الجمعة ١١ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم هاتف بشبوش

يحيى السماوي بين العدميّةِ والآيروتيك ..

يحيى ، رمزُ صبانا ونشاطنا الثوري ، هو ذلك الشاعر الذي بدأ كأسطورةٍ سماوية تتناقلها الألسن منذ السبعينيات وديوانه الأول (عيناك دنيا 1970) ، حتى أكمل ديوانه الخامس والعشرين ( أنقذتِني مني) ، وحتى تأطر بأحزان (جبران خليل جبران) قبل أشهرٍ قليلةٍ حين نال الجائزة الجبرانية العالمية الكبيرة في إستراليا . كل قصائد الشاعر يحيى لاتحتجب وراء الستار، بل كلها موصوفة على مقاساتنا نحن البؤساء في أغلب الأحيان والسعداء قليلا بما يكرم علينا الزمن بين الفينة والأخرى ، شاعرّ له من الطاقة الموضوعية والأخلاقية التي تجعله مصراً على المضيّ قدما في رسم ذلك النهج ، الذي يساهم في حلحلة تعقيدات الحياة ، نستطيع من خلال نصوصه أنْ نستعرض خلفية شاعر كبير على غرار نجوم الشعر الكبار في العالم .عمودياً أولاً ، ناثراً ، كتب بالسونيتات والرباعيات ، في أغلب أعماله نرى الثورة والشعر ، يكتب بالأسلوب البانورامي الثابت منذ أول شقائه وحتى اليوم ، والذي سوف يستمر صوب العمر المديد . نراه يتجه الى الإنسانية المعذبة ، الى الطبقة العاملة التي تئنّ تحت غول رأس المال.

وأنا أقرأ يحيى ، أجده كبيراً متميزاً بين آلاف الشعراء شرقيّهم وغربيّهم ، يمتلك من التقنية المذهلة في التوصيف ، لا أجد مألوفا ولاروتينا ولا غثيانا في أغلب أشعاره ، سوى تواجد العصارة الشعرية أمام الرائي . الشاعر يحيى وهو في قمة أحزانه يرقبُ على الدوام تغييرا جديداً مثلما تقول فرجينيا وولف ( أرقبُ على الدوام عصراً قادماً ، أرقبُ الجشع ، أرقبُ قنوطي الخاص ، أصرّ على أنْ أمضي هذا الوقت ، في عمل أفضل الغايات) . كل قصائد يحي السياسية أدّت مهامها كما كان يبتغيه ،كما وأنه إجتهد كثيرا وكافح كثيراً ، حتى حصل على هذه الشهرة المميزة ، والأكثر إمكانية ثأثيراً على مشاعر الآخرين . يحيى لايكتب شعراً مكبوتا بل واقعياً شديداً لدرجة خلق الصدمة لدى المتلقي ولدرجة أنْ تكون أغلب قصائده لكمة بوجه المجرمين والمتحكمين . يحيى يكتب المحتوى والشكل ، العاطفة والإحساس،الإلحاح والتعمديّة في فضح المستور والتأشير بشكلٍ علني على من هم في قائمة السفلة والمنحطين والمراوغين . يحيى السماوي وفي صلب هذه الأحداث اليوم وكأنه يقول لنا ما قاله كزانتزاكيس قبل مئة عام حول عقيدة العصر الإنتقالي ( إنّ مشكلة عصرنا تكمن في أنه قد أمسكَ بنا من الوسط) ، فقد فقدنا تقديرنا العفوي لجمال هذا العالم من جهة وفقدنا إيماننا بالسماوات العلى من جهة أخرى ، وهكذا لانستطيع أنْ نكون وثنيين لأنّ المتأسلمين سمّموا نظرتنا الى الأشياء المادية ، ولانستطيع أن نكونْ متأسلمين ، لأنً الدواعش سمًموا نظرتنا الى الأسلام والمتأسلمين والعالم الروحي الكامل والذي كان هو الأساس في السلوك الإسلامي ، وهكذا نحنُ ضحايا العصر الإنتقالي، الذي تطرّق له كزانتزاكيس خصوصا في الفترة الداروينية التي أثرت كثيراً على مفاهيم المسيحية.

أما حين نقرأ الشاعر في غزلياته ، نجد أنفسنا في فردوسٍ من التفاصيل ، صغيرها وعظيمها ، والتي تشكل كل الجمالات التي نراها ونحن نطرق مداخل هذا الفردوس : مثل النظرة الأولى ، القدرية في الحب ، القلوب حين تفتقد شيئاً ، الإلتفاتة ، ماذا نفعل حيال الحب ، وصف الحبيب ، تبادل النظرات ، تقابل الطرق ، العفوية في اللقاءات ، الندم ، الجرأة ، المراقبة ، التحديق ، الإنجذاب ، التعلق ، تبلّد الشعور ، السأم ، العذل ، عظمة القلق ، اللواعج ، وكل ماعرفناه وما لم نعرفه عن الجنس اللطيف ومايخبئهُ تحت طيّات الحرير .

النجاح الهائل لأغلب أعماله يعزى لكونه يمتلك القدرة على صهر المعرفيات في القصيدة التي تتشكل بين ماهو خاص وعام ، كما وأنه قادر على إستخراج الصرخة التي نادى بها (برجستون) ، ألا وهي صرخة ( إله الحق) التي جاءت كحلٍ وسط بين الوثنية والمسيحية والإسلام ، لنرَ الشاعر كيف إستخرج تلك الصرخة من خلال نصه الموسوم (الآمـرون بالوطن الحر والشعب السعيد).......
 
بـسـطـاء كـثـيـابِ أبـي ذرّ الـغـفـاري
خِـفـافٌ كـحـصـان عـروةَ بـن الـورد
يـكـرهـون الإسـتـغـلال كـراهـة الشـجـرة لـلـفـأس
ويـحـبـون الـعـدالـة حـبَّ الـعــشــبِ لـلـربـيـع ...
سـيـمـاؤهـم فـي أيـديـهـم مـن أثـر الـبـيـاض
وحـيـثـمـا سـاروا تـنـهـض الـمـحـبـةُ مـن سُــبـاتِـهـا !
عِـطـرُهـم عـرقُ الـجـبـاه ...
ومـثـل تـنّـورٍ يـمـنـحُ خـبـزهُ لـلـجـائـع مُـكـتـفـيـاً بـرمـاده
يـقـولـون : خـذوا
ولا ثـمـة فـي قـامـوسِـهـم كـلـمـة أعـطِـنـي !
لـهـم مـن الـمـطـرقـةِ الـصّـلابـة
ومـن الـمـنـجـلِ حِـدَّتـه
ومـن الـحـمـامـةِ هـديـلُ الـدولاب !
مـنـذ إحـدى وثـمـانـيـن دورة شـمـس
وهـم يُـعـبِّـدون بـأضـلاعـهـم طـريـق الـقـافـلـة
نـحـو الـمـديـنـة الإنـســان !
ـــــــــــــــــ
هنا تميل علينا اللغة هفهافة مزينة بكل تلاوين الدهشة التي قفزت علينا من عنوان النص اللذيذ والشافي لدماملنا, وبنفس الوقت هو عنوان يحمل المقدس المطواع والذي لايشكل أية مفارقة لو شرحناه من بابٍ آخر , شاعر كبير لديه القدرة الفائقة على أنْ يقتبس من المقدس ويجعله في خانة من هم على دروب المادية والديالكتيك ، دون أنْ يسيء ، بل هو أبرز لنا المفاهيم الآخرى من المقدسات لو إستطعنا توظيفها في المكان الصحيح وهذه كلها تعتمد على الفطحلة اللغوية التي يمتلكها الشاعر ومدرس اللغة العربية أيام زمان ، الفطحلة التي تستطيع أنْ تشكل ( المعاني مطروحة في الطريق...الجاحظ) . محمود درويش في يوم إستخدم المسيح في إحدى قصائده وراح يشرح من خلال النص ، المعنى الذي يريده لكي ينال من الأكليروس والشوفينية الدينية التي على غرار مانراها اليوم في التصرف السعودي ضد اليمن . محمود درويش سألوه لماذا استخمدت المسيحية في شرح ماتريده ، فقال إنّ المسيحية هي ديانة مطاطة تستطيع أنْ تفعل بها ماتشاء دون أنْ تتعرض للأذى ، عكس ما تجلبه لي ديانة آبائي وأجدادي فيما لو تعرضتُ لهم حتى وإنْ كان بالسداد والموفقية . حتى لو قلتُ ، أنا أشيد بالآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر . عنوانُ نصٍ رائع فيه الكثير من الجاذبية ، عنوان نستطيع من خلاله أنْ نكتفي بما يأتي ماوراء القصيد ، ولكن حالما تقع أعيننا على أبي ذر الغفاري ، ثم عروة بن الورد ملك الصعاليك ، لانستطيع سوى أنْ نكون ملزمين في إنشاء إنشودتنا الخالدة عن الفقراء والمساكين . نص عدو للكراهية ، صديق للعدالة ، كارها للفأس مثلما الشجر الباسق ، نص ربيعي وجاء بمناسبة العيد الحادي والثمانين لميلاد الحزب الشيوعي العراقي ، وقد كتب فعلا في آذار ( عشب , شجر , ربيع , حمام ,) كلها مدلولات الربيع الصافية صفاء الأيدي البيضاء التي لم تسرق ، بل وليس لديها الجرأة على السرقة مهما كلّف الأمر . نص من خلاله كنتُ أبحث عن نفسي ، وحاولت ، فلم أجد ، غيرأنني بين فراغات أسطر هذه الأبيات الرائعة ، نص يقودني مع جوقة الآمرين بالوطن الحر ، نص صارخ لايحمل المتشابهات كالظلام والصمت ، يعطيني الذريعة في أنْ أكابد وأكابد حدّ اللهاث في أنْ أصل الى المدينة الإنسان ، نص يجعلني مثل (هيلين) وهي تسبح في ماء الخلود تنتظر (زيوس) على مركبٍ هائم ، نص من خلاله لايستطيع المرء سوى أنْ يرسلَ عبر الأثيرإحدى وثمانين قبلة لجبين الشاعر الخالد ، نص سيظلّ صداه عبر الأجيال ، إنه الصدى الذي يرجع منادياً صارخاً بحق الجياع ، قولاَ وفعلاً كما نقرأ في النص أدناه ( رجعُ صدى) .....
 
قـال الـجـائـع : الـقـمـر جـمـيـل ...
لـكـنّ رغـيـفَ الـخـبـز أجـمـل !
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ومانفع القمر الجميل لشاري شابلن في أحد افلامه( البحث عن الذهب) وهو جائع وفقير مدقع فيضطر أنْ يأكل قيطان حذائه وكأنه نوع من أنواع السباكيتي الفاخرة ، وما فائدة القمر الجميل بالنسبة لامرأةٍ صومالية في مقاديشو وقد عرضت قبل أيام من على شاشات التلفزيون وهي تنتقي غذاءها المفضل من أحد أكوام المزابل . ومافائدة النجم القطبي الجميل بالنسبة الى روبن هود إذا لم يسرق من الأثرياء كي يستطيع إطعام الفقراء من لذيذ الرغيف ، ومافائدة القمر الجميل بالنسبة لبائعة الخبز في الرواية العالمية الشهيرة الرائعة . ومافائدة القمر الجميل بالنسبة لتلك الأميرة التي يقال أنها طلبت من الآلهة أنْ يتحول كل شيء تمسكه الى ذهبٍ خالص ، فاستجابت لها الآلهة ، مسكت المشط لكي ترتب شعرها الطويل فتحول الى ذهب خالص ، مسكت الوردة الحمراء ذات الرائحة الطيبة كي تزين بها كتفها فتحولت الى ذهب خالص ، مسكت مظلة المطر لكي تأخذ جولتها الأميرية في المدينة الصاخبة فتحولت الى ذهب خالص ، وبعد التعب والإعياء من الراحة والإستجمام شعرت بالجوع وأرادت ن تأكل فلم تفكر سوى بالرغيف في بادئ الأمر . إنّ الحكاية هذه تضرب للموعظة ، فلم تفكر بالفاكهة أوالحلوى ، الرغيف هو رمز الحياة ، هو صانع الحياة وديمومتها ، هو حلم الجائع على الدوام . فلما مسكت الأميرة قطعة الرغيف تحولت الى ذهبٍ خالص ، وضعتها على أسنانها فتكسرت أسنانها ، وهكذا مضى الحال معها حتى ماتت من الجوع ،فما نفع القمر الجميل بالنسبة للأميرة هذه لو مسكته وتحول الى قمرٍ من الذهب الخالص وهي لم تستطع تذوق الرغيف إكسير الحياة . مسكُ الرغيف يعني الواقع الأخضر ، بينما مسك القمر الجميل هو الحلم البعيد المنال ، هو النظرية الجدباء ، فتحيتي للشاعر القدير والى موسيقاه الشعريةِ التي لاتنضب ، مثلما نطربُ في المعاني المطريّةِ للسطور أدناه .
 
حـلـمـتُ يـومـاً أنـنـي ربـابـة ْ
وكـان مـا بـيـنـي وبـيـن مـعـزفـي
حـنـجـرةٌ تـنـهـلُ مـن بـحـيـرةِ الـكآبـة ْ
وحـيـنـمـا اسـتـيـقـظـتُ
سـال الـضـوءُ مـن أصـابـعـي
وأمـطـرتْ حـديـقـتـي سـحـابـة ْ
ــــــــــــــــــــــــــ
من يحلم بالموسيقى ، عليه أنْ يحذر من أنْ يكون إسطورة ، على غرار إسطورة أورفيوس الشهيرة ، ذلك الموسيقي المعروف الذي كان يغني للحيوانات حد الإفتتان ، هذا الساحر الفنان إستخدم موسيقاه كي يلهي بها حرس العالم السفلي والآلهة كي يستطيع إنقاذ حبيبته ( اورديشي) من الموت ، لكنه لم ينفّذ شرط الآلهة والأشباح في آخر المشوار وخرج وحيدا تاركا حبيبته هناك ، ثم القصة المعروفة لنهايته على أيدي النساء لتركه الموسيقى فمزقن أشلاءه . وهناك من يحلم بالموسيقى على غرار كاظم الساهر فإنه سيكون ملكا لزمانه ، هكذا هي الحظوظ والأقدار، لكن شاعرنا الكبير يحيى السماوي لم يتحقق حلمه في أنْ يكون موسيقيا عازفا للربابة ، فحينما إستيقظ وجد نفسه ذلك الشاعر العملاق الذي تنسال من أصابعه أنهر وبحار من الكلمات ، بل أضواء وأقمار تنير الدروب الحالكة ، وجد نفسه لايعرف سوى أنْ يكون شاعرا ، لأنها هويته وموهبته ولربما حرفته النهائية حتى إنقضاء هذا الكون ، وجد نفسه أديبا شاطرا في البوح ، ذكيا في رسم الصور الكلماتية الخلابة التي تسحر القلوب فتية وفتيات ، وجد نفسه في معترك الحروف ، وعليه أنْ يفضّ نزاع هذا المعترك بأصابعه الذهبية المعطاء ، وجد نفسه حديقة تمطر وابلا من الكلمات ، وجد قلبه عاشقا هائما في تيه اللغة وسحر البيان ، وعليه العزف بالكلمات لا بالموسيقى والألحان ، فالألحان من مهمة الموسيقي ، لا الشاعر ، الموسيقي الذي يلحن مايكتبه الشعراء الكبار على غرار شاعرنا مدار البحث هذا. يحيى ذلك الرجل الشفيف الذي يعرفُ جيداً أين يمطر ، كي يخضرّ الوجود الذي حواليه ، كي تنتصب السنابل ، لنأكلَ الرغيفَ النعيم ، لا الرغيف الزقوم الذي نأكله اليوم بسبب رجال الساسة في بلدنا كما حدّثنا عنهم شاعرنا في رباعيته التهكميةِ الخشنةِ أدناه :
سِــــيّـانِ عــنـدي جَـنَّـة ُّ وجـحـيـمُ
إنْ قــد تــســاوى نـاسِـــكٌ وأثــيــمُ
مانفعُ ضوءِ الشمس إنْ كان الـدُّجى
في القلبِ ؟ أو أنّ الـضميرَ هـشـيـمُ ؟
الـسّـاسـةُ الــتـجّـارُ أصـلُ شــقـائِـنـا
فـهـمُ الـرّزيـئـةُ والـغــدُ الــمـشــؤومُ
إنْ لـم نُـطِحْ بالـمُـتـخَـمِـيـنَ فـيـومُـنـا
داجـي الضـحـى ورغــيـفــنـا زقُّــومُ
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ومانفع الساسة ممن ينتمون الى علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف ( الرصافي) ، وما طعم الساسة إنْ كانوا من القتلة الدواعش ، وماهو حجم جيوبهم وهم سرّاق ، وماهي بقاياهم انْ فضحناهم ورحلوا عن ديارنا . الشاعر يحيى لايداهن ، لكنه ذلك الناسك الذي يكره كل مايشير الى الغلو والعلو الناجم عن الفراغ ، هو ذلك العراقي البسيط كبساطة نهرينا مثلما نقرؤه في النص أدناه( رصيف ونهر) :
 
أنْ أكـون رصِـيـفـاً نـاعـمـاً يـعـبـرُهُ الـحـفـاةُ
أو ســفـحـاً مُـطـرّزاً بـالـشـجـر
خـيـرٌ لـي مـن أنْ أكـون
قِـمَّـةً تـبـنـي فـيـهـا الـنـسـورُ أعـشــاشــهـا
*
الـنـهـرُ يُـحِـبُّ الـوديـانَ
ويـكـرهُ الـقِـمـم !
ـــــــــــــــــ
الرصيفُ يعطينا تأريخً جميع من مرّوا فوق أرصفة التراب في الأزمنة القديمة ، أو فوق الإسفلت في الزمان الحديث ، جميع تأريخ السابلة حفاتها ومنتعليها ، وشاعرنا يحيى يحب حفاتها ، على غرار كونفوشيوس العظيم الذي يقول ( كنتُ أحسد من يمتلك حذاءً , حتى رأيت رجلاً بلا قدمين) ، الرصيف هو رمز الوداعة والإئتمان ، الرصيف هو المضي قدما ، الرصيف هو المستقبل الواعد ، هو الموعد في المكان الفلاني ، هو أنا وأنت حينما نريد العبور منه الى الضفة الأخرى . أما السفوح ، فهي بالضبط تلك التي رأيتها قبل أيام في فيلم جميل يحملُ عنوان ( تشي) أي تشي جيفارا ، إنتاج عام 2014 ومن تمثيل البارع ( بينسيو ديل تورو) في دور الثائر تشي جيفارا والحسناء( جوليا أموند ) ، هذا الفلم يحكي قصة جيفارا الثائر الذي مضى على موته أكثر من خمسة وأربعين عاما ولازالت السينما العالمية تتناول حياته وذكراه ، في هذا الفلم رأيتُ كيف كانت تلك السفوح التي تكلّم عنها الشاعر يحيى في نصه أعلاه ، مليئة بالأشجار البوليفية الباسقة حيث كان جيفارا يتفيأ تحتها ويرسل من خلالها أجمل رسائله ووصاياه الى أكبر الكتاب والمبدعين في العالم ومنهم جان بول سارتر وبرتراند راسل . تلك السفوح التي كان يحيّيها الكبير الجواهري في رائعته ( حييت سفحك عن بعدٍ فحييني ) . أما القمم بتعبيرها الرمزي فهي( القمم الشماء) ، أما شرّها مثل ماحصل مع قمة جبال الألب وارتطام الطائرة الألمانية قبل أيام ،التي مات فيها مائة وخمسون راكب .أما النهر هو الماء وكل مايحتويه من الحياة ، النهر هو الذي يشكل الهيولي القادم من الأزل صوب الأبدية ، النهر الذي نقرؤه في كل الإبداعات للكبار وللمرموقين ، وكيف اتخذ لممارسة الطقوس الخاصة بالأقوام والإستحمام به لغرض تطهير النفس على غرار ما يستخدمه المندائيون في العراق . أو ماقاله أحد القدماء ( لايمكن للمرء أنْ يستحم في نفس النهر مرتين ) . هذا هو الشاعر الكبير حينما يصدح مع النجوم ، نراه بكل سراجه محباً خالصاً ، يتماهى مع الخصوصيات التي ينظر لها من جانبٍ آخر ، والتي خطّت لنا إبداعه الصادم فينا من خلال الجوهرة أدناه ، حيث يوجه صفعاته للمجرمين ( حب من نوع خاص) :
 
يـتـهـمـنـي الـبـعـض بـأنـنـي أكـره جـمـيـعَ الـدّواعش ..
هـذا غـيـرُ صـحـيـح
فـأنـا أحِـبُّ الـدّاعـشـيَّ حـيـن يـتـدحـرجُ رأسُــهُ عـلـى الأرض ..
وأحـبُّـه أكـثـرَ حـيـن يُـحـرقُ وتـكـنـسُ الـريـاحُ رمـاده !
ـــــــــــــــــــــــــ
لو تسنى للشاعر يحيى و لكم أيها القراء ، أنْ تروا فيلم ( زورو) من تمثيل الشاب الأسباني المحبوب ( أنطونيو باندرياس ) والبارع العجوز المجنون ( أنتوني هوبكنز) ، بالمختصر المفيد : البطلان في الفلم يعملان سوية ويتدربان لسنين طويلة لكي يأخذوا ثأرهم من الطاغية الجبار الذي لم يترك رجلا وطفلا الاّ وقتله . وفي يوم قبض على أنطونيو باندرياس وقدم له رأس أخيه محنطا في دورق ، وفي يوم آخر قتل زوجة أنتونيو هوبكنز وسرق ابنته وأدخله السجن لعشرين عاما حتى إستطاع الهروب ، ناهيك عن السجون التي أمتلئت بسببه ، فلابد أنْ يكون للانتقام والثأر طعم آخر بحق هذا المجرم . في نهاية الفلم( زورو) تتحقق أمنياتنا كمشاهدين ، حيث أننا نفرح لإنتصار البطل ، وتتحقق أمنية البطلين (باندرياس والعجوز هوبكنز) وبالشكل الذي يثلج القلب ، مثلما نقرأ أمنية الشاعر أعلاه وحبه في دحرجة رؤوس الدواعش ، السطور أعلاه ، لاتعني حب الإنتقام ، ولا التمثيل ، بل هي إرادة الأبطال أمام شعوبهم ، أمام ماتعاهدوا عليه كما في هذا الفلم ، حيث أنّ الثائرين ( باندرياس وهوبكنز) يمسكان بالمجرم الطاغية في أعلى الناصية ، وفي لقطةٍ مثيرة للغاية حيث أنّ السجناء يُطلق سراحهم كما في الإنتفاضة العراقية لعام 1991 ويتجمعون مطالبين الثأر .. أسفل الناصية الثائران أرادا قتل الطاغية ، لكنهما بدلا من ذلك دحرجاه هو ورأسه الى الشعب الذي تلاقفه في حالةٍ يحبها قلبي وقلبك أيها القارئ وقلب الشاعر وقلوب الآخرين الذين لاقوا مالاقوه من أمثال هذا الطاغية المجرم ، دحرجاه بين مئات المظلومين والمُطلق سراحهم للتو ، المنتظرين لهذه اللحظة الحاسمة التي لابد لها أنْ تحصل ، يموت المجرم الطاغية من الضرب ومن اللكمات أولا ، ومن البصاق ثانيةً ، ولم يلحق أنْ تكنس الريح رماده ، بل الأيادي البيضاء والسواعد السمر هي من كنسته الى مزبلة التأريخ ، وينتهي الفلم بكتابة بطل الفلم أنطونيو، بالسيف وبلون أحمر وعلى طول شاشة الفن السابع ، بكتابة إسم الثائر (زورو) . ولكم تمنينا أنْ ينتهي صدام بمثل هذه النهاية ، لكنها أيها القارئ ، الحظوظ العاثرة للعراقيين وتلك الريح التي تأتي بما لاتشتهي السفنُ .
من خلال هذا الفلم ، هل هناك مبرر لحقوق الإنسان لاحترام مثل هكذا مجرم ، حقوق الإنسان الذي تجعل الرئيس العراقي الحالي يمتنع عن إعدام القتلة الدواعش ، حقوق الإنسان التي تتكلم عنها أمريكا وهي نفسها لاتحترم الإنسان ، تريد من العراق الغاء عقوبة الإعدام وهي تعمل بها حتى اليوم ، وهناك سلسلة رائعة يكتبها هذه الأيام المبدع حسين سرمك حول أمريكا بعنوان ( لاتثقوا بالولايات المتحدة ) حيث فضح أمريكا وألاعيبها بهذا الخصوص ، وكيف كانت تعدم ألأطفال الفيتناميين ، وغيرذلك من إجرامها المعروف للقاصي والداني في كثير من أمصار هذا الكون المترامي . أمريكا تلك الأرض المكروهة من قبل الكثيرين ،(الكاتب البرتغالي العظيم ساماراغو ، عندما وقع من يده كوب الماء ، حين ذكروا له اسم امريكا ووقاحتها أثناء لقاءٍ صحفي ، فقال حمدا لله أنه كوب ماء وليس كوب القهوة الساخن ، فقال له الصحفي ، لعمري أنّ هذا غاية في التفاؤل). وبخصوص هذا الموضوع قد كتب الشاعر من جميل إبداعه ضدّ عدوّة الشعوب أمريكا وماتدعيه من إحترام لحقوق الإنسان ، تلك الإدعاءات المزيفة والكاذبة على مر الدهور :
 
أيها الربّ الرخامي المنتصب كالمشنقة
ليس مشعلا للحرية ماترفعه
إخفض يدك
فالبنتاغون يراه فتيلا لإحراق حقول العالم
والـ " سي آي إيه " تراه سيفا
لإستئصال رقاب مَنْ يرفض الإنحناء لآلهة المعبد الأسود في واشنطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشاعر يحيى يبدو لنا واضحا من خلال ألنصوص أعلاه بأنهُ من مناصري الفئات المعدومة من بني البشر ، من مؤازري القضية الإنسانية العادلة ، إنه الشاعر الذي لايموت ، الذي يحيا مع الإخلاص والوفاء المطلق لكل ماهو صادق ، كما وأنه الشاعر الصدوق مثلما نقرأ في النص السرمدي والملحمي والمهدى الى صديقه الشاعر ( هاتف بشبوش) ، نص( أنا لستُ كلكامش ...لكنك أنكيدو) :
ـ
أنا لـسـتُ كلكامش ... لكنك أنكيدو
" الى صديقي الشاعر هاتف بشبوش "
 
مـثـلَ راعٍ صـغـيـر
أقـودُ قـطـيـعَ أحـلامـي مُتبتِّلاً ...
أنـشُّ بـمـزمـاري ذئـابَ الـوحـشـة
وأسـتـلُّ أضـلاعـي قـصـيـدةً قـصـيـدة
لأعـبِّـدَ الـطـريـقَ لـقـدَمـيـهــا الـحـافـيـتـيـن
****
وكـمـا يـحـتـضِـنُ طـفـلٌ يـتـيـمٌ دُمـيـتـهُ الـوحـيـدة :
تـُطـبـِقُ صَـدَفـَـةُ رجـولـتـي عـلـى لـؤلـؤةِ أنـوثـتِـهــا
خـوفـاً عـلـيـهــا مـنـي !
****
ومـثـلَ راعٍ صـغـيـر
يـقـودُ قـطـيـعُ الـقـُــبُــلاتِ فـمـي
عـائـداً مـن مـرعـى شــفـتـيـهـا نـحـوَ واديـهـا الـمـقـدَّس
لأبُـلَّ عـطشـي بـنـدى زهـرة الـلـوز ...
فـأغـفـو عـلـى سـريـر نـخـلـةٍ مُـتـدثّـرا بـحـريـر غـيـمـة
وسـادتـي هـديـلُ حـمـامـتِـهـا
*****
أنـا لـسـتُ " يـوسـفَ " ...
فـلـمـاذا أحـلـمُ بـبـئــرٍ أســقـط فـيـه ؟
ألـكـي تـضـفـرَ لـي مـن جـدائـِـلِـهـا حَـبـلا ؟
أم لأعـرفَ أنّ لـي أخـوةً أعـدّوا الـدّمـوع طـمـعـاً بـالـمـيـراث ؟
لـيـس لأبـي مـن الـقـطـيـعِ إلآ الـرَّوث والــبـعــر ...
وأنـا لـيـس لـي غـيـر ضـلـعٍ ثـقَّـبَـتْـهُ الأيـامُ فـصـار مـزمـارا !
ولـي مـن الـوطـن : الـتـرابُ الـعـالـقُ بـحِـذائـي !
*****
يـاهـاتـف :
أنـا لـسـتُ كـلـكـامـش ...
لـكـنـكَ أنـكـيـدو !
 
ــــــــــــــ
 
أنا أعرف متى كُتبت هذه الشذرات الفضية الملحمية .. كتبت في لحظةٍ كانت فيها الحروف كلها عارية وما من مدثرٍ لها ، عارية ربُّها ماخلقها ، وصافية مثل صفاء قدميها الحافيتين ، أو مثل ذلك الرجل الذي زرع الأمل في قلب كونفوشيوس ( الرجل الذي بلا قدمين ) ، نصُّ ثلثاه جاءا على السليقة الحقيقية التي لاتتكرر الاّ في ماندر ، ثلثاه إلهياً على تركيبة جلجامش ، والثلث الباقي جاء بكاءً ذارفاً للدمع على فراش أنكيدو وهو البشريّ المريض والعليل والذي ترك بموته الحلقة الكاملة عن الملحمة التي كتب عنها التأريخ بما قرأناه وما لم نلحق أنْ نقرأه , وبما سمعناه من معزوفات آخرها معزوفة الموسيقي الدنماركي (بير نورد ) والتي سماها معزوفة كلكامش .
فكيف لي أنْ لا أطرب على مثل هذه النصوص التي ما إنْ أفتح أزرار الفيس بوك وفي الساعة العاشرة ليلا حتى أجدهُ أمامي ماثلاً يصيح بي إنهض لصديقك الخالد ( يحيى) الذي يمسك مزماره ماشيا على طريق الحجّ الى بتهوفن عازفا بأضلعه كل ماكتبه في النبوغ الشعري لكنه يرفض في اللحن أنْ يكون كلكامشياً ، أنه ذلك الذي أخذ بنصائح سيدوري وظل يشبع أطفاله ويكسوهم جيدا ويكون مبتسما الى زوجه ، ويملأ كرشه ، هذا ماسوف يأخذه من الحياة لاغير . بل هو الراعي في رائعة كزانتزاكيس ( المسيح يصلب من جديد) وقولته الشهيرة ( واجبنا أنْ نقف أمام الهاوية بكبرياء) مثلما وقفها البطل الخالد الشهيد الشيوعي إبن السماوة البار ( ابو ظفر) . أبو ظفر أيضا كان في يوم ما طفلا وله الكثير من الدمى ، وياما وياما كان يحاول أنْ يدخل تلك الحوارية الجميلة بين العمالقة والمشاهير ( ميكي موتو) صانع اللؤلؤ الياباني وأديسون مخترع الضوء ، حيث يقول ميكي موتو الى أديسون : أنت أضأتَ العالم ، فيقول له أديسون : وأنت أضأت أعناق النساء بصنعك هذه اللألئ ياميكو ، فيبكي الإثنان بكاءَ حقيقياً أبكى الجالسين حولهم . كلُّ له دوره في الحياة كما الطفلة اليتيمة التي ذاقت الأمرّين في البؤساء عظمة فيكتور هيجو ، حتى أنقذها البطل جان فاليجان وكان الذي كان ، وعاشت الحياة المراد لها أنْ تعيشها بعد يتمٍ وفقر حتى حصلت على راعٍ لها ( زوج) يقود قطيع القبلات ، ومن لايقبل بهذه المهنة التي ترفل بالهناء ! لله در الكبير شاعرنا يحيى على إختراع هذه المهنة المغناج ، وحينما يعود مساءً من المراح ، يكون الليل قد حط أول بشائره ، يعود الراعي الى تلك الأمكنة التي من يدخلها لابد أنْ يسقط عليها كسقوط الندى ، يلجها حينما يهجع السامرون وهي تهمس في أذنيه على مهلك حبيبي فإنّ شفتيك على مقربةٍ من اللحم المعافى ، اللحم الذي أثار في الرسام العالمي ايغون شلي شبقاً وفناً ، فكان يجثو على طرف السرير يقود قطيع القبلات ، بينما هي ترفع علامة الإنتصار بفخذيها . هنا الراعي لايحلم ، بل هو في البيدر يحصد كل ما جناه . وحينما يحلم فإنه يحب الحلم النابض بالحياة لا الحلم المنتحر . لا أصيّر نفسي يوسف ، دع الحياة كما هي ، إذا أرادتني أنْ اكون يوسف فبها ، مثلما حصل للشاعر يحيى في حقيقة الحياة لابحلمها ، وأنا أتذكر قصته مع أحد أصدقائه ( وهو بمثابة الأخ) حينما أودعه وإئتمنه على ماله في زمن الطاغية صدام ، وحينما عاد يحيى الى الوطن ، لم يجد غير الهباء والطعن بالسكين ، إنها الأخوّة اليوسفيّة التي لايرجوها الشاعر يحيى . بل هو الشاعر المنخليّ ( المنخل اليشكري) وفتاه الخدر ، فهو تارة رب الخورنق والسدير ، وتارة رب الشويهة والبعير . هو ذلك الشاعر الذي له الضلع المثقوب ، حتى صار أداة موسيقية كما الناي يفيض به أحزانه ، كما القول الدارمي ( متعجب بدنياك نص كلبك زروف / شو كًلبي منخل صار بيه العمى يشوف ) . إنه الشاعر الذي لايملك غير حذاء البدوي الأحمر " محمد الماغوط " : (لايربطني بهذه الآرض سوى حذائي) . إنه الشاعر الذي يعيش الجدلية الأزلية المترابطة التي لايمكن لها أنْ تنفصل حتى لو أراد هو ، حتى لو أسس في هذين البيتين الأخيرين واللذين اختتم بهما شذراته الرائعة ، البيتين الحمّالين من المعنى الكبير ( ياهاتف : أنا لست كلكامش ، لكنك أنكيدو) ، وهل يمكن لكلكامش أنْ يعيش بدون أنكيدو ؟ وهل يمكن لنا أنْ نتكلم عن الملحمة الأسطورية بدون ذكر التوأمين السياميين اللذين لايمكن لهما الإنفصال ( كلكامش وأنكيدو ) لايمكن لنا أنْ نعيش الليل دون المرور بالنهار ، لايمكن لنا أنْ نتنفس دون انْ نشهق ، لايمكن لنا انْ نحيا دون انْ نموت ، لايمكن لنا أنْ نعرف الأسود دون معرفة البياض ، البياض الذي عاشه بمرارة الشاعر الراحل أمل دنقل وهو على فراش الموت في المستشفى ولون البياض الذي أصبح كئيبا عليه ، من الشراشف الى الحيطان . وهكذا هي الجدلية المترابطة التي رسمها لنا الكبير يحيى ، وأنا بدوري كاتب المقال اقول : /أنا لست أمسَكَ ، بل أنت غدي / أنا لست شمسَك ، بل أنت قمري ، أنت المعرّف والمعروف وأنت الشلاّل القادم من جموع البائسين كما نقرؤك في هذه الروائع التعريفية المنحوتة على الجبين من المنحوتات الفضية ( تعاريف) :
الـخـسـارةُ : أنْ أربـحَ الـمـطـرَ والـنـهـرَ والـيـنـبـوعَ
وأخـسـرَ قـطـرةَ الـحَـيـاءِ فـي جـبـيـنـي !
*
الـشــقـاء : أنْ أكـون الـسـعـيـدَ الـوحـيـد بـيـن جـمـوع الـتـعـسـاء !
*
الـطـمـأنـيـنـة : إنّ زنـزانـةً أغـفـو فـيـهـا بـأمـان
هـي أوسـعُ عـنـدي مـن وطـنٍ شــاسـعٍ لا أمـانَ فـيـه !
ـــــــــــــ
الخسارة ، الحياء ، الشقاء ، السعادة ، التعاسة ، الطمأنينة ، الأمان ، كلها تنتمي الى عالم (السوفتوير) أي عالم المعنويات والإنسانيات ، وما يتداركه الإنسان في حقوقه ، ومطالبته في تحقيق أمانيه وأحلامه الضاربة صوب الحياة الحضارية المنشودة التي لاتزال الكثير من بلدان الشرق تفتقر الى أدنى مستوياتها . بينما المطر ، الينبوع ، النهر ، الوطن ، كلها تنتمي الى ميثيولوجيا الأزل والضاربة صوب الأبدية واللانهايات . أما الزنزانة فهي من صنع الأشرار ، يقال أنّ القوانين هي من صنع الأقوياء الذين وضعوها على مقاساتهم كي يستطيعوا السيطرة والحفاظ على ممتلكاتهم من السرقة والنهب والسلب ، فوضعوا قوانين جائرة بحق السراّق واللصوص الذين هم أساسا ينتمون الى طبقة الفقراء ، وزجهم في ما يسمى الزنزانة . العالم حتى اليوم هو مسيطرُّ عليه من قبل الأشرار . العالم اليوم وفي ظل هذه القيم الإنسانية هو أشبه بمسرحية صمؤيل بيكيت الأيرلندي ، بطل مسرح اللامعقول وأشهر مسرحياته ( في إنتظار جودو) بطل المسرحية لايظهر أبدا ، البطل هو الحلم البعيد ، البعيد المنال ، فكيف لنا وسط هذا العالم الشرير الذي يسعى الى الربح دون أدنى حياء ، كما يحصل اليوم في العالم العربي الذي تشرذم كلٌّ في قطبه في سبيل تحقيق غايات مريضة على حساب الآخرين . هرون الرشيد كان يقول ( اينما تمطرين فخراجك لي ) ، لكنه لم يدر أنه الخاسر في النهاية ، الإسكندر المقدوني إحتل اغلب بقاع الأرض ، لكنه في النهاية حينما كان في الصيد ، سقط من الحصان ونظر الى مساحة جسده التي لاتشكل سوى متر ونصف من هذه الآرض الشاسعة ، تراجع عن نواياه الشريرة . أما قول الشاعر يحيى (أنْ أكـون الـسـعـيـدَ الـوحـيـد بـيـن جـمـوع الـتـعـسـاء !) فهي وربي المتضادة مع القول الشهير ( حشرُّ مع الناس عيد) ، فهذه هي الطمأنينة الحقيقية التي يسعى اليها الثائر والشاعر والإنسان البسيط على غرار قوله (الـطـمـأنـيـنـة : إنّ زنـزانـةً أغـفـو فـيـهـا بـأمـان/ هـي أوسـعُ عـنـدي مـن وطـنٍ شــاسـعٍ لا أمـانَ فـيـه !) ، وهذه قد وصفت في رواية رائعة بأسم (كاسبار هاوزر) لا أستطيع تذكر كاتبها ولكنها تحكي قصة طفلٍ تربى في عرين الأسُـود ، كان مدللاً بشكل رومانسي مثير ، حتى كبر وترعرع على لغة هذه الوحوش الكاسرة التي لاترحم ، هذه الوحوش التي إذا ماجاعت تأكل بعضها البعض . وفي يوم كان الطفل الذي كبر قد خرج من عرين الأسود وتمشى في المراح الواسع ولم يدرِ انّ قدميه أخذتاه الى عالم المدينة ، أي عالمه الحقيقي الذي لابد له أنْ يعيش فيه ، عالم الإنسانية ، لكنه لايتكلّم ولايعرف النطق ، فتجمهرت حوله الناس مندهشة منذهلة من هذا الإنسان الغريب ، فبدؤوا يرمونه بالحجارة ومالديهم من الأدوات الجارحة ، يصرخ يتألم ويئن ، وما من رحمة أو شفقة ، فوجد نفسه سجينا في هذا العالم الفسيح ومن قبل بني جنسه ، متعذبا ، مكروها ، حتى رجع أخيراً الى عرين الأسود ، الزنزانة التي كان فيها مدللا وسط هذه الأسود ، الزنزانة التي جعلته يشعر بالطمأنينة والأمان . رواية أعطتنا من الرسالة الحقيرة لبني البشر ومايفعله مع بني جنسه ، مثلما يحصل اليوم من عراك رهيب وقتل وتشريد ، كلّه يحصل على أيدي من إستباحونا وجعلوا منا أمةُّ ذليلة لنقرأ ماجاء على لسان الشاعر في ( رباعيّة) .....
 
بُـعـدي عـن الـحـزنِ لا قـُـربي مـن الـفــرَحِ
شـلَّ الــسُّـلافــةَ فـي ثـغــري وفـي قــدَحـي
تـعـشـو الـضُّـحـى مُـقـلـي إنْ زارَ جـفـنَـهـمـا
طـيــفُ الــفــراتِ وقـد أضـحـى عـلـى تــرَحِ
ويــحَ الــذيــن اســـتــبــاحــونـا بـألــفِ يــدٍ
مـجـذومـةِ الـنـبـضِ قـد شـُـدَّتْ إلـى شـَـبَـحِ
لا لــيــلُ دجــلــةَ يــقــفــو نـجــمَـهُ سَــمَــرٌ
ولا الــــنـــهـــارُ تــزيّــا بُــردةَ الـــقـُــزَحِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لو نقرأ مظفر النواب والجانب الفلسفي الكبير في ( تعب الطين ، تعب الطين ، تعبَ طينك ياالله) ، لوجدنا انّ الحزن هو الأشد التصاقا ببني البشر منذ الصلصال الأول ، الذات الأنسانية حزينة على الدوام لكثرة تبادل الموت والميلاد ، فبعد كل ميلاد حتما هناك موت ، والموت لايخلف غير الحزن ، فمازال العدم هو المستقبل المنتظر لنا ، فنحن على الدوام متعبين ونردد مع أنفسنا ( تعبّ طينك ياالله) مع إدراك الذهن لهذه الجدلية المخيفة . وهنا نرى يحيى السماوي بفلسفته الخاصة وبعده الثقافي ، حتى وإنْ إقترب من الفرح ، وأشد فرحنا نحنُ كعراقيين هي أماسينا ورفع الأنخاب مع الحشر الجميل من الأصدقاء ، مع السلافة (الخمر اللذيذ ، بل الأشد طعما وذوقا) ، وحتى مع هذه الأجواء ، نرى العراقي لايمكن أنْ تكتمل سكرته ونشوته والوصول الى نرفاناه الخصوصية مع الترنّح ، الاّ مع الحزن ، ولذلك نرى العراقي حينما يثمل يتناول الدارميات حتى وإن كان لايفهم في لغات الشعر ، لايمكن أن تشتغل ( السلافة) في الرؤوس الاّ مع الأتراح ، لايمكن أنْ نرى الكأس مليئة بدون أنْ يدب في أحشائنا همٌّ وغمّ ، عجيب غريب حالنا كعراقيين ، ولم يكن الشاعر يحيى في هذه الرباعية غير نسّاجٍ رهيب ، غير حرفيٍ ماهرٍ في صنع سجاد الشعر ، حتى وإنْ أعشى في الظهيرة ، وكأني أرى (الأعشى) بعينه وهو يبوح لنا ماهو خارج عن العقل ، خارج عن معطيات النهار وتلازم الغشاوة فيها بدلا عن الليل وحلكته . صورة من قبل الشاعر تحفزُ فينا ، اننا ومن كثرة أحزاننا وهمومنا أصبحنا نرى في الليل لكثرة اللصوص من ذوي في بلادنا ، نراهم حتى وإنْ كانوا أشباحاً( ويــحَ الــذيــن اســـتــبــاحــونـا بـألــفِ يــدٍ /مـجـذومـةِ الـنـبـضِ قـد شـُـدَّتْ إلـى شـَـبَـح) ، بطرس الأكبر قيصر روسيا في القرن السابع عشر سن قانونا ضريبيا على كل من يسعى ويقوم بإطالة لحيته سواء إنْ كان من رجال الدين أو من عامة الناس للتخلّص من أكاذيبهم وخداعهم في اللصوصية . أما في وضح النهار فهم معروفون للقاصي والداني ، فلا ضير إن أعشينا وأصابتنا الغشاوة عنهم . في دراسة عن الإنسان وهمومه وصراعاته ، وجد العلماء أنّ الإنسان يتبع الى نوعين من القردة ، نوع يسمى الشمبانزي ، وهذا يقوم بالدفاع عن نفسه وأحيانا يقوم بالقتل إذا ما أجبر على ذلك ( هذا النوع هم سياسونا ومستبيحونا سفلة اليوم ) ، أما النوع الثاني هو ( البونوبو) وهو الأقرب الينا نحن محبي السلام والتعايش ، وهذا يقوم بممارسة الجنس في حالات الإعتداء عليه ، أي إنهم إذا إجتمعوا وتخاصموا يقومون بالمضاجعة للتكاثر والتناسل بدلا من القتل ، ولكن الغريب في الأمر أنّ ( البونوبو) في حالة إنقراض ، بينما الشمبانزي ( سياسيونا اللصوص) باقٍ حتى الآن بأعداد هائلة ، وهذا مايفسر حزننا وبؤسنا وبكاءنا على حالنا كما في الرباعية أعلاه التي جادتْ في إعطائنا موضوعا فلسفيا بحتا يليق بشاعر كبير ، ديدنه الدائم أنْ يفضح كل من جاء يعترك على مقاليد الحكم والنفط الذي جلب لنا النقمة على مر السنين الغابرة ، وقد أتحفنا الشاعر برائعته التي تخص الموضوع ( النفط) :
 
الـنـفـطُ الـذي لا يـمـلـكُ مـنـه الـفـقـراءُ إلآ الـسّـخـام ...
الـنـفـطُ الـذي أشْــبَـعَـنـا جـوعـاً : مـتـى يـجــفُّ ؟
سـنـبـقـى نـنـزفُ دمـاً حـتـى آخـر بـرمـيـل نـفـط !
هـو لـيـس عَـسَـلاً
فـلـمـاذا يـتـقـاتـلُ مـن أجـلِـهِ ذبـابُ الأبـاطرةِ والـلـصـوص ؟
ــــــــــــــــــــــــ
 
هؤلاء يلعبون معنا لعبة مصاصي الدماء وليس على غرار دراكولا ، هذا رومانيٌّ مات منذ قرون ، بل على غرار تلك الترسانة السينمائية التي تعترف وتوثق كل الجرائم الكبرى عن هؤلاء المصاصين و مدى حبهم للجشع والقتل الذي من ورائه يأتي المال ثم المال ولتذهب الإنسانية الى الجحيم ، إنهم أحفاد آدم سميث ذلك الرجل الذي غدر بأعز أصدقائه حيث كان آدم سميث يدرّسُ أبنَ صديقٍ له , فتركهُ لكونهِ فقيرا وذهب الى أحد ألأثرياء طمعا بالمال ، ومنذ تلك اللحظة بدأ رحلته في نظرية الإقتصاد الرأسمالي الجشع ، حتى ورّث لنا هذه الأنظمة الرأسمالية المشوّهة . بينما ماركس وانجلز وجينا زوجة ماركس كلهم أثرياء ، تركوا عالم الثراء وعاشوا في أزقة الفقراء لنصرة قضيتهم المستمرة حتى اليوم . لذلك فإنّ هذه الأمة إذا لم تجد لها مأرباً وخلاصاً ، فإنّ هؤلاء الوحوش سوف يمتصون دماءنا حتى آخر قطرة منها ، ولن يبقى لنا غير السخام الذي نزوّق به وجوهنا كي نكون مثل ذلك الرجل الإعرابي الأسود الذي يشبه سواده سخام المدفأة ذات الفتيل ( الجولة) فمرّ عليه الأصمعي وقال له ما اسمك يا أخ العرب ؟ فقال الإعرابي إسمي زيتون ، فنظر الأصمعي جيدا فلاح له أنّ الزيتون أسودَ ولاغبار على ذلك ، لكنه يحتوي على لمعان ، أما هذا الإعرابي الأسود فليس له لمعان سوى سخام ( الفتيل) فقال له الأصمعي ( سمّوكَ زيتون وما أنصفوا / لو أنصفوا سمّوك زعرورا .... لأنّ في الزيتون نوراً يضيء / وأنت لاضوءا ولا نورا ) . أنا أعتقد أنّ من يمتلك النفط سوف يكون مثل هذا الذي يدعي بإسمه زيتون ، مثل السعودية التي تدعي بأنّ لها وجهاً لامعاً حضارياً ، بينما هي في حقيقة الأمر كلها عبارة عن وجوه سوداء مغبرة على مر التأريخ . هؤلاء لم يكن لهم من موقف مشرّف أبدا ، غير أنهم خلّفوا وراءهم الكثير من القصص السيئة والتي كتب عنها الكثيرون من الشعراء في ومضاتهم ومطولاتهم ، الومضات التي على غرار ماكتبها الشاعر يحيى ، أنها الومضات العذبة بالنسبة لنا نحن أعداء الرجعية ، بينما هي وصمة عار في جبين كل الطغاة ، لنقرأ هذه الأسطر التي خطها لنا الشاعر بعنوان ( ومضة) :
 
 قَـصُّـوا فـمَ الـصَّـعـلـوكِ
خـشـيـةَ أنْ يـقـولَ لِـصـاحِـبِ الـعـرشِ الـمـقـدّسْ :
لـو لـم تـكـنْ كـالـصَّـخـرِ أخـرسْ
لـم تـجـعـلِ الـمـتـحـدِّثَ الـرسـمـيَّ بـاسـمِـكَ فـي الـحـواراتِ :
الـمُـسـدَّسْ !

مادام أمامنا مسدس فهذا يعني أنّ هناك ومضة موتٍ قادمةً لامحال ، أنً هناك رصاصا مقبلاً صوب الأجساد البريئة وغير البريئة على السواء ، صوب الجباه والقلوب ، إنّ عزرائيل يدور حول رياضنا ولانعرف من ستنكسَر سنابله في الحين ، مادام هناك فوهة لقذف الحمم ، فلابد لنا أنْ نستكين كي نستفهم ماالذي سيحصل ، مادام هناك زناد فعلينا أنْ نعرف على مَن سيُطلق الرصاص . في فيلم همنغواي كيلهورن ( همنغواي وحبيبته الصحفية مارتا كيلهورن) ظهرت هناك بندقية معلقة في الحائط ، فكانت هذه البندقية تريد أنْ تقول لنا ، لابد أنْ يكون المشهد القادم مشهداً للموت ، وبالفعل يمرض همنغواي ويشتد مرضه وفي لحظة يأسٍ قاتلة قام همنغواي وسحبَ البندقية ووضع الفوهة على حلقه وكان الإنتحار الذي أدى بموت أشهر روائي وصحفي في ذلك الزمن الرومانسي . مادام أنّ هناك شاجوراً وبيتا لترباس البندقية فعلينا أن نختبئ خلف متاريسنا وبيوتنا كي نحمي أنفسنا من شرور الإطلاقة القادمة التي تنوي قتلناعلى أيدي الصخور الخرسان ومتحدثيهم المجرمين ، لكنهم غير قادرين على أنْ يلجموا الومضة القصيدة التي أقرؤها الآن للشاعر يحيى ، الومضة التي تشعل فينا كل معاني الثورية والإصرار والتحدي . مادام هناك رصاص ، يعني هناك متطرفون مثل أولئك الذين قتلوا المغنية الباكستانية ( غزالة جاويد) ظنا منهم أنهم سوف يقتلون الأغاني ، وقد كتب عنها صاحب المقال هذا ( هاتف بشبوش) نصّـه :
هدئي شَدوَكِ ياغزالة
فالرصاصُ
صائمُّ وجائعُّ وعطشُّ
ياغزالة
هدئي لَحنَكِ ياغزالة
فالليلُ غفا
على تسبيحِ طبولِ القتلِ ياغزالة ..
النساءُ ياغزالة
لاتعرفُ سوى أنْ تكتبَ أسماءها
بأحمرِ الشفاهِ
بينما هم
كتبوا حُبَ اللهِ بالرصاصِ
على لحم جيدكِ المعافى ياغزالة.
كلنا كذكور نهب لنصرة الجنس الآخر اللطيف ، لكونها النصف الآخر الذي يشكل أجزاءنا وكل منحياتنا في الحياة ، إنها السراج الذي يلمع في سماء حياتنا على طول إمتدادها ، وهذا مايؤكده لنا الشاعر يحيى في تعبيرهِ الآتي :
 مثل ضريرٍ يرى الطريقَ بعصاه :
أرى تضاريس جسدكِ بأصابعي ..
أجوب جباله ... سهوبه ... ووديانه ..
مهتدياً بقناديل عبيرك وشموس دفئك !
ــــــــــــ
نعم ضريرُّ ذاك الذي يدخل متاهات اللذة في الظلام ،عجيب غريب أمور أنثانا ، لاتحب أنْ يبدأ الغزل إلاّ بالظلام , ومن منا لايعرف هذه الحقيقة ؟ هذا دأب تعلمه كلًٌّ من الذكر والأنثى منذ القدم للإحتماء ، حيث كان الحب يتم في الكهوف أو في المغارات بعيدا عن أعين الناظرين .أما اليوم ، تغلق الستائر ، تفتح مصابيح المنام الخافتة وتطفأ الأنوار المشعشعة ، يسود الصمت ، يقل الكلام ، ولا يبقى سوى الهسيس , ثم يبدأ التجريد قطعة قطعة ، ثم مرحلة التجوال في معالم المجاهيل الخفية ، وكلها يتم الإستدلال عليها بالعصى( بالأنامل والراحتين) لا بالعيون ، بالقلب لا بالتحديق والزوغان ، بالإحتكاك لا بإختلاس النظر ، بالوصال الرهيب الذي يدلنا على كل المتاهات الجسدية الرخيمة ، على كل الأخاديد الناعمة ، على جميع اللحم المعافى ، على أروع مارسمه بيكاسو وما خطه لنا ريتسوس في قصائده الأيروتيك ، على الوادي المستقيم الماثل أمام إنتشائنا ، على كل القباب المرمرية التي ضحكت في صدر لوليتا نزار قباني ، على الأديم الأملس الريان . كل ذلك يتم ونحن نستدل بسراجها الضئيل المنبعث من دفء سريرها وأقراطها وأساورها الفضفاضة لا بسراج مقلنا الدفينة بين الظلام . يحيى مثلما هو شاعر الجياع والسياسة منذ الصبا ، هو شاعرالمرأة بشكل دونجواني مثير ، حينما نقرأ غزلياته نحس وكأنه كازانوفا السماوة ، لكن الحقيقة ليست كذلك ، هو الشاعر الذي لديه حبه الأوحد ، هو الشاعر القادر على أنْ يستفزنا في كل تبتلاته ، بمستطاعه أنْ يثير فينا كل النوازع التي من شأنها أنْ تجعلنا نحب النساء بما يرضي مبادئنا وعقولنا لا أهواءنا الرخيصة التي لايسجلها التأريخ ، إنه الشاعر ذو القلبين كما نقرأ أدناه :
 
أيـتـهـا الـمُـتـبَـرِّجـة ُبـنـبـضـي
الـمُـعـطـَّـرةُ بـتـبـتـُّـلـي :
قـبـل أنْ تـسـكـنـي قـلـبـي
لـم أكـن أعرفُ أنَّ لـقـلـبـي قـلـبـا !
هكذا هي استراحة المقاتل حينما يتعب ويهدّه السيف فلابد أنْ يربط الفرس في مربطه كما قرأنا وعرفنا لأبطال الملاحم ، فتراه يأخذ قسطا من الراحة مع النصف الثاني من القلب ، مع إمرأة الحلم الأبدي التي لاتغيب عن أي مشهد مع الفرسان ، فنرى الفارس ماركوس أنطونيوس يستريح عند أحضان كليوباترة ، أوديسيوس بين ذراعي حبيبته بينيلوب في إيثاكا ، فالانتاين وسيليفيا ، باريس وحبيبته هيلين في إلياذة هوميروس وغيرهم . أما ألأديب هو الآخر له إستراحته التي لابد أنْ يأخذها ويذهب بعيدا عن السياسة التي أتعبته حينا من الدهر ، مع هذا البلد الغارق في العنف والتشويه ، الذي تشعبت أموره وسط شلّة من السفلة المنحطين ، فيذهب الأديب في إستراحته كي يرينا من سطوعها النير ، كي يمدنا بالشميم وشذاها الطيب ، كي يكون النبض أكثر من المعتاد ونحن بالقرب من وترٍ حساس إسمه أنثى السعادة ، وها أنا أرى الشاعر يحيى يستمد الراحة والإستراحة من تبرّج وجهها الجميل المعَطر ببتلةِ السماوي البارع في وصفها أعلاه. فما بالنا إذا كانت أنثى السعادة أمهاتنا ومايدور حولها من الفناءات التي لايمكن نسيانها ، لنقرأ عبقرية الشاعر في فلقته الأمومية ( دخان) :
 
 
أكرهُ الـدخـانَ ـ بـاســتـثـنـاءِ دخان تــنـُّـور أمي ...
فـهـو الـدخانُ الـوحـيـدُ الـذي لـه رائـحـة ُبـخـور الـمـحـاريـب
وبـهـاءُ قـوسِ الـقـُـزح !
 
يعني بمستطاعنا أنْ نقول على غرار ماقاله الكبيرمحمود درويش (أحنّ إلى خبز أمي / و قهوة أمي / و لمسة أمي / و تكبر في الطفولة يوما على صدر يوم )... كل مايقوله الشاعر هو عبارة عن ذاكرة ماضية ، قريبة او بعيدة جدا ، لولا الذاكرة لما عاش الشاعر العمر الذي يصب فيه كلماته على الورق كي يستريح من حالة أصبحت مشحونة في أعماقه ودواخله ، فلابد لها من التفريغ الآني . أحيانا نترك كل مافعلناه سيئا أو خيّرا على المرآة .. الإنسان بطبيعته عاشق للمرآة بقدر النرجسية التي يحملها في حب الذات ، فيظل ينظر في المرآة ، يتكلم معها في الصمت ، يترك أفلاما تخص حياته وتعيش هذه كلها في داخل أو فوق سطح المرآة ، لكن المرآة كما يقول ( واسيني الأعرج) ليس لها ذاكرة ، لو كان للمرآة ذاكرة لفضحتنا . لكننا مجبولون من الذاكرة ، كما هذه الرائعة التي نقرؤها عن الأم ودخانها ، هي في الأساس مصنوعة من الذاكرة التي نسجت كل أغصانها من الطفولة والصبا ، حيث هناك الأم وكيف كانت تداعب كل مانرتديه أو مانطلقه من الأحاسيس . الدخان هو ذلك السمت الضبابي الخانق المانع للحياة والطارد للأوكسجين ، القاتل لامحال لو ظل فترة من الزمن ، القاتل للبعوض كما أيام زمان ، والقاتل للبشرية في هذه الأيام كما دخان الدواعش ، أو المدمر كما دخان الحروب ، أو المزلزل كما دخان البراكين ، أو كما القول الشائع لدينا ( بس دخانك يعمي) . يعني بالمختصر لا أستطيع أنْ أجد دخانا أحبه أو أنْ أعيش بالقرب منه سوى دخان السجائر بالنسبة لفئةٍ كبيرةٍ من المدخنين وهذا نسبي إذا ماقورن بالدخان الذي حدثنا عنه الشاعر يحيى في هذه الشذرة الحنونة لأمهاتنا ( أكرهُ الـدخـانَ ـ بـاســتـثـنـاءِ دخان تــنـُّـور أمي) . أنه حب الأم (ذلك الحب الحر والطليق كدخان القلب .... شكسبير) ،أنها الأم وماتحت أقدامها من الفردوس ، وحتى هذه أنبأنا بها الشاعر ، أجادنا عن النساء بشكل عام بما فيها الحبيبة والأخت في بوحه الذهبي ( تفاحة الفردوس الأرضي) :
 
خـفـيـفـة ُّ كـجَـبَـلٍ فـي لـوحـة ...
ثـقــيـلـةٌ كـحـصـاةٍ صـغـيـرةٍ فـي جـيـبِ قـمـيـصـي ...
مـلـيـســةُّ ُّ كـمـرآةِ عـروسٍ قـرويـة ...
خـشــنـةٌ كـلِـحـاءِ شـجـرةٍ يـابـسـة ...
هـادئـة ُّ كـالـنـعـاس ...
صـاخـبـة ُّ كـالـقـلـق ...
قـريـبـة ُّ كـالـشـمـس مـن عـيـونـي ...
بـعـيـدة ُكـقـلـبـي عـن يـدي ...
مـنـذ سـقـوطِـهـا فـي حـضـن " نـيـوتِـن "
والـتـفـاحـة ُّ لا تـُحـرِّكُ مـاءَ الـبـحـيـرةِ الـسـاكـنـة !
فـلا تـعـجـبـي لِـتـنـاقـضـي
مـادام أنّ خـريـفـي تـمـاهـى بـربـيـعـك ...
فأنا وطنُّ عاصمتهُ أنتِ!
أكـلُّ هـذه الـبـحـار والـجـبـال والـصـحـارى الـتـي بـيـنـنـا
ونـحـن أكثـرُ اقـتـِـرابـاً مـن شــفـتـيـن مـضـمـومـتـيـن ؟!
 
نزار قباني حينما سألته إمرأة عن كل التحف التي كان يكتبها وكيف له ذلك المخيال العجيب الغريب ، فقال : ياسيدتي أنا كل مافي الأمر لديّ القدرة على إظهار الجمالات التي في جسمك وروحك وأكتبها على الورق ، فالفضل كل الفضل لها . لكنّ شاعرنا الكبير يحيى دخل الى عالمها بكل ماتملكه من سحرٍ فياّض ، بما لديها من فردوس بتفاحه الطازج سواء إنْ كان على الشجرة أو المعفر الأرضي ، أو تفاحة آدم . بما لديها من جبالٍ عجينية الملمس محروسةٍ بخصالها الليلية فوق الصدور ، بما في حجرتها القروية من مرآة لم يدنسها الآخرون سواها ، مرآة لاتحوي من الذكريات غير صورة وجهها الطافح لمعانا وبهاء ، بما يهدأ حول ملاءاتها الليلية من نعاس . تلك الحبيبة القريبة البعيدة كالشمس المفروشة على سطوح ديارنا ، أوقات ما تنادينا أمهاتنا للنهوض باكرين . أنها المرأة الممغنطة حبا وشغفا وجاذبية ، إنها لم تسقطُ في حضن نيوتن ، انّما لما فيها من الجاذبية الكهرومغناطيسية جعلت من القطب القريب لنيوتن ممغنطا فسقطت في الأحضان . إنها الأغنية الهندية الأسطورية التي تقول( إنّ الأرض لنا والسماء لنا) فمهما ابتعدتْ واختفتْ بين الجبال والبحار فهي من ضمن أرضنا وسمانا ، هي القابعة في الوصال الممتد بين العين والقلب ، مثلما نرى في الكلمات الفسفوريةِ أدناه ( عطش) : 
أيـتـهـا الـمُـتـبَـرِّجـةُ بـنـبـضـي ...
الـمـمـتـدةُ مـن أغـصـان أحـداقـي حـتـى جـذور الـقـلـب ...
الـمُـعـطـَّـرةُ بـتـبـتـُّـلـي :
لـمـاذا كـلـمـا شـربـتُ من زلال نـهـرك
أزدادُ عـطـشــا ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
لون السماء لايتغير أينما ذهبنا ، وهاهو يحيى السماوي يتنقل بين الواق واق في تخوم استراليا والسماوة حيث مقهى فائق وعبر كل المحيطات ، وكأنه الشخصية الكوزموبوليتية . وحينما يحس بيباس الريق ، لايليق به غير ريقها العذب وشهدها وماء جبينها ، ولايرتوي الاّ بكأسِ ماءٍ قراح من يديها الصافيتين ، وكلّما يحدقُ في نجوم عينيها صامتا واجما منذهلا ، أراد المزيد من التحديق والنظر مثلما قال الكاتب الأنكليزي الشهير شكسبير (في الليل لايغني العندليب/ ولايمر عليّ النهار / إذا لم انظر في وجه سيلفيا) أو قول جميل بثينة ( لا والذي تسجد الجباه له ، مالي بما تحتِ ثوبها خبرُ / وبفيها وماهممتُ بها الاّ الحديث والنظرُ) . حينما يعطش الشاعر الحبيب راجيا اللقيا بعد طول غياب , وحينما يتحقق له ذلك ويفتح أزرار الزيق يحترق حبا وشوقا ، والذي يحترق يزداد سخونة وتعريقا وجفافا في الريق ، وهكذا هي دورة الحب والأشتياق ، وهكذا هي الحياة في دائرة الصبابة ، دائرة مغلقة لكنها لاتحتوي على الروتين الممل ، بل كل يوم عطش وعطش وعطش دائم ، حتى يسقط في فراشه عليلا بداء الحب وما من شفاء سواها ، تظلّ على مقربة من كل جوانحه ، تمسد الجبين وهي الطبيب المداويا ، لكن النتيجة مامن ضحايا سوى من يعنيه الأمر ، وهو الشاعر نفسه فقط ، وما للآخرين من لومٍ وعتاب ، لنرَ الشاعر وإدانته المطلقة للذات المجرمة ، ولكن أي جرم وأي جريرة إرتكبها الشاعر الشفيف والبريء والضحية ، لنرَ الشاعر والتهم الموجهة اليه من خلال الأسطر أدناه ذات المعنى الكثير والقصيرة حروفا والجميلة شكلا في شذرة ( مجرم) والتي يدين بها نفسه فقط : 
أنـا أخـطـرُ مـجـرمٍ فـي الـدنـيـا ...
لـكـنَّ الـذي يُـمـيِّـزنـي عـن كـلِّ الـمـجـرمـيـن
هـو أنَّ ضـحـايـايَ هـم : أنـا وحـدي !
ــــــــــــــــ
الجنون الذي ساق قيس بن الملوح الى مثواه الأخير ، لم يأخذ غيره معه ، الاّ بعد حينٍ من الدهر حيث التحقت وراءه ليلى حسب ماتقوله الرواية المعروفة ، فما من ضحايا سوى الشاعر يحيى حينما يسهر الليالي في سبيل إعلاء كلمة حب تبقى تصهل عبر الدهور . ورغم كل ذلك المصاب والشقاء وجلد الذات أحيانا ، الشاعر يندم لأنه قد تسبب في زرع بذرة الحزن في قلب من أحبها حسبَ مايعتقد ، فهو هنا على خطى الكثيرين من الشعراء الكبارعبر التأريخ ، لنقرأ كيف كان الشاعر في رائعتهِ ( ندم) :
 
نـهـرُكِ الـذي شــرَبْـتـُـهُ قُــبــلـةً قُــبـلــةً :
ذرَفـْـتـُـهُ نـدَمـاً دمـعــةً دمـعـة
حـيـن أحـزنْـتُـكِ ذاتَ جـنـون !
 
هنا الشاعر يهرب من الإستقرار ، كل شئ لديه متحرك دائما وأبدا ، لاينهل من ماء النهر مرتين ، وحينما نقرؤه نرى القيم والأبعاد الرومانتيكية في أكثر أعماله . نراه هنا في هذه الندميّة الحزينة النازفة والذارفة حتى الوشل ، نراه فارترياً متألما ( آلام فارتر ... غوتة) فارتر ذلك الشاب الذي أعطى تلك الأمة في ذلك الزمان الكلاسيكي العذب وحتى اليوم درسا في التضحية ، درسا في الحزن الساحب لكل دمعةٍ بقيتْ في المآقي ، ذلك الشاب في تلك الرواية التي ظلّت أصداءها تتناولها الأجيال لما فيها من ندمٍ وحرقةٍ على فراق حبيبٍ قد ذهب وخلّف وراءه إستحالة الرجوع ، تلك الرواية وذلك الزمن وأؤلئك الشباب الذين لم نجد لهم شبيها اليوم .. لم نجد ممن يذرف الدمع وهو يهيل التراب على الجسد الهامد لحبيبة القلب التي يأسف حبيبها لأنه لايستطيع في أوان الوقت أنْ يعتذر لها عن الجنون الذي سببه لها عن غير قصد ، لايستطيع أنْ يقدم البدائل التي من شأنها أن تكون المعجزة في إحيائها مرة اخرى ، لايستطيع غير أنْ يفعل مايفعله النادرون اليوم من أمثال الشاعر يحيى ، وهو يحاول أنْ يعيد الشرف الفارتري المؤلم والمخلص والوفي حد اللعنة ، الى حبيبٍ قد أرغمه الدهر على أنْ ينام في العميق والى الأبد .
 
يحيى السماوي في سطور ...
يحيى السماوي أشجعُ شاعرٍ في جعل اللغة تنحني أمامه لمجرد إشهار نصل التحدي فنراها مطواع يديه وقلمه، فلايمكن لنا أنْ نقرأ يحيى من دون اللغة وفي اللغة ذاتها . أنه يخلق لنا جيلا جديدا من المفاهيم والمعاني التي لاتخطر على بال من يقرؤها ، انه معلم في مدرسة الشعر العليا كما هو في الحياة ، له من الدروس الكثيرة التي تقوّم الأنانية واللامبالاة وعدم أحترام الأنسان . يحيى ينظر بعين المأساة والواقعية الشديدة ، بارعُ في إكتناه الأوجاع الجلية لشعبه بشكل مثير للغاية ، يكتب الآيروتيك لابقصد الأثارة وانما بقصد العمل الادبي الوجداني بحد ذاته ، وإعطاء الجنس اللطيف بما يستحقه من مستحقات إنسانية محضة ، لايحب التفخيم ولا التضخيم في هذا الفردوس الإنثوي . يحيى له من النوازع الرومانسية ما تجعله متفوقا بشكل كبير على الآخرين في غزلياته ، كما هو حال (هاينرش هاينه) الشاعر اليهودي الألماني 1797 ـ 1856 وهو أهم شاعر ألماني بعد غوته ، والذي كان ينشر أكثر نتاجاته في الصحف التي يحررها( كارل ماركس) . المدّ التقني في قصائد الشاعريحيى يصل الى درجة الجمالية الخلاّبة ، أما البعد المعنوي فإنه يشكل الركيزة الأساسية لجميع أعماله ، أما الوضوح فإنه عمود أساسي من أعمدة وأركان القصيدة اليحيوية المذهلة . يحيى رجل لايطلق أحكامه على الآخرين جزافاً ، لكنه يتآزر مع قولة علي بن أبي طالب ( كن من تكون فأنت من تراب والى التراب) . يحيى له القدرة على سحرالقرّاء واستمالتهم وهذا هو دليل ذكائه وفطنته . أما دأب الشاعر الممارساتي والشخصي فهو مدخن شرهُّ وعلى غرار الروائي الألماني الشهير الحائز على جائزة نوبل (إريك ماريا ريمارك) حيث يقول ( حمدا لله هناك سجائر ، فهي أحيانا أفضل من الأصدقاء ، لاتوقع الإنسان في حيرة ، إنها خرساء وطيبة) . في النهاية أقول الى رمزنا، الشاعر يحيى ، ماقاله (بالاماس) في رباعيته الى (يانيس ريتسوس) ...( نتنحى أيها الشاعر ، كي تمر أنت) .
 
 
هــاتف بشبــوش/ عراق/دنمــارك
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى