن الخوف، فهو يكتب الشعر العاطفي تارة، والزهد تارة، ويمدح الأمراء أيضاً أحياناً، فالشعر في تلك المرحلة من عمر الأمة كان في اهتمامات المجتمع، بمثابة كرة القدم في زماننا، يتلهى به المثقلون بالضغوط، عوضاً عن الانفجار غير مأمون العواقب.
عروة عالماً ناسكاً: كان عروة من رواة الحديث، جاء في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم قال: عروة بن أذينة الليثي مدني روى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وروى عنه مالك بن أنس وعبيد الله بن عمر سمعت أبى يقول ذلك. وقد عُرف ابن أذينة مع علمه وشعره أيضاً بأنه عابد زاهد، حتى كان يُضرب به المثل فيقال فلان نَسك اليوم نُسك ابن أذينة، وقد عُرف بأبيات صرح فيها بزهادته، لكن كانت له مع هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي بسبب ذلك حكاية يرويها ابن عساكر بسنده قال: وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك فلما دخل إليه شكا خَلَّة ودينا فقال له هشام أنت القائل:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيُعنِّيني تطلبه
ولو جلستُ أتاني لا يُعنِّيني.
ثم قد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق!؟، فقال عروة: وعظتُ يا أمير المؤمنين فأبلغت، (أي في هذين البيتين مبالغة مني؛ فكأن الخليفة أحرجه)، ثم خرج إلى راحلته فركبها ثم وجهها نحو الحجاز عائداً إلى المدينة، فمكث هشام يومه فلما كان في الليل ذكره، فقال في نفسه: رجل من قريش وفد إليَّ فجبهته ورددته عن حاجته، وهو مع ذا شاعرٌ ولا آمن أن يقول فِيَّ ما يَبقى ذكره. فلما أصبح دعا مولاه فدفع إليه ألفي دينار وقال الحق بهذه ابن أذينة، قال المولى فخرجت إلى المدينة فقرعت عليه الباب فخرج إليَّ فأعطيته المال، فقال: أبلغ أمير المؤمنين السلام وقل له كيف رأيت قولي؟ سعيت فأُكذبت ورجعت إلى منزلي فأتاني رزقي ولكني قد قلت:
شاد الملوك قصورهم وتحصنوا
من كل طالب حاجة أو راغب
فإذا تلطف للدخول عليهم
راجٍ تلقوه بوعد كاذب
فارغب إلى ملك الملوك ولا تكن
يا ذا الضراعة طالبا من طالب.
فأُقسم بالله لا سألت أحدا حاجة حتى ألقى الله، فكان ربما سقط سوطه فنزل عن فرسه يأخذه ولا يسأل أحدا أن يناوله إياه.
روى ابن عساكر قال عروة بن أذينة الشاعر: عجبت لمن علم أنه يموت كيف لا يموت! وكان إذا نام الناس بالبصرة خرج فنادى في سككها: يا أهل البصرة، الصلاة الصلاة ثم يتلو: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (سورة الأعراف، آية: 97).
عروة شاعراً: لقد كان الرجل شاعراً فغلب عليه ذلك، ومهما قيل عنه من فقه أو اشتغال بحديث أو زهادة، فإنَّ الظاهر أنه لم يكن من كل ذلك بالمحل الأعلى، لا في تكوينه الفكري، وميوله النفسي، ولا فيما يروى عنه من فقه أو حديث، فليست له في الفقه مسألة مشهور بها، سوى مسألة خروجه من الليل يصيح في الطريق يُذكِّر الناس يحثهم على القيام، فذكر بعض الفقهاء أنه مما استدل به بعض المتأخرين على جواز تأذين المؤذن وابتهاله بالدعاء من الأسحار (أحكام القرآن لابن فارس، 3/9، وديوان الأحكام الكبرى لأبي الأصبغ المالكي، ص: 620)، وكذلك في الحديث لم يرو له سوى ثلاثة أحاديث يرويها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ويرويها عنه الإمام مالك، فهو وإن كان ثقة في الحديث، لكنه لا يقال عنه محدث، كما لا يقال عنه بتلك المسألة في الفقه فقيه، إنما هو شاعر، شاعر وكفى، لأن هذا هو أكثر المروي عنه، فلا غرابة أن يقول عنه الدكتور يحيى الجبوري: "عروة من شعراء المدينة المقدمين، عرف بالغزل وغلب عليه، وهو معدود في الفقهاء والمحدثين، وكان عالماً ناسكاً شاعراً حاذقاً". فالظاهر أنه شاعر، جل عنايته بالشعر، مع ما عرف عنه من اهتمام قليل ببعض الفقه والحديث، ثم إن بعض المنسوب إليه من الشعر ربما ليس له، وقد كان في نفس عصره آخر يقال له عروة ابن أذينة وكان من الخوارج، رأس فيهم، وأذينة أمه، واسمه عروة بن جرير (البداية والنهاية، 7/308)، فلعل بعض الأشعار المنسوبة إلى عروة هي إلى هذا الخارجي، أو غيره، لما نجده من تناقض بينها وبين حالة الزهد التي نسبت له، والحديث والفقه، إلا أن يقال كان هذا في مرحلة من عمره وذاك في مرحلة أخرى، وليس من دليل على ذلك أيضاً.
عروة والسيدة سكينة رضي الله عنها: لقد كان لعروة مع السيدة سكينة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهم، حوار يرويه ابن الجوزي في المنتظم، فيروى أنها وقفت عليه يوماً وقالت له: أنت الذي تقول:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي ... أقبلت نحو سقاء الماء أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره ... فمن لنارٍ على الأحشاء تتقد
فقال لها: نعم، فقالت: وأنت القائل:
قالت وأبثثتها سري فبُحت به قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
ألست تبصر من حولي فقلتُ لها غطى هواك وما ألقى على بصري
فقال: نعم، فالتفتت إلى جوارٍ كن حولها وقالت: هن حرائر إن كان خرج هذا من قلب سليم قط.
تريد أن هذا ليس من كذب الشعراء، فكيف بزاهد أن يقول ذلك!.
من آثار أشعاره: لقد بلغت أشعار عروة مبلغها من نفس أبي السائب المخزومي المديني حتى عد سماع قصيدة لعروة كافٍ عن الطعام والشراب!، ودعا له بخير. جاء في مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر، قال عروة بن عبيد الله بن عروة بن الزبير: كان عروة بن أذينة نازلاً مع أبي في قصر عروة بن الزبير بالعقيق فسمعه ينشد نفسه:
إن التي زعمت فؤادك ملها ... خلقت هواك كما خلقت هوى لها
فيك الذي زعمت بها فكلاكما ... أبدى لخلته الصبابة كلها
ولعمرها لو كان حبك فوقها ... يوماً وقد حجبت إذاً لأظلها
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الضمير لها إليك فسلها
بيضاء باكَرَهَا النعيم فصاغها ... بلباقة فأدقها وأجلها
لما عرضت مسلماً لي حاجة ... أخشى صعوبتها وأرجو ذلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي ... ما كان أكثرها لنا وأقلها
فدنا فقال: لعلها معذورة ... في بعض رقبتها، فقلت: لعلها
قال عروة: فجاءني أبو السائب يوماً بالعقيق، فقلت له بعد الترحيب به: ألك حاجة؟ قال: أبيات لعروة بن أذينة بلغني أنك سمعتها منه، قلت: أي أبيات؟ قال: وهل يخفى القمر؟! إن التي زعمت فؤادك ملها، فأنشدته إياها فقال: ما يروي هذه إلا أهل المعرفة والعقل، هذا والله الصادق الود، الدائم العهد، لا الهذلي الذي يقول:
إن كان أهلكِ يمنعونك رغبة ... عني فأهلي بي أضن وأرغب
لقد عدا الأعرابي طوره، وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبه في حسن الظن بها، وطلب العذر لها، ودعوت له بطعام، فقال: لا والله حتى أروي هذه الأبيات، فلما رواها وثب فقلت: كما أنت حتى تأكل. فقال: ما كنت لأخلط بمحبتي لها وأخذي إياها غيرها، وانصرف.
الغزل الفاحش ليس له: لقد طاف عروة على جميع أغراض الشعر بإبداعه، يقول الدكتور يحيى الجبوري: "الغزل هو الفن الغالب على شعره، وإن كان له فخر كثير ووصف ورثاء، ولكن الروح الإسلامية والسلوك الديني يظهر في كل فن من فنونه، فحتى الغزل كان يصوغه بمعان مشتقة من روح الإسلام وتعاليمه، وهو يستعير صوره وتشبيهاته من معالم الإسلام ومواضع العبادة فيه". قلت لكن ليس كل غزل منسوب إلى عروة يدل على عاطفة حقيقية، بل بعضه فيه ركاكة ولعل في نسبته إليه نظر، فمن ذلك قول:
لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة ... وهم على غرض لعمر ما هم
متجاورين بغير دار إقامة ... لو قد أجد رحيلهم لم يندموا
ولهن بالبيت العتيق لبانة ... والبيت يعرفهن لو يتكلم
لو كان حيا قبلهن ظعائنا ... حيا الحطيم وجوههن وزمزم
وكأنهن وقد حسرن لواغباً ... بيض بأكناف الحطيم مركم
وقد عد الأديب أحمد تيمور باشا هذه الأبيات من أوهام شعراء العرب في المعاني، تأييداً لأبي هلال العسكري في كتاب: الصناعتين، وإنما عدوها من الأوهام لما فيها من التناقض فإنه قال: لبثوا في دار غبطة، ثم قال: لو رحلوا لم يندموا، فلو كانت دار غبطة لندموا على الرحيل، وليس هذا عندي هو السبب الوحيد لاستبعاد أن تكون هذه الأبيات لعروة بن أذينة، إنما هناك سبب إضافي أشد وهو ما في الأبيات من تهتك لا يليق بمسلم محتشم فضلاً عن يكون من أهل الفقه والحديث، حيث لم يجد قائلها أحداً من نساء العالمين يتغزل جمال وجوههن وبياض أجسادهن، سوى النساء في الحج، وعند الكعبة؟!!، فكأنهن حول الحطيم وهو المكان الذي تستجاب فيه الدعوات ويقال له حجر إسماعيل، كأنهن بَيض بعضه فوق بعض!، ولذلك فإن نسبة بعض ما نسب من الغزل إلى عروة بن أذينة فيه تسرع بَيِّنٌ، ولعله عند التمحيص لا يثبت له، فهذه الأبيات الأخيرة، نسبها أبو الحسن البصري في الحماسة البصرية لعمر بن أبي ربيعة القرشي، وكذلك الذهبي في تاريخ الإسلام، وسير أعلام النبلاء، والحق الحق أن في نسبة ذلك لعروة أو لعمر بن أبي ربيعة مما لا يرتاح إليه الضمير، وغالب الظن أنها لا تثبت لهذا ولا لذاك، لما فيها من الفحش والتناقض الذي يدل على ضعف الصنعة، فهي على الأرجح انتحال من بعض المتهتكين.