الخميس ١٠ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم حنان جبيلي عابد

قصيدة الشاعر مفلح طبعوني: المقاومة من وجدان لا يصرخ

في زمنٍ باتت فيه القصائد أسيرة حين تُكتب لاسترضاء التصفيق، وتتحوّل إلى صدى لخطابات لا تُغير شيئًا سوى مستوى الضجيج. في زمنٍ كثرت فيه الأصوات وقلّ فيه الصدق، تتراجع الكلمة إلى الخلف حين تُثقلها الحسابات، وتختنق القصيدة عندما تُكتب لتُقال لا لتُحسّ.

لكن، وسط هذا الركام من الكلام المنمق، تظهر تجارب نادرة، تُحرّر الشعر من قوالبه، وتعيده إلى نبضه الأول.
هكذا جاءت قصيدة الشاعر الفلسطيني مفلح طبعوني بعنوان " بعث أبيد" من ديوان "نزيف الظلال"، بعيدة عن الشعارات، نظيفة من الزيف، تتنفس بصدق، وتبحث عن خلاص داخلي قبل أن تنطق باسم القضية. مقاومته ليست صاخبة، لكنها عميقة، لا تلهث وراء تصفيق، بل تزرع فينا شعورًا أننا أمام شاعر يثور من الداخل، ويتكسر في صمت.
يخرج علينا الشاعر الفلسطيني مفلح طبعوني بنصّ مختلف، نقيّ، مسكون بالحسّ والهمّ، لكنه محرَّر من استجداء التصفيق أو اللهاث خلف ضجيج لا يُنتج إلا الضوضاء. استطاع الشاعر أن يخطّ لنفسه مسارًا شعريًا يرفض الابتذال، ويتجه مباشرة إلى الجوهر الوجدان الإنساني المقاوم دون تزييف أو تنميق منذ الأسطر الأولى للقصيدة، يُدرك المتلقي أنه أمام تجربة وجدانية صادقة، لا تستعير مفردات الحرب بقدر ما تفتش في عمق الألم الفلسطيني، وتحاول أن تعيد تشكيله في صورة حسيّة، تجمع بين الحنين والحب، الثورة والارتباك، التمرد والرجاء.
يقول في إحدى مقاطعه:
"واشعليني
للصبايا الفارعات
ومرايا العاشقات
في ظلام الموت حبًّا
ليفيق الكون من هذا السبات"
إنها ثورة عاطفية قبل أن تكون سياسية، حيث تمتزج صورة الأنثى بالحلم، وتتماهى صورة الحبيبة مع الوطن، ويُصبح الموت بؤرةً ينفجر منها الحبّ، لا العكس. والقصيدة هنا لا تسلك الدرب المألوف لشعر المقاومة التقليدي، بل تبني مقاومتها من الداخل، من تلك المناطق التي يصعب الإمساك بها أو تلخيصها بشعار.
ويستمر هذا التوتر العاطفي في مقاطع لاحقة، حيث يُصرّ الشاعر على ارتكاب الحبّ كفعل مقاوم، وعلى سكب الحنين في قارورة الحرف:
اسكريني"
من ربى عينيك في ليلة عيدي
ودعيني
أرشف الدمع من الخد الرطيب
أرقديني تحت نخلات السبيل"
المفردات هنا ناعمة، لكنها موجعة، كأنها تريد أن تهمس بدل أن تصرخ، أن تشفي بدل أن تدين، وهي بذلك تقلب المفهوم النمطي للقصيدة الثورية، إذ تُصبح الذات هي ساحة النضال، والجسد هو حقل المعركة، والمشاعر هي الوقود.
وما يُميّز الشاعر طبعوني أكثر، هو محاولته الدائمة لحماية المتلقي من الألم، حتى وهو يُحترق داخليًا. يحاول تهدئة وجع الجمهور، إخفاء قلقه عنهم، كما لو كان يُريد من الشعر أن يكون ملاذًا، لا ساحة جلد جماعي. لكن هذا التماسك لا يصمد طويلًا، إذ في الخاتمة، يكشف الشاعر عمق احتراقه الداخلي:
"خمريني واحرقيني
رمديني
ثم عودي واجمعيني
اجبليني
واجعليني طينة البعث الأبيد !!!"
هنا، تُصبح القصيدة طقسًا فنيًا للانبعاث، واللغة تتحوّل إلى وسيلة خلاص. الشاعر لا يطلب مجرد احتراق، بل إعادة تشكيل كاملة، كأن الوطن، في لحظة من اللحظات، هو الأنثى القادرة على خلقه من رماده، ليعود مقاومًا من جديد.
إنّ قصيدة الشاعر مفلح طبعوني تُقدّم نموذجًا حيًّا لما يمكن أن يكون عليه الشعر حين يتحرر من القوالب ويصغي لصوته الداخلي. إنها قصيدة مقاومة لا ترفع السلاح بل ترفع الإحساس، لا تستعرض الصراخ بل تُعيد ترتيب النبض. وبين سطورها، يُولد الوطن من رماد الألم، لا من ضجيج المنابر.

معدل تموز 2025 الناصرة


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى