

السخرية في الأدب العربي
لم يغب خطاب السخرية والتفكه عن الثقافة العربية سواء في خطابيها الشعري أو النثري ، لوعي المبدع العربي بقدرته على تمرير مقصديات قد لا يتمكن منها الخطاب الخالي من التفكه ، من إيصالها ، ما يجعله سننا تعبيريا يتم انتقاؤه بعناية من قبل المبدع ليكون قنطرة عبور إلى المقصد الدلالي بسلاسة وليونة لا تستطيعها الأنساق العادية ، لذا وجدنا السردية العربية حافلة بالخطاب الفكاهي ، فالنقائض كتانت نموذجا حافلا بالتفكه والسخرية اللاذعة التي حتمها الصراع الكلامي الذي سيجه الهجاء وكان الخطاب السردي العربي زاخرا هو الآخر كجزء من المدونة الثقافية التي لا تقل شأنا عن مدون الشعر فكان كتاب البخلاء للجاحظ وأخبار الحمقى والمغفلين لأبي الفرج بن الجوزي ومقامات الهمذاني ، ناهيك عن المتفرقات التي شيدت أبنية الكتابة في مظان كبيرة في تاريخ التأليف العربي كالعقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي والأغاني للراغب الأصفهاني حيث نعثر على نوادر وطرائف كثيرة متفرقة في داخلها ، ما يدل قطعا على أن خطاب التفكه والسخرية شكلا جزءا من منظومة التفكير الإبداعي العربي.
ولعل الأديب العربي وهو يستدعي المنتج التراثي والمنتج الغربي وما زخر به هو الآخر من بارودية وسخرية خاصة عند الألماني "فريدريك شليجل " وعند الإنجليزي " لورد بايرون " فكانت المثاقفة حاسمة في ترسيخ هذا الاختيار خاصة في ظل تهشم الواقع العربي وتكسر أبنيته القيمية ، ما جعل الخطاب الساخر يتشكل في كثير من النصوص على اختلاف تجنيساتها فكانت أشعار أحمد مطر ملأى بالسخرية اللاذعة للواقع السياسي العربي وكانت مسرحيات الحكيم مشحونة بلغة الباروديا المتهكمة من الواقع وقصص زكريا تامر لا تخلو من نبرات ساخرة وروايات محمد زفزاف تشيد سخريتها في كل الفصول ، وغيرهم من الأدباء الذين لم تخل نصوصهم من أدب ساخر يحمل في طياته نقدا للواقع المرير وفي الآن نفسه يحمل المتلقي على الضحك لحد القهقهة ، غير أنه ضحك مشوب بالنقد اللاذع والمحفز للعقل على التفكر في الواقع للبحث عن سبل الخلاص من براثن التخلف والقمع والاستبداد ، فأبدع الكاتب العربي أيما إبداع في تصوير الواقع تصويرات كاريكاتورية مضحكة لكنها كانت حامية من الداخل ملتهبة الأنفاس ، ما جعل القارئ العربي يجد متعة في مثل هذه الأعمال التي نبهت وعيه إلى حقيقة ما يجري في أرض الواقع ، فلقي هذا النوع من الأدب رواجا كبيرا في الأوساط رغم ما تعرض له غالب أصحابه من تضييقات.
إن المبدع العربي وهو يشيد معمار النص وجد في الخطاب الفكاهي أداة مثلى لتمرير مقصدياته التي أدرك أن الخطاب الخالي من السخرية لن يجدي نفعا في تبليغها ، فكان المازني واحد من كبار الأدباء العرب الذين جعلوا من السخرية في الكتابة نسقا جماليا لتشييد معمار النص تجاوز حدود الرؤية الإيديولوجية لتتشكل أبنية ساخرة كظاهرة أسلوبية فريدة ميزت أدب المازني مقالة وقصة وشعرا ، ولابد أن المازني في نظري وهو يؤسس لأدبه عبر السخرية احتاج إلى وقت طويل لإنضاج روحه الساخرة ومنحها الحياة وسط عالم متناقض تتساوى فيه الأضداد عنده ، حتى جعل من الأشياء التي قد لا يستخف بها موضوعا للاستخفاف كما نجده وهو ينقل لنا صورة العم ويصورها تصويرا كاريكاتوريا بديعا فيقول : "وأخيرا جاء العم وتلقيت قبلاته وقاك الله السوء! وهو كل شيء ما فيه ثقيل، تنفسه حشرجة وصوته ضوضأة وضحكه قرقعة وقبلته كمص الماء من كوز نصفان وكرشه برج دبابة، وشعرات شاربه فتلات حبل مقروضة، وعينه والعياذ بالله شفر مفتل وجفن محمر لا هدب فيه وماء يسيل، وأذنه مسترخية من رأسها ومنكسرة على وجهها كأذن الكلب ورأسه على شكل البيضة، وقد ذهب أكثر شعره وبقيت له طرة شعراتها متفرقة صلبة كأنها الشوك .." (1)
لقد كان لنشأة المازني وتكوينه النفسي داخل أسرة تسيدها الأب وزواجه من امرأة لا تساويه من حيث مستواه الثقافي ثم زواجه الثاني وموت ابنتين له أثر كبير ازداد بفعل تعرضه لصدمة رؤية جثة في طريقه في مرحلة شبابه من مرض نفسي ظل يعاني منه لمدة طويلة أثر في تشكيل شخصيته التي وسمها الإحساس بالتناقض وخيبة الأمل التي رافقته في مشوراه المهني ، ما جعله يتخذ من السخرية بوابة التنفيس عن ذاته التي ظل يخشى عليها من النقص لما أصابها من اعتلال ونحافة وما أصاب ساقه من عرج ؛ لقد جعل المازني من العبث والسخرية مفتاحا لمقاومة العزلة والتقوقع على الذات ، إنه وجد فيها حلا نفسيا لما كانت تعانيه ذاته المضطربة ولولاها لكان المازني ـ في نظري ـ يعيش في عالم بوهيمي أو عالم شديد الانطواء ، فقد شكلت السخرية عنده وسيلة حقيقية لإحقاق الاندماج الاجتماعي وفرض الوجود بذات مضطربة استطاع أن يخفي اضطرابها الذي غذته الأوضاع الاجتماعية والسياسية التي عاشتها مصر يومها وعاشها العالم ما بين مطلع القرن العشرين إلى الخمسينيات ، فتجلت السخرية وسط أبنية لتشكل في كتاباته كلها ظاهرة أسلوبية.
لقد كان للعوامل النفسية والاجتماعية والسياسية دور كبير في توجيه اخيار المازني لأسلوبية الكتابة ، لكن النهل من ينابيع الثقافة العربية التراثية خاصة كتابات الجاحظ في الحيوان والبخلاء والبيان والتبيين ورسائله واطلاعه الواسع على الشعرية العربية خاصة شعر ابن الرومي وما أثاره في نفسه من رسم كاريكاتوري متفكه لشخصياته المهجوة وتأثره بالأدب الصوفي وما يدفع به النفس إلى إعلان قطيعتها مع الحياة العابثة ناهيك عن التأثر بالأدب الانجليزي الذي شكل جزءا كبيرا من ثقافة المازني ولابد أن اطلاعه على الأدب الساخر في الغرب خاصة الروسي منه مع تشيكوف ولويشيوفسكي اللذان كان لهما أكبر الأثر في نفسه ، سيكون دافعا آخر ينضاف إلى العوامل الاجتماعية والنفسية والسياسية ليشهد الأدب العربي أديبا عربيا أمتع القارئ بنصوصه الساخرة ويعيش معه لحظات جميلة من المرح والدعابة التي لم يكن يجدها القارئ العربي إلا في نصوص متفرقة هنا وهناك، ليرتبط اسم المازني في ثقافتنا العربية الحديثة بالأدب الساخر الذي أبدع فيه إبداعا عجيبا وجاء فيه بمتون تحمل على الضحك الذي كان يفيض من روحه المرحة حيا نابضا وناطقا بكل خلجاته كما فعل الجاحظ في بخلائه وصنع ابن الرومي في هجائياته اللاذعة.
لقد استطاع المازني بسخريته أن يطال كل شيء يمكن له أن يأخذ نصيبا من الاستخفاف المرح ،يقول د. حامد عبده الهوال : " لقد كانت حياة المازني الخاصة وظروفه الشخصية وبعض صفاته المميزة تثير في نفسه الشعور بالتناقض وخيبة الأمل فكان مستعدا بطبيعته وبظروفه إلى أن يجعل من كل ذلك مادة لسخرياته ويخضعه للعبث ، ليزيل من حوله الإحساس بالرهبة ويقاوم الرغبة في الانطواء والبعد عن الحياة "، فلم ينج منه كتاب وأدباء ولم تنج منه كتب لهم فاستخف بهم وبما أنجزوه كما صنع مع حديث الأربعاء لعميد الأدب العربي طه حسين حينما استخف المازني بهذا الكتاب ، معتبرا أنه غير ذي فائدة حتى للهوام والحشرات التي تزحف فوقه وتعيق مرورها ليرسم المازني صورة كاريكاتورية فريدة من نوعها ، يجعل من الكتاب ومن صاحبه أضحوكة في الأفواه دون أن يبالي بمن ينتقد أو بمن يسخر منه حتى لو كان صديقا له كما صنع مع عبد الرحمن شكري ، كما كانت سخريته من مجالس أدعياء الأدب والثقافة ظاهرا في كثير من مواقفه ؛ غير أن هذه السخرية لم يقصرها المازني على أدب غيره أو مواقف الآخرين وإنما اتخذ من نفسه موضوعا للمقارنة حينما لفت نظره اهتمام قرائه بالألفاظ والصنعة التي كان فيها مجيدا وصرفوا اهتمامهم عن المعاني التي كان يريد تبليغها ما جعله يستشعر نوعا من النقص حيال هذا الأمر فقال : " يا ضيعة العصر أقصى على الناس حديث النفس ، وأبثهم وجد القلب ونجوى الفؤاد فيقولون : ما أجود لفظه أو أسخفه ! ، كأني إلى اللفظ قصدت وأنصب قبل عيونهم مرآة للحياة تريهم لو تأملوها نفوسهم بادية في صقالها ، فلا ينظرون إلا إلى زخرفها وإطارها وهل هو مفضض أو مذهب وهل هو متملح في الذوق أو مستهجن لا يعيبون البحر باعوجاج شطآنه وكثرة صخوره يا ضيعة العمر!"(3) ، كما نجد للمازني سخريات تمتد إلى أهل الفلسفة لأنهم أشخاص لا يصلح كلامهم كما يقول إلا لنعزم به على الجن ويسخر من أهل التاريخ لأنهم لا يمنحوننا من النتائج ما يتناسب مع الحقائق ، كما نجد سخريته من المعلمين الثرثارين ، ومن عامة الناس ، سواء كانوا من الأقارب أو ممن لا قرابة تجمعه بهم ، فنقل صورهم الاجتماعية وأنماط سلوكهم وحتى مظهر ألبستهم ما يعكس روح شخصياتهم.
لقد كان المازني نموذجا فريدا من نوعه ، فتفرد أدبه بسمات أسلوبية وموضوعية جعلته يمتاز عن غيره تداخلت عوامل متعددة أسهمت في بلورته تشابك فيها الذاتي والنفسي والسياسي والاجتماعي والثقافي ، ما منح كتابته في عود على البدء وإبراهيم الثاني وثلاثة رجال وامرأة وفي الطريق وغيرها وسما خاصا يطفح بنبرة السخرية التي جعلها علامة على فكره ووشما بها يتسامى أدبه الذي لم تسيجه الإيديولوجة كما فعلت بكثير من الأدب الساخر في بلادنا العربية ، وإنما كانت في الغالب بواعثها ذاتية محضة أفرزتها طبيعة النشأة وأججتها عوامل كثيرة وسمت حياته بالاضطراب وعدم الاستقرار ما جعل السخرية طريقا ملائما لتمرير أفكاره ومعانيه التي غلب عليها جانب الصنعة فكانت شديدة الإمتاع للقارئ الذي كان يعرف أنه مقبل على متن سيحمله على الضحك في كل لحظة من لحظات القراءة بذلك الأسلوب البارع الذي تعتمل داخله لغة واصفة شديدة الدقة والنقل والتصوير للوجوه والأبدان والأفكار والخواطروالأشياء .
الهوامش
إبراهيم عبد القادر المازني عود على بدء دار الشروق ط 4 سنة 1989 ص ص 34 ـ 35 وانظرخليل هنداوي تيسير الإنشاء دار الشرق العربي ط 11 ص 93
د. حامد عبده الهوال السخرية في أدب المازني الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1982ص 137
إبراهيم المازني حصاد الهشيم سنة 1924 ص 84