
عصر الحدث
سياسة جديدة أطلت على العالم فى مطلع الألفية الثالثة رسخت مفهوم العولمة وعززت من قيمة التوحد التى أصبحت تسود العالم ووضعت أسس جديدة لاستقبال المعلومات وطرحها على الساحة ،سياسة وحدت العالم كله وجعلته يتعامل مع تفاصيلها من منظور واحد بل وأجبرت كل من يتبع هذه السياسة لاستخدام نفس الاسقاطات دون تغيير المحاور أو الاتجاهات ،سياسة جعلت العالم ينظر للأمام فقط ولا يلتفت لحظة واحدة للخلف، جعلته ينتمى لعصر المعلومة والخبر تاركة على لسانة كلمة واحدة هى ماذا حدث ومتى حدث تلك هى سياسة الحدث.
إنحاز العالم كله فى السنوات الأخيرة لتطبيق مرجعية فكرية ترجع أصولها لعصر المعرفة مع تغير الأساليب المستخدمة فى الحصول على هذه المعرفة وعند التدقيق فى نوع هذه المعرفة نجد أن العالم فقد مع الأساليب الجديدة التى استخدمها فلسفة المعرفة ذاتها التى كانت تدفعه لمعرفة الشىء للاهتمام بأصله وفروعه دون التركيز على أعمدة خاوية لا تستطيع نقل المعلومة وإن نقلتها لا تستطيع الاحتفاظ بها.
العالم كله أصبح يتكلم بلسان الخبر فالخبر أصل الكلام وعنوانه وقناة توصيله وعرفانه، مصدر فلان وعلانه وهكذا إلى أن صار الخبر أصل الخبر وأعلن للعالم أنه وحده المتحكم فى حالتك النفسية ومشاعرك وردود افعالك ودرجة ادراكك وتعبيرك بل تمرد وقال "أنا الخبر: عز الحدث ، دينامو القلم ، طبع الصحف ، فكر الكتب، وقع الخطر، صمت البشر، ماعدت أحتاج إلى مبتدأ" وقد عارضه الكثير وانحاز اليه الكثير وحاول مصاحبته الكثير والكثير لكن لم يفهم سياسته إلا القليل.
هذا وقد أمتلك الخبر مجموعة من الأليات التى مكنته من احتلال موقعه الإعلامى فى عصر الإنفتاح على الثقافات فبخلاف القنوات الإخبارية المتخصصة طرح الخبر نفسه على مختلف الساحات حيث تمثل فى ساعات إخبارية وملخصات يومية وأنباء مهمة وصفحات استثنائية وبرامج حوارية ونقاشية واراء إخبارية وفلاشات وأصبح بين كل قناة إخبارية والاخرى قناة نصف إخبارية وبين كل خبر واخر خبر عاجل أو نبأ لا يكتفى فقط بالعرض لكن بفتح مجال جديد من الرأى والرأى الاخر والحوار والنقاش أو حتى انشاء فكرة برنامج جديد وأصبح من الصعب التركيز حتى فى أى مشهد درامى لأنه ببساطة أصبح العرض عبارة عن مشاهد إخبارية يتخللها لقطات درامية هذا بحكم الشريط الاخبارى الذى لا ينقطع من معظم الشاشات.
ومع إزدحام الساحة بهذا الكم الهائل من الأخبار أصبح من الصعب الاحتفاظ بجميع تفاصيل هذه المعلومات حتى فى الذاكرة العشوائية حيث ان معظم القنوات الاخبارية اتخذت سياسة جديدة فى عرض الخبر وهى محاولة اختصار أو تلخيص الحدث فمثلا حينما يعرض خبر كالتالى (سعى دؤوب من رئيس تركيا أحمد نجدت سيزار للانضمام للاتحاد الأوروبى) ثم يتبعه خبر اخر (قلق اوروبى تجاه فكرة انضمام تركيا للاتحاد) وفى اليوم التالى أو فى معظم الأحيان فى نفس الساعة الاخبارية أو نفس اليوم يظهر خبر جديد (تنسيق مشترك بين سيزار والاتحاد الاوروبى لبحث فكرة الانضمام) وهنا يحدث ما يسمى بفجوة فقدان المعرفة أو أصل المعلومة وتبدأ الأسئلة فى التوارد لأى متابع جديد .. من هو سيزار؟ وما وظيفته؟ وماهو هو هذا الاتحاد الذى يسعى للانضمام اليه؟. حتى مقدم النشرة الاخبارية أصبح فى معظم الأحيان رغم زيادة عدد النشرات الاخبارية المقدمة على مدار اليوم يتعامل مع المشاهد على انه واع تماما لما يقال ولم يفوت كلمة من الاف الأخبار التى طرحت عليه خلال اليوم .
ومع هذه السياسة الجديدة التى انتهجها الإعلام فى الإعلان عن طبيعة الخبر نشأت سياسة موازية تجبر المشاهد على الالتصاق المباشر بالخبر لانه عند فقدانه للحدث أو جزء منه سوف يعرض نفسه لمشقة البحث واسترجاع ما فاته أو الاستسلام لنصف المعرفة التى سيتعرض لها فيما بعد عند استكمال المتابعة.
لكن الذى يثير الدهشة فى ذلك العصر الذى امتلك زمام المعرفة انه لا توجد أدنى معرفة وخاصة عند الشباب أو بتعبير أدق عند معظم هؤلاء الشباب ذلك رغم الانتشار الكاسح للوسائل الاعلامية وكأن معظم الأوضاع الاجتماعية مصرة على تكرار نفس النمط الاجتماعى فى مبدأ الزيادة دون اى افادة ويظهر ذلك واضحا فى الانتشار الكبير للقنوات الدينية والفتاوى وما يقابله من انفلات وانحراف اخلاقى للمجتمع ولو أن هذا الاعلام يحمل قدرا أعلى من الشفافية لعرض اختبارات وزارة الخارجية للشباب المتقدم لشغل وظائفها ولكان عرف المجتمع وقتها كارثة المعرفة وأزمة الثقافة.
وحتى لا يظهر مبدأ التجنى على الشباب العربى أو المصرى على وجه الخصوص فان المشكلة قائمة ومتواجدة فى معظم البلدان والثقافات مع اختلاف بسيط فى طريقة التعامل مع هذه الفئة ولكن المشكلة ليست بهذه السهولة فكما ذكرت فى المقدمة أن مفهوم المعرفة ذاته قد تغير ولم يصبح من السهل الالمام بجميع المعلومات ذلك لكثرتها وتنوعها وزيادة الوسائل المعروضة خلالها بعكس الاجيال السابقة التى كانت محاطة بهالة اعلامية محددة تنحصر فى الاذاعة والتليفزيون والصحافة، حتى المعلومات التى كانت تبث فكريا عن طريق الافلام التسجيلية والوثائقية أو حتى الترفيهية كانت بمواعيد محددة وبجرعات منتظمة على مدار الاسبوع حيث كانت كافية لاشباع نهم المعرفة والترفية وحتى ملكة التفكير والبحث والاستفادة من المادة المقدمة بكل جوانبها ومن الطبيعى عدم توافر هذه الأركان فى الأجيال الحالية لتغير المناخ وطبيعة وأساليب المعرفة ، لكن هذا بدوره لا يعطى رخصة لهذه الأجيال بعدم المتابعة ومحاولة اختراق جدار المعلوماتية خاصة بعد اعلان القوى الكبرى فى العالم أن الحروب القادمة ستكون معلوماتية فى المقام الأول فالتسلح يجب أن يكون بالمعلومة الصحيحة التى تملك العبور والقرار هذا رغم صعوبة الاحتفاظ بجميع المعلومات ولكن هذا قدرنا فنحن فى عصر الحدث ولا نملك الا أن نكون على مستوى هذا الحدث .