

مذيع ثورة ٢٣ يوليو
الأقدار تلعب دورا مهما في حياة الإنسان ومن ثم تمر السنوات وتظل المواقف والأحداث في سجلات التاريخ وهذا ماحدث مع الإذاعي القدير فهمي عمر الذي يمثل علامة كبيرة في تاريخ الإذاعة المصرية بصفة خاصة والإعلام بصفة عامة .. فقد عاش انكسارات وانتصارات الوطن ويعد شاهدا على العصر وهو من مواليد 6 مارس عام 1928 م في قرية الرئيسية مركز نجع حمادي بمحافظة قنا ولم تكن بقريته مدرسة ابتدائية بل كانت بمدينة دشنا ولذا كان يعبر نهر النيل بمركب ويقطع مسافة 20 كيلو متر في نحو 90 دقيقة للوصول إلى المدرسة وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية ثم الإعدادية التحق بمدرسة قنا الثانوية وكان يسافر بالقطار لأجل تحقيق حلمه بالالتحاق بكلية الطب أو بالمعهد العالي للكيمياء الصناعية ولكنه التحق بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية التي كان اسمها جامعة فاروق الأول وأثناء دراسته كان يسكن فى بنسيون يملكه يونانى بالإسكندرية التى كانت فى ذلك الوقت مليئة بالأجانب أكثرهم يونانيين وكانت الجامعة فى أوائل سنة 1946 تموج بالمظاهرات التى تطالب برحيل الاستعمار وكان يؤجج شعلة المظاهرات مجموعة من الطلاب على رأسهم الشاعر الكبير محمد التهامى الذى كان يلهب خيال الطلاب بقصائده الوطنية بالإضافة إلى سعد التائه الخطيب المفوه .

فهمى عمرعشق كرة القدم والرياضة وكان يحرص على مشاهدة مباريات الاتحاد السكندرى والأوليمبى ومتابعة مباريات كرة السلة بين أندية الأهلى والجزيرة والزمالك واليونانى وسبورتنج وسان مارك وفي عام 1949 حصل على الليسانس وانتظر الالتحاق بالنيابة العامة ومرت الشهور دون ظهور أية نتيجة تبشر بالالتحاق بالنيابة العامة وفى تلك الأثناء حضر للقاهرة وتدرب في مكتب الدكتور محمد صالح عميد الحقوق الأسبق وفى أحد الأيام جلس مع صديق لأحد أقاربه وصهر الدكتور محمد صالح وهو المهندس أبو الفتوح طلبه صقر فأشار عليه بالتقدم للعمل بالإذاعة البعيدة عن خاطره وتطلعاته.
المهندس أبو الفتوح هو الذي كتب الطلب باسمه وقدمه لاختبارات الإذاعة وبعد أيام قليلة وصل خطاب بالبريد على عنوانه في القاهرة وكانت سطور الخطاب تقول : يجب أن تذهب فى اليوم الفلانى إلى مبنى ستديوهات الإذاعة فى رقم 5 شارع علوى لأداء الامتحان أمام لجنة اختبار المذيعين وفي يوم 15 إبريل عام 1950 ذهب إلى مكان الاختبار فوجد عشرات الشبان والشابات قد سبقوه لكى يؤدوا الامتحان وكانت أعصابه هادئة وكانت المفاجأة أن اسمه كان من بين الشبان الذين سيحضرون فى الغد للتصفية وفى التصفية كان اسمه ضمن التصفية التالية التى ستجرى بعد غد إلى أن صدر قرار تعيينه بالإذاعة وشعر بخيبة عندما قالت لجنة اختبار المذيعين فى تقريرها أن صوته صالح للميكروفون ومخارج الألفاظ عنده سليمة والحنجرة قوية ولكن يشوب أدائه لهجة صعيدية عندئذ عرف لماذا كانت ضحكات لجنة الاختبار وهو فى ستديو الامتحان بعد كل حوار يجرى بين أعضائها وبينه وسأله أحدهم : لماذا تقول (جلنا) و(جال) ولماذا تعطش الجيم ولماذا لا تتحدث باللهجة القاهرية ؟ وكان يصر على عدم التحدث إلا باللهجة الصعيدية لذلك ظل طيلة 15 شهرا يعمل خارج الهواء ولم ينطق بكلمة واحدة فى الميكروفون وكان يستقبل التسجيلات الإذاعية ويقوم بإعداد الميكروفون وتعرف على العديد من ضيوف الإذاعة من المتحدثين مثل عباس محمود العقاد ومحمد فريد أبو حديد والدكتور محمد عوض محمد والفنان سليمان نجيب وفكري أباظة وغيرهم .
فهمى عمر جاهد كثيرا لأن يصبح مذيعا يقرأ نشرة الأخبار ويقدم فقرات البرنامج وبالتالي يعرفه الناس ويصبح نجما إذاعيا معروفا ومع الوقت عشق العمل بالإذاعة وكان يلح في طلبه لعقد امتحان له حتى يستطيع العمل مذيع هواء وظل هذا الحال قرابة العام حتى استطاع التخلص من اللهجة الصعيدية شيئا ما أمام لجنة الاختبار وفي يوم 23 أغسطس عام 1951 خرج صوته أخيرا عبر الأثير وقال : هنا القاهرة.
عمله بالإذاعة لم يعجب والده وأمر ألا يفتح الراديو فى المنزل وكان جهاز الراديو في ذلك الوقت يعمل بالبطارية السائلة كبيرة الحجم ويتم شحنها كل أسبوعين على الأكثر حيث يذهب أحد الأشخاص إلى مدينة نجع حمادي لتظل في الشحن حوالي 5 ساعات ويعود بها لتركب بمقابض تتصل بسلك مع الراديو وكانت الرحلة من القرية إلى نجع حمادي تتم عن طريق ركوب الحمار والذي يقطع المسافة في ساعتين ذهابا ومثلهما إيابا وذات مرة فاجأه الباشا مدير قنا في جلسة مع عمد المراكز وسأله : كيف استطاع ابنك يا عمده أن يصبح مذيعا أنا أسمعه دائما ودي حاجة عظيمة وبعد العودة من الجلسة أمر والده بفتح الراديو والفترة التي ينفذها في الصباح أو الظهر أو المساء كان والده خلالها لا يغادر المنزل حتى تنتهي الفترة الإذاعية.
اشتهر فهمي عمر في بداية عمله بالإذاعة بلقب المذيع الصعيدي حيث تم تعيينه مذيعا لكن مع إيقاف التنفيذ بسبب لهجته الصعيدية وكتب عنه جليل البنداري مقالا في مجلة آخر ساعة حكى فيه قصة لهجتي الصعيدية وكيفية التخلص منها فى أواخر عام 1951 والتصق هذا اللقب به وكان سعيدا به والنجوم عرفوه وقتها بهذا اللقب مثل أم كلثوم وعبد الحليم حافظ.
خلال تلك الفترة كانت الإذاعة تعمل على فترات متقطعة وكانت تقدم برامجها على فترات وكانت فترة الصباح تبدأ من الساعة السادسة والنصف وتنتهي الثامنة والربع ثم فترة الضحى وتبدأ العاشرة وتنتهي الحادية عشرة صباحا ثم فترة بعد الظهر وتبدا من الساعة الثانية حتى الثالثة والنصف ثم فترة المساء من الساعة الخامسة حتى قراءة نشر الأخبار 11 مساء ثم ينتهي الإرسال وكان فهمي عمر مذيع يوم الأربعاء 23 يوليو عام 1952 وقد انتظر سيارة الإذاعة في فجر ذلك اليوم ولم تأت فأخذ تاكسي وذهب إلى الإذاعة وفي مدخل شارع الشريفين من ناحية شارع صبري أبو علم وجد طابورا من الجند يمنع الناس من دخول الشارع ومنعه أحد الضباط وعندما رآه بواب الإذاعة جرى عليه وقال له : هذا هو المذيع فرحب به الضابط وكان برتبة ملازم اول وقال له : تفضل فسأله : ماهى الحكاية ؟ فقال : ستعرف كل حاجة لما تطلع فوق وكانت الاستديوهات في 5 شارع علوي الموازي لشارع الشريفين فصعد سلالم الإذاعة للدور الثاني وعددها 64 درجة سلم ووصل إلى استراحة المذيعين حيث كان يجلس البكباشى أي المقدم محمد أنور السادات فعرفه على الفور لأنه كان ملء السمع والبصر وقرأ عنه الكثير وأدرك أن الضباط والجنود الذين ملأوا جنبات الإذاعة والشوارع المحيطة بها جاءوا من أجل تحقيق الحلم الذى داعب خيال الشعب المصري سنوات طويلة وهو جلاء المستعمر والقضاء على فساد الملك والأحزاب.
المقدم محمد أنور السادات قال له : هناك بعض التعديلات على برامج الإذاعة وأنه سيقوم بإلقاء بيان خلال الميكروفون عقب بدء الإرسال مباشرة ولم يتردد فهمي عمر لحظة واحدة فى تلبية الطلب وقال لأنور السادات : سأقول بعض الكلمات التى نحيى بها المستمعين ودخل السادات الاستديو وكان يعتزم إذاعة البيان بعد المارش العسكري الذي يعقب افتتاح المحطة الذي كان ينتهي في السادسة واثنتين وثلاثين دقيقة ولكن علم من المهندسين أثناء إذاعة المارش العسكري بأن الإرسال قد قُطع من محطة أبو زعبل ولمَّا علم السادات خرج من الاستديو وأبلغ الموقف للقيادة وواصل فهمي عمر تقديم فقرات البرنامج اليومي وفقاً للمواعيد رغم علمه بانقطاع الإرسال وبعد حوالي أربعين دقيقة من انقطاع الإرسال عاد الإرسال مرة أخرى وكان ذلك في حوالي الساعة السابعة وثلاث عشرة دقيقة فبادر بإبلاغ السادات بعودة الإرسال فسأله : هل يمكن إلقاء البيان ؟ فقال : بعد دقيقتين ستنتهى إذاعة القرآن الكريم وسوف يتلوه حديث دينى لمدة عشر دقائق فقال السادات : لا.. أنا سأذيع البيان بعد القرآن مباشرة وفى الساعة السابعة والربع تماما تأهب لتقديم السادات لإذاعة البيان وإذا بالمهندسين يبلغونه مرة أخرى بأن الإرسال قد قُطع ثانية ولكن هذه المرة من مصلحة التليفونات وليس من (أبو زعبل) وثار السادات غاضبا وقال : إيه ده تانى وأسرع إلى التليفون حيث عاود اتصاله بالقيادة وفى الساعة السابعة وسبع وعشرين دقيقة عاد الإرسال مرة أخرى وكان ذلك من المصادفات الحسنة لأن نشرة الأخبار كان موعدها فى السابعة والنصف صباحاً وهو أفضل موعد يستمع فيه الناس إلى نشرة الإذاعة وعندما دقت الساعة معلنة السابعة والنصف تأهب لتقديم محمد أنور السادات بالصفة التى طلبها وهى أنه مندوب القيادة فقد رفض أن أقدمه باسمه .. دقت الساعة وقال الإذاعي فهمي عمر : سيداتى وسادتى أعلنت ساعة جامعة فؤاد الأول السابعة والنصف من صباح الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو وإليكم نشرة الأخبار التى نستهلها ببيان من القيادة العامة للقوات المسلحة يلقيه مندوب القيادة وانساب صوت محمد أنور السادات يعلن أول بيان للثورة واستغرقت تلاوته دقيقتين ونصفا واختتم القراءة بذكر موقع البيان اللواء أركان حرب محمد نجيب القائد العام للقوات المسلحة وهذا نص بيان الثورة :
( بني وطني : اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد وعدم استقرار الحكم ، وقد كان لكل هذه العوامل تأثير كبير على الجيش وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين وأما فترة ما بعد هذه الحرب فقد تضافرت فيها عوامل الفساد وتآمر الخونة على الجيش وتولى أمره إما جاهل أو خائن أو فاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها وعلى ذلك فقد قمنا بتطهير أنفسنا وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وفي خلقهم وفي وطنيتهم ولا بد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب أما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب وإني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن في ظل الدستور مجرداً من أية غاية وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة بأن يلجأ لأعمال التخريب أو العنف لأن هذا ليس في صالح مصر وأن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة لم يسبق لها مثيل وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال وسيقوم الجيش بواجبه هذا متعاوناً مع البوليس وإني أطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأموالهم ويعتبر الجيش نفسه مسئولاً عنهم والله ولي التوفيق ).
واصل الإذاعي فهمي عمر قراءة نشرة الأخبار التي كان معظمها خاصا بمراسم تشكيل وزارة نجيب الهلالى ومقابلات الملك مع رئيس الوزراء والوزراء وقد سأل السادات قبل قراءة النشرة : هل أحذف منها شيئا فقال : أقرؤها كلها كما هى .. وما كاد السادات ينتهى من قراءة البيان حتى تركه لأحد الضباط القائمين على حراسة الإذاعة وعاد إلى مبنى رئاسة الجيش ولم يتم تسجيل البيان عند إلقائه فى المرة الأولى بصوت أنور السادات لأنه لم يكن معروفاً لدى الإذاعة وقتئذ نظام التسجيل بالأشرطة البلاستيك بل كان التسجيل يتم بأشرطة صلب بماكينات كبيرة وصغيرة بعد وصول المهندس المختص بعد الساعة التاسعة صباحاً يوميا وبعد إذاعة بيان الثورة امتلأت الشوارع المحيطة بالإذاعة بالآلاف من المواطنين وهم يقبلون جنود القوات المسلحة وقدموا لهم الشاى والبسكويت مرددين ( تحيا مصر) وبعد مغادرة محمد أنور السادات دار الإذاعة بعد إلقائه البيان الأول كثرت الاتصالات مع الإذاعة لإعادة إذاعة البيان نظراً لأن فئات عديدة من الشعب لم تتح لها فرصة الاستماع إليه وعندما استأنفت الإذاعة إرسالها فى فترة الضحى التى تبدأ فى العاشرة صباحاً وتنتهى فى الحادية عشرة والنصف كان المهندس أحمد عواد المختص بالتسجيل قد وصل وطلب المذيعون من أحد الضباط القائمين بالحراسة إلقاء البيان بصوته ليسمعه أولئك الذين فاتهم الاستماع إليه فى الفترة الصباحية وتقدم الصاغ محيى الدين عبد الرحمن وألقى البيان على الهواء مباشرة فى العاشرة صباحا وتمكن المهندس أحمد عواد من تسجيله وبدأت محطة الإذاعة تذيعه على فترات ليسمعه أكبر عدد من المواطنين ولكن قراءة الصاغ محيى الدين عبد الرحمن كانت مليئة بالأخطاء اللغوية إلى الحد الذى أثار ثائرة الكثيرين وجعلهم يتصلون بالقيادة لتدارك الموقف وبالفعل اتصلت قيادة الحركة بالرائد محيى الدين عبد الرحمن وطلبت منه وقف تلاوة البيان بصوته وتكليف واحد من المذيعين بتلاوة البيان بطريقة صحيحة وكان أول مذيع يقرأ البيان بصوته هو المذيع صلاح زكى كما أذاعه المذيع جلال معوض بصوته فى نشرة أخبار الثامنة والنصف مساءً ولم يسجل البيان بصوت أنور السادات إلا خلال الاحتفال الذى أُقيم بمناسبة مرور ستة أشهر على قيام الثورة أى فى يوم ٢٣ يناير ١٩٥٣ م .
يوم قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 كان الفنان محمد رشدى على موعد مع القدر والشهرة فقد كان محددا له أن يذيع على الهواء مباشرة من إذاعة البرنامج العام من الساعة الثامنة والربع حتى الثامنة والنصف صباحا فقرة غنائية بمصاحبة الفرقة وعندما ذهب إلى مبنى الإذاعة فى شارع الشريفين وجد الدبابات وقابل المسئولين فاخبره رجال الثورة الموجودون السادات وجمال حماد بأن أذاعته قد ألغيت لوجود ثورة فجلس رشدى وبكى فتعاطف الموجودون معه وسمحوا له بالغناء عندما سألوه ماذا ستغنى ؟ قال : قولوا لمأذون البلد .. قالوا : غن اليوم فرح .. وهكذا غنى محمد رشدى من ألحانه وكلمات محمد فتحي مهدي وانتشرت هذه الأغنية لأن العالم كله كان يتابع الإذاعة ليعرف أخبار الثورة المصرية وتعد هذه الأغنية من أغنيات الأفراح بعد يومين من قيام الثورة غنى الفنان محمد قنديل من كلمات الشاعر حسين طنطاوي وألحان أحمد صدقي (ع الدوار ع الدوار.. راديو بلدنا فيه أخبار) وحتى اليوم يشعر الناس بأن هذه الأغنية كانت علامة نجاح للثورة ونذكر هنا أنه خلال شهر واحد من قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 قدمت الإذاعة 51 حديثا وطنيا ، 37 قصيدة شعرية وزجلية تؤيد الثورة وتشرح أهدافها ، 35 برنامجا خاصا ، 17 تمثيلية إذاعية وطنية توالت وتعاقبت السنوات ويوم 12 ديسمبر عام 1982 صدر قرار تعيين الإذاعي القدير فهمي رئيسا للإذاعة المصرية وكان الكاتب الكبير ثروت أباظة أول من نقل له خبر تعيينه رئيسا للإذاعة وقبل خروجه بعام للمعاش ترشح لعضوية مجلس الشعب وظل نائبا في البرلمان منذ عام 1987م حتى عام 2000م عن دائرة نجع حمادي وفى عام 1995 م راح ابنه الشهيد المهندس عمر ضحية الغدر والخسة في جريمة عبثية ارتكبتها يد الجهل والدناءة .