

تنظير القصة القصيرة: رافد إبداع ومصدر نقد
كثيرا ما سمعنا، وقرأنا في السنوات القليلة الماضية، أن القصة القصيرة أمست خطابا يعاني أزمة التلاشي، لاسيما بعد رحيل كثير من كتابها إلى الرواية، وهيمنة هذه الأخيرة على الساحة الإبداعية، إلى درجة أنها نصبت سيدة الزمان، فترددت عبارة (زمن الرواية) كثيرا في المنابر واللقاءات الأدبية، عن غفلة أو جهل، لكن زخم كتابة القصة القصيرة، ونشرها نصوصا ومجموعات، مما عرفته الساحة الإبداعية المغربية والعربية مؤخرا، قد كذب هذا الادعاء، مدعما بالحاجة الماسة للتعبير الكثيف المركز، عن روح العصر الذي نعيش سرعته الفائقة المحيرة.
ومع ذلك أضحى السؤال التالي يفرض طرحه، خاصة وأن ما ينشر في المنابر المختلفة بإسهال، وما يصدر في مجموعات قصصية بغزارة، ليس كله مدعاة للانتماء إلى هذا النوع السردي السهل الممتنع، بسبب افتقاره إلى النضج الفني المقبول، مما يوحي بأنه ربما كان في أحسن الأحوال، مجرد تدريب على الكتابة السردية، أو أن أصحابه يستسهلون ركوب موجته؛ فهل تكفي الموهبة والسليقة وحدهما حصرا، أم تراه التسلح بالأصول النظرية، والضوابط التنظيرية، من غير موهبة، ليبرع الكاتب في الإتيان بالرائع والمدهش من القصص القصيرة؟
تلقي القصة القصيرة:
في اعتقادنا، أن العنصرين معا، الموهبة والوعي النظري، يجب أن يتوفرا في كاتب القصة القصيرة الجيدة. ذلك أن الموهبة تمده بالاستعداد المتحمس، والحساسية الشفافة، والتذوق الشاعري، وحسن استقبال الإلهام. في حين أن التقيد بالأصول كلاسيكية قديمة وتجريبية معاصرة، تمنعه من التخبط والهلهلة والتسيب وفقدان البوصلة، في مسار القصة نحو اكتمالها نصا أدبيا حقيقيا ممتعا.
ولئن كان من الأليق للكاتب المفتقر لموهبة كتابة القصة القصيرة، أن يبحث عن نفسه في جنس آخر من أجناس وأنواع الإبداع المختلفة، يلائم ما قد يتمتع به من موهبة، لعله يستقر على ما يناسب توجهه الإبداعي؛ فيجب كذلك على القصاص الذي يصطنع الامتثال للقواعد والضوابط ومقترحات المناهج النقدية، بميكانيكية عمياء، من غير سقي ما يكتبه باسم القصة القصيرة، بنسغ الروح، وغيث القلب، المنعشين للنبض والانفعال العاطفيين، وللتفاعل الإنساني الصادق؛ نقول يجب عليه هو الآخر أن يبحث لنفسه عن حقل مختلف غير القصة القصيرة، يجرب فيه ذاته، فقد يسعفه بمزج الضوابط والأصول الموضوعية، مع ما يتوفر عليه من موهبة سليقية في ميدانه.
ولا نبالغ إذا قلنا إن هذه المعضلة ذاتها، تنسحب على نقد القصة القصيرة. ذلك أن الناقد الذي لم يقرأ متونا من القصة القصيرة العالمية والعربية بما فيها المغربية، بحس جمالي، ونفاذ بصيرة، واستمتاع شاعري، واستشفاف عميق للرموز والدلالات، لا يمكنه أن يسلم من نعته بالتطفل على نقدها. وكذلك لن يكون في مقدوره أن يضطلع بمهمة النقد الموضوعي الحصيف، والإضاءة الكاشفة، والتوجيه والإرشاد النيرين، في حقل الكتابة النقدية القصصية، على الوجه المطلوب؛ إلا إذا تمكن وعيه النظري من استيعاب ضوابط القصة القصيرة وآلياتها، وأضرب اشتغال مكوناتها، ومتابعة تنظيراتها في مراحلها الكلاسيكية والمعاصرة، سواء لدى مبدعيها الأصلاء أم عند دارسيها وكبار نقادها.
على أن الالتزام بأصول القصة القصيرة إبداعا ونقدا، ليس حتمي التطبيق، بنسبة مائوية متجاوزة لسقف ضرورتها، بل هي للاسترشاد والاستئناس، لضبط البوصلة خلال العملية الإبداعية، ومن أجل المحافظة على الهوية الأجناسية للنوع السردي، خصوصا مع القصة القصيرة، التي تتميز بخرق كل ثبات واجترار واستنساخ، وانفتاح على الفنون المجاورة، كما تفترض استنباط أصولها المتجددة من نصوصها المغامرة، مما جعل تلك الأصول تتطور مرحليا بموازاة مع تطور الكتابة القصصية ذاتها.
ومن هذا المدخل، يمكننا أن نستدعي بعض نماذج التنظير للقصة القصيرة، بما احتوته من مبادئ وضوابط ووصايا ووجهات نظر، تحولت إلى سمات تجنيسية ومعايير نقدية يتم بواسطتها تلقي القصة القصيرة، وقراءتها قراءة نقدية مسعفة، تستغور أعماقها وتكتشف أهم عناصر بنائها. مما أوجد نظرية خاصة بالقصة القصيرة، على غرار نظرية الرواية ونظرية الشعر ونظرية الأدب إطلاقا.
وبالطبع لن تتسع هذه المداخلة، إلى تعييين كل الأمثلة المعنية بالمحددات الاشتراطية لكتابة القصة القصيرة الموفقة، بل إننا سنستأنس بأحد مبادئ البحث العلمي، الملحة على العودة إلى النماذج المؤسسة خلال مراحل تطور أية ظاهرة مدروسة، في تأجيل متعمد لما تطرحه العقود الأخيرة من وجهات نظر انطباعية غير واضحة ولا مكتملة، عن شروط كتابة القصة القصيرة التجريبية، بما تحتوي عليه من فانتستيك، وتداخل الزمكان، وتيار وعي ومونولوج، وتشابك الحلم بالواقع، وتشظي الحدث وتوليفه، واستعارة بعض من بلاغة الشعر، واستفادة من تقنيات الفنون المجاورة (السينما، والسيمفونية، والتشكيل)، وما إلى ذلك.
ولتكن نماذجنا في هذا السياق، نماذج مميزة من محطات مفصلية في تنظير القصة القصيرة، لها اعتبارها في وضع المدامك الأجناسية والمفردات الضرورية، لتمييز بلاغة القصة القصيرة عن أخواتها في أسرة السرد. ومن حسن الحظ أن أشهر التنظيرات قد صدرت من قصاصين لهم تأثيرهم العالمي في إبداع القصة القصيرة أمثال (إدجار آلان بو، وخوليو كورتازار، وفرانك أوكونور). ترى من سيكون أكثر فهما لخفايا وقضايا وشروط الإبداع القصصي، أكثر من القصاصين أنفسهم؟. وهو ما انطبق عربيا على الكثيرين ممن انبروا لتسليط الضوء على تلك الأصول، فقد كان من بينهم كذلك قصاصون لهم مكانتهم في ربرتوار القصة القصيرة العربية، مثل شكري عياد في كتابه الرائد (القصة القصيرة في مصر: دراسة في تأصيل فن أدبي)(1)، ويوسف الشاروني في كتابه (القصة القصيرة نظريا وتطبيقيا)(2). مما يعني أن معظم القصاصين أجانب وعربا كانوا على بينة مما اجترحته نظرية القصة القصيرة من ضوابط وأصول.
وينبغي أن تضاف إلى تلك الملاحظات، ملاحظة أساسية في عملية التنظير للقصة القصيرة، وتتعلق ببلورة أصولها، استنادا إلى قراءة نقدية لنماذج قصصية مسعفة على تحقيق ذلك. فماذا فعل إدجار آلان بو في تقعيده لضوابط القصة القصيرة الرائدة، أكثر من نثر عناصرها المطلوبة، خلال نقده لقصص بعض الكتاب، وفي مقدمتهم نتانييل هوثورن؟. أو لم يتكئ كورتزار نقديا، في تحديده لمقاييس القصة القصيرة المعتبرة لديه، على قصص إدجار آلان بو وتشيكوف وجي دي موباسان وتولستوي وكاترين مانسفيلد وإرنست همنغواي وخورخي لويس بورخيس وكافكا وغيرهم؟. وماذا فعل فرانك أوكونور في كتابه التنظيري النقدي الفذ (الصوت المنفرد)؟ ألم ينهض استخلاص مقاييسه للقصة القصيرة على نقد نصوص قصصية روسية وغربية، وعبر حقب حديثة ومعاصرة مختلفة؟
سوف نجعل من كل ما سبق، مبررا لاكتفائنا هنا بما وضعه هؤلاء القصاصون النقاد الثلاثة، لهذا النوع السردي الجميل من قوالب تقعيدية ووصايا ملائمة، في أفق الارتفاع بالكتابة القصصية إلى مستوى إبداع النصوص القصصية الأجمل والأكثر براعة وإدهاشا، وكذا مد المتلقين قراء ونقادا بمعايير تلقي القصة القصيرة بصورة واعية متفاعلة.
ـ إدجار آلان بو: وصايا لكتابة القصة قصيرة:
لقد وضع إدجار آلان بو للقصة القصيرة الحديثة، أسسا أعتبرت منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر شروطا جمالية، إذا لم تتوفر في النص القصصي، تخلى عن حقيقته الأجناسية، وصار مجرد نص سردي لا عنوان له. وفي سياق موضوع هذه المداخلة، تفيدنا الإشارة إلى أن إدجار ألان بو قد انطلق في تنظيره الشهير للقصة القصيرة، من موقف نقدي تجاه النقاد الأمريكيين المحافظين، بسبب إهمالهم كاتبا أصيلا مجددا هو نتانييل هوثورن، وذلك في مقال نشره حول مجموعة هوثورن (قصص محكية مرة أخرى)، في مجلة (غراهامز ماغزان) شهر ماي 1842، إضافة إلى مقاله (فلسفة التأليف) المنشور في نفس المجلة الفيلادلفية، شهر أبريل 1846. ويمكن تلخيص أهم تلك الشروط التي سنها أبو القصة القصيرة الحديثة، في الوصايا الموالية:
1) إن القصة القصيرة يجب أن تكون قصيرة فعلا، وتقرأ في جلسة واحدة، بين نصف ساعة وساعتين. فكلما ازداد حجم النص السردي تسبب في تشتيت وحدة الانطباع.
2) لا بد من توفر وحدة التأثير أو الانطباع، التي يجب أن تتجلى منذ العبارة الأولى في مقدمة النص القصصي، وإلا سقطت القصة منذ خطوتها الأولى. شرط أن تحذف كل كلمة لا تتجه مباشرة أو غير مباشرة إلى هذه القصدية.
3) ضرورة توفر المعرفة المسبقة الواضحة بخاتمة القصة، منذ البداية وقبل الشروع في الكتابة، والتقدم في حبك نسيج القصة، من مقدمتها إلى خاتمتها، مرورا بالعقدة المدهشة.
4) تتحدد العناصر الأساسية على مستوى الشكل، بالنسبة لبناء القصة القصيرة، في الإحكام والوحدة والترابط المتناسب.
5) إن القصة القصيرة، معنية بالتعبير عن الحقيقة النابعة من الحدس والعاطفة والأحلام، وليس عن الحقيقة المنطقية للأفكار المجردة، فإن مثل هذه الأخيرة من اختصاص الرواية، وليس القصة القصيرة. كما أن القصة القصيرة لا علاقة لها بالدرس الأخلاقي، إلا إذا كان ذلك مبطنا في أعماق رسالتها بكيفية غير مباشرة.
ـ خوليو كورتازار: بعض مظاهر القصة القصيرة(3):
نشر خوليو كورتازار عددا من المقالات حول قضايا القصة القصيرة، أهمها مقاله المطول الموسوم (بعض مظاهر القصة القصيرة)، المنشور في العدد الستين من مجلة (دار الأمريكات)، هابانا، يوليو 1970، وذلك بمناسبة مرور عشر سنوات على صدور هذه المجلة. ورغم أن كورتزار قد اعتبر من بين كبار كتاب القصة والرواية الحداثيين، وأن القصة القصيرة في رأيه ملتبسة وصعبة التحديد، ومع ذلك كان يعتقد أن من ضياع الوقت ألا نمتلك فكرة محددة لما هو قصة قصيرة، مما يحتم ضرورة توفر ثوابت وقيم خاصة بالقصة القصيرة بكل أنواعها، سواء كانت فانتستيكية أم واقعية، درامية أم ساخرة. لهذا نجده قد تأثر إلى حد ما، بوصايا إدغار آلان بو لكتابة القصة القصيرة الناجحة، وطورها من أجل أن تندفع كتابتها التجريبية نحو أشواط أخرى مختلفة، تتلاءم ومتغيرات الواقع الإنساني المستجد غداة الحرب العالمية الثانية. والحقيقة أن كورتازار الكاتب التجريبي الشهير، ظل وفيا لأستاذه هذا الرائد في فن كتابة القصة القصيرة. ذلك أنه اهتم كثيرا بتركة إدجار آلان بو، حيث وجدناه يترجم إلى اللغة الإسبانية معظم نصوصه القصصيه(4) وأيضا أهم ما تركه هذا الرائد للقصة القصيرة من نقد وتنظير.
فإضافة إلى ما اشترطه إدجار آلان بو من ضوابط لكتابة القصة القصيرة، اختار كورتازار الإلحاح على حتمية توفر ضوابط جديدة في القصة القصيرة الحقيقية، ندرج أهمها فيما يلي:
1 ـ القصة القصيرة تقتطع شريحة محدودة من الواقع، لكن هذه الشريحة تنفّذ بطريقة متفجرة تفتح واقعا أكثر رحابة.
2 ـ بما أن الزمن ليس حليفا لكاتب القصة القصيرة، لهذا فإن ملجأه الوحيد هو الاشتغال في العمق عموديا، أي التحرك نحو الأعلى أو الأسفل داخل الفضاء الأدبي.
3 ـ ليس مهما اختيار موضوع جيد لكتابة قصة قصيرة، فكل الموضوعات صالحة للمعالجة القصصية، وخاصة الموضوعات الاستثنائية، بل إن الأفضلية تكون لإبداعية معالجة الموضوع المختار، والحرص على توفير حد عال من التوتر، الذي يجب أن يظهر منذ الكلمات الأولى أو المشاهد الأولى في القصة.
4 ـ إن الدلالة والكثافة والتوتر، لمن أهم العناصر التي يجب أن تتوفر عليها القصة القصيرة الموفقة، وذلك ما يقربنا من بنائها الشكلي.
5 ـ لا تتحقق الدلالة إلا إذا ارتبطت بالكثافة والتوتر، وليس بالموضوع فقط، انطلاقا من المعالجة الأدبية للموضوع والتقنية المعتمدة لتطويره.
ـ فرانك أوكونور: الصوت المنفرد:
يمكن التقاط مجموعة من شروط كتابة القصة القصيرة، من وجهة نظر أوكونور المنثورة في كتابه (الصوت المنفرد: مقالات في القصة القصيرة)(5)، لعل هذه أهمها:
1 ـ إن الموضوعات الأثيرة في القصة القصيرة، هي تلك المرتبطة باستيحاش الإنسان، المستثمرة في معالجة قضايا الجماعات المغمورة المهمشة، التي تتغير من كاتب إلى كاتب، ومن جيل إلى جيل (الموظفون العموميون عند جوجول، الخدم عند ترجنيف، العاهرات عند جي دي موبسان، الأطباء والمهندسون والمدرسون والقسس عند تشيكوف، الريفيون عند شيروود أندرسون، الصيادون وقناصو الحيوانات والجرسونات والسقاة والملاكمون ومدربو الخيول ومصارعو الثيران لدى همنغواي).
2 ـ لا يمتلك كاتب القصة القصيرة قالبا جوهريا مثل كاتب الرواية، بل إن القصة القصيرة تختلف عن الرواية، في كون إطار مرجعيتها ليس الحياة الإنسانية برمتها، بل إنه يختار زاوية معينة يتناولها منها. وكل اختيار منه يحتوي على إمكانية قالب جديد.
3 ـ من شروط القصة القصيرة الموفقة، إحداث تأثيرها في المتلقي، بحيث تترك في نفسه انطباعا عميقا مستمرا.
4 ـ القصة القصيرة لا ينبغي لها أن تعالج ما حصل في الواقع، بل ما يمكن أن يكون بديلا عما حصل.
5 ـ إن القصة القصيرة. تتفادى التسلسل الزمني البطيء للحوادث، وتبحث دوما عن نقطة خارج الزمن يرى من خلالها الماضي والمستقبل في وقت واحد.
وقد كان لهذه الوصايا أثرها في كتابة ونقد القصة القصيرة، وخاصة في أمريكا اللاتينية. أما عربيا، فلعل الأولوية قد أعطيت لوصايا إدجار آلان بو، إلى حدود سبعينيات القرن العشرين. إذ ستصبح فيما بعد، جد متجاوزة في إبداع القصة القصيرة ونقدها لدى معظم كتابها ونقادها العرب.
فخلال العقود الثلاثة السابقة على الثمانينات، ظل النقد القصصي يوظف مصطلحات (المقدمة، الخاتمة، العقدة، التأثير، الانطباع، التكثيف، التوتر، الوحدة، الشخصية المهمشة الخ..). خاصة لدى من أرخوا للقصة القصيرة المصرية الحديثة والمعاصرة، وعرّفوا بها وبتطورها(6). والملحوظ أنهم كانوا في هذا التوظيف منسجمين مع قناعاتهم المفاهيمية عن القصة القصيرة(7)، لذلك كانوا يحكّمونها في نقد النصوص القصصية.
وهكذا، حين يتناول د. رشاد رشدي مثلا قصة (الزوجين السعيدين) لسومرست موم بالتحليل النصي، يتم نقده لها انطلاقا من افتقارها لأهم العناصر التي اشترطها إدجار آلان بو، كما يظهر من حكمه النقدي الموالي:
((ويتضح اختلال البناء في قصة ((موم)) إذا تأملت الخيوط التي رسمها المؤلف في بداية القصة: فإن هذه الخيوط تدل* إلى النهاية خيوطها متفرقة لا تتجمع في نقطة واحدة، في حين أننا نجد أن النقطة التي ينهي بها الكاتب قصته لا علاقة لها بالشخصيات والأحداث التي صورها في القصة، أي بالخيوط التي رسمها. ومعنى ذلك أن نقطة التنوير وهي النقطة التي يكتمل بها معنى الحدث، لم تأت في هذه القصة كنتيجة محتومة لما سبقها... وبناء عليه نستطيع أن نقول إن هذه القصة مختلة البناء لأنها لا تصور حدثا له بداية ووسط ونهاية))(8) .
وعلى عكس ما فعله د. رشاد رشدي مع قصة سومرست موم، أشاد شاكر النابلسي بالإنتاج القصصي لتشيكوف، لكونه برع في تشغيل تلك العناصر والاشتراطات التقليدية، من بداية ونهاية ولحظة تنوير ووحدة فنية الخ.. مما جعله يفرد بعضها ضمن عناوين فصول كتابه (تشيكوف والقصة القصيرة)(9). وإن ما يلاحظ من وجهة نظر النابلسي، في جميع نصوص هذا الكاتب المتميز، اتسامها بوحدة فنية كاملة، تمتد مع بداية نمو الحدث إلى غاية اكتمال نضجه(10). ومن هنا خلص في تحليله التطبيقي لقصة (الجرادة) لتشيكوف، إلى الإشادة بالذروة الفنية فيها، ((فموت ديموف هو الذروة الفنية للقصة وملتقى جميع خيوط النسيج العام..
وهذه الوحدة الفنية في البناء والنسيج العام هو ما يميز أدب تشيكوف القصصي من حيث المراحل الثلاث للعمل الفني.. البداية والوسط والنهاية))(11).
وحين يتناول د. عبد الحميد يونس بالتحليل والنقد، قصة ليوسف إدريس عنوانها (نظرة)، ينصرف نحو الاهتمام بما فيها من مفارقة وتكثيف ووحدة وإيحاء وتأثير، متوجا ذلك بهذا الحكم النقدي:
((ولقد فرضت هذه (النظرة) على المشاهد ما ينبغي لها من وحدة الموقف والموضوع، وإن كان المؤلف من الكتاب الحريصين على التزام الوحدة في أعماله الأدبية، وهو يضيف إليها ((التكثيف))؛ الذي يدفع؛ لا إلى المساواة بين اللفظ والمعنى ـ كما كان يقول البلاغيون القدماء ـ ولكن إلى الاقتصاد معتمدا على ما تحمل الألفاظ والعبارات من إيحاء؛ أو ما تستدعيه من صور ودلالات ومشاعر.))(12).
ولا عجب بعد هذا النقد التنويهي، إذا رأينا د. عبد الحميد يونس في ختام هذا النقد، يعتبر الكاتب يوسف إدريس معلما من معالم الأدب المصري المعاصر.
وعلى الرغم من أن جيل الستينات في مصر، بما مارسه من تأثير على القصة العربية، قد حاول التخلص من أنساق الكتابة القصصية التقليدية، وأن النقد القصصي هو الآخر أخذ يتجاوزها وينتقدها بخشونة منذ السبعينات، إلا أن رواسبها ظلت حاضرة بوضوح أو ضمنيا، في بناء عدد من النصوص القصصية بشكل أو بآخر، كما ظلت معياريتها قادرة على التسرب إلي الممارسة النقدية. فعلى حد رأي د. خيري دومة ((كان هناك على الدوام ـ بين الأشكال المختلفة، وداخل كل شكل على حدة، وأحيانا داخل النص الواحد ـ جدل حقيقي بين توجهين؛ أحدهما ينفي الحكي وينفي الواقع الخارجي وينفي البنية وينفي الرسالة، والآخر يبقى على شغفه بالحكي والواقع والرسالة والبنية الحاملة. ولا أظن أن هذا الجدل قد أفضى ـ حتى الآن ـ إلى انتصار صيغة واحدة منهما.))(13).
كما أن صبري حافظ في مقاله العميق (الخصائص البنائية للأقصوصة)(14)، بعد أن أكد أن لكل شكل فني تقاليده ومواضعاته، وشفرته ونحوه وقواعده الخاصة، اللازمة لفهم لغته بالاستناد إلى أساسيات ذلك النحو وتلك القواعد، قد قرر أن التقاليد بالنسبة للشكل الفني مثل النحو بالنسبة للغة، أو كاللغة بالنسبة للكلام وفق مصطلح النقد البنائي. وتحت العنوان الهامشي التالي: (البناء الأقصوصي: خصائصه وملامحه)، عيّن صبري حافظ ثلاث خصائص لنجاح الأقصوصة، ليست في حقيقتها سوى شروط القصة القصيرة الموفقة، التي وضع أسسها الجمالية إدجار آلان بو. فصبري يقول:
((ثمة اتفاق بين عدد كبير من دارسي الأقصوصة على ضرورة توافر ثلاث خصائص رئيسية في أي عمل أدبي حتى نستطيع أن ندعوه بارتياح: أقصوصة. وهذه الخصائص الثلاث هي وحدة الأثر أو الانطباع ولحظة الأزمة واتساق التصميم))(15). ويبدو لنا أن وحدة الأثر ما هي إلا وحدة الانطباع، ولحظة الأزمة ليست سوى ذروة العقدة، أما اتساق التصميم فلا يعدو أن يكون مرادفا للحبكة.
من جهة ثانية، يؤكد صبري حافظ مقولة ( البطل المهمش)، التي كرسها فرانك أوكونور في كتابه المعمق (الصوت المنفرد)، عنصرا جماليا أساسيا مشتركا بين معظم القصاصين الكبار. فصبري يعتبر أن بطولة الجلد والصبر والمعاناة والحزن واحتمال الشدائد ((هي صيغة البطولة المناسبة لأفراد المجموعات المغمورة أو المقهورة التي تمتلئ بهم الأقاصيص. هؤلاء الأفراد الذين تؤرقهم صبواتهم الصغيرة المستحيلة التحقق والذين تعذبهم أشواقهم المهددة ولكنهم يجالدون، بكبرياء حتى يستروا جراحهم عن الأعين الفضولية الناهشة. إنها بطولة الجماعة المقهورة التي لا تني تحاول بلا كلل أن تنال حظها من الإنسانية فتتحطم أرواحها الرقيقة الحساسة الهشة على صخور هذه المحاولة، ولكنها مع ذلك لا تستسلم لليأس بل تواصل أحلامها العصية المستباحة))(16).
ونحن نرى أن قصة (بحيرة المساء) لإبراهيم أصلان، ونقدها من لدن عبد الرحمن أبو عوف، صالحين للنمذجة في هذا السياق. فقصة (بحيرة المساء) لأحد أهم كتاب جيل التجديد الستيني، هي قصة قصيرة طليعية آسية، ومدهشة بتداخل الأصوات في الحوار المتخلل خلال رسم الموقف. لكنها على طليعيتها تحفل بالتفاصيل الصغيرة، وبالتركيز على وحدة المكان والزمان، وبالتكرار على غرار بلاغة التكرار في قصص إرنست همنغواي، وتذكرنا بشقاء الإنسان لدى تشيكوف، وغربة الشخصيات المهمشة لدى فرانك أوكونور. كما أنها تفننت في اختيار البداية والنهاية في وحدة بناء متماسكة، مؤثرة بكل ذلك وغيره في المتلقي، وناقلة إليه الإحساس المرهف بالغربة المهيمن على عالم القصة.
ولعل مثل هذه الملاحظة، هو ما وقف وراء نوعية قراءة عبد الرحمن أبو عوف لهذه القصة الجميلة. فرغم انتمائه إلى تيار النقاد الشباب الرافضين للتقليد، والمتحمسين للتجديد إبداعا ونقدا، في مرحلة مخاض وعطاء مفصلية هي مرحلة السبعينات، فقد اضطر لإثارة المظاهر التكوينية التقليدية في قصة (بحيرة المساء)، من توحد في اللحظة المعالجة (السهرة) والمكان (مقهى على شاطئ النيل) والزمن (النصف الأخير من الليل)، من غير أن يفوته التنويه بنوعية البداية، ونمو الحدث المكثف عبر نسيج القصة المتماسك، كما توضح هذه الفقرة النقدية المركزة:
((تبدأ قصة (بحيرة المساء) بكلمات مقتصدة هامسة للراوية (في النصف الأخير من الليل كان الجرسون قد وضع بضعة مقاعد على شاطئ النيل ولم أكن أعرف أحدا من أفراد الجماعة التي كنت منضما إليها معرفة وثيقة ولكن صديقي يعرفهم، ويعقب هذه البداية تجسيد متتابع نسيجه صور مركبة تكثف لدينا شيئا فشيئا إحساس الراوية المتقد للتعارف أو بمعنى آخر قتامة الوحدة))(17).
ولم يقتصر تأخر استحضار عناصر المفهوم الكلاسيكي للقصة القصيرة، حتى المرحلة المعاصرة، لدى الباحثين والنقاد العرب فقط، بل وجدنا من الباحثين والكتاب الأجانب، من ظل يعتمد ذلك المفهوم في اشتغاله على القصة القصيرة. ونضطر هنا لضيق المجال أن نكتفي بمثال واحد. ففي تفنيدها لرأي براندر ماتيوز، الوارد في كتابه (فلسفة القصة القصيرة)، والقائل بأن الاختلاف بين الرواية والقصة هو مجرد اختلاف في الطول، ردت أستاذة الأدب المقارن في جامعة ستانفورد الأمريكية ماري لويز برات سنة 1981بقولها، مستندة إلى مقياسين أساسيين من مقاييس إدجار آلان بو، حيث كتبت:
((ولكن الاختلاف بين الرواية والقصة القصيرة اختلاف نوعي فالقصة القصيرة الحقيقية شيء أكثر اختلافا من أن تكون رواية غير طويلة.. إن القصة القصيرة الحقيقية تختلف عن الرواية على أساس من وحدة الانطباع الذي تتركه في المتلقي. أو ـ بصورة أكثر دقة ـ تقوم على وحدة لا يمكن أن تتوفر في الرواية.
إن الروائي، لديه من الوقت والمكان ما يسمح له بحرية الحركة كاملة. أما كاتب القصة القصيرة فلابد أن يكون مركّزا وموجزا. فالمطلوب في القصة القصيرة إيجاز وتكثيف. والتكثيف البالغ شيء جوهري للقصة القصية ولكاتبها.))(18).
ولا يحتاج الأمر إلى توضيح تحكيمها هذا، المستند إلى مقاييس إدجار آلان بو، فقد اعتمد على خاصيتين جماليتين من تلك المقاييس، هما الوحدة، ووحدة الانطباع تخصيصا، ثم بلاغة التكثيف، من أجل تمييز القصة القصيرة الحقيقية عن الرواية. هذا فضلا عن توظيف مصطلحات تنتمي إلى تلك المقاييس، مثل لحظة التنوير التي تسميها (لحظة الاكتشاف) والإيحاء والتلميح ووحدة الحدث المفرد.
وحين نتذكر نقطة انطلاق هذه المداخلة، وكذا ما تبين من قضايا النقاش والاستقصاء السابقين، يتاح لنا أن نسجل حقيقة كون الكتابة القصصية الأصيلة، تتطلب الجمع بين الموهبة والوعي النظري، في بحثها عن الإحكام والإضافة والتميز. وأن التطور الذاتي للإبداع القصصي، قد أنتج بالتوازي مزيدا من القواعد المستجدة، الضابطة لكينونة القصة القصيرة، باعتبارها نوعا سرديا مستقلا، محافظة عليها من الميوعة والتسيب. وهو ما هيأ للممارسة النقدية، مصادر وعي بطبيعة العملية الإبداعية في القصة القصيرة، وكذا مكن النقاد من استيعاب الآليات التقنية المتجددة الضرورية لإضاءة النصوص النوعية للقصة القصيرة، وتلقيها قراءة ونقدا بالصورة المطلوبة.
هوامش:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) معهد البحوث والدراسات العربية، جامعة الدول العربية، مطبعة النهضة الجديدة، القاهرة، [د. ت.].
2) سل. كتاب الهلال، ع. 316، دار الهلال، [د. م.]، أبريل 1977.
3) Julio Cortázar : algunos aspectos del cuento, Literatura .us
4) EDGAR ALLAN POE : Cuentos, Traducción Julio Cortázar, Ediciones de la Universidad de Puerto Rico, en colaboración con la Revista de Occidente, 1956.
5) ترجمة الدكتور محمود الربيعي، الهيأة العامة للتأليف والنشر، مصر، 1969.
6) راجع مثلا:
ـ د. شكري عياد: القصة القصيرة في مصر/ دراسة في تأصيل فن أدبي، معهد البحوث والدراسات العربية، جامعة الدول العربية، مطبعة النهضة الجديدة، القاهرة، [د. ت.]
ـ يوسف الشاروني: القصة القصيرة نظريا وتطبيقيا، سل. كتاب الهلال، ع. 316، دار الهلال، [د. م.]، أبريل 1977.
ـ د. عبد الحميد يونس: فن القصة القصيرة في أدبنا الحديث، دار المعرفة، القاهرة، ط. 1، 1973.
ـ عباس خضر: القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى سنة 1930. الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1966.
7) للتمثيل وليس الحصر، نجد عباس خضر يجمل ((خصائص القصة القصيرة في كلمتين: الوحدة والتركيز، فالوحدة في الحادث والغرض والموقف، ولعل وحدة الانطباع التي قال بها (بو) تجمع كل الوحدات في بؤرة واحدة، والتركيز يكون في كل شيء، وهو أهم مميز للقصة القصيرة، وقد بولغ في حتميته بها من حيث اللغة حتى قيل إن أية كلمة يمكن الاستغناء عنها تعد حشوا فيها ودخيلة عليها))(القصة القصيرة في مصر منذ نشأتها حتى سنة 1930، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1966-، ص. 76 ـ 77).
ويوسف الشاروني يعرض تصوره عن القصة القصيرة بقوله: ((وللقصة الجيدة مقياس بسيط للغاية في نظري، ذلك أن تترك أثرها في ذاكرة القارئ فتكون جزء منه وتدخل في تركيب شخصيته)) (المرجع السابق، ص. 95).
*الصواب: يظل
8) فن القصة القصيرة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط. 3/ 1970، ص. 61 ـ 62.
9) دار المفكر، القاهرة، 1963.
10) المرجع نفسه، ص.58.
11) نفسه، ص. 63.
12) المرجع السابق، ص. 77.
13) تداخل الأنواع في القصة القصيرة المصرية 1960 ـ 1990، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص. 12.
14) مجلة فصول المصرية م. 2، ع. 4 سوليو ـ شتنبر 1982، ص. 19.
15) المرجع نفسه، ص. 27.
16) نفسه، ص. 29.
17) البحث عن طريق جديد للقصة القصيرة المصرية، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971، ص. 157.
18) القصة القصيرة الطول والقصر، تر. محمود عياد، مجلة (فصول) المصرية، م. 2، ع. 4، يوليو ـ أغسطس ـ سبتمبر 1982، ص. 49.