السبت ٢٤ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧

كانَ شَـحَّاذاً ولكِـنَّـهُ.. عَالِـماً!

قلم: محمد زين الشفيع أحمد

يكتنزُ رأسُهُ بالشَّعرِ المُجعَّدِ والهُمُومِْ ..

تتشَابَهُ الأيامُ والمنازِلُ في داخِلِهِْ ..

دائماً يُحِسُّ اعتقالَ قميصِهِ لَهْ ..

أدخلَ يدَه في جيبِهِ يتحسَّسُ صَدَى

شيءٍ مِنَ النُّقُودْ !!

لكنَّ الجَيْبَ أفْضَى بهِ إلى سُرْوالِهِ

الطَّويلِ المتَّسِخِْ ،

فرجعتْ يدُه مكسوفةَ الخاطِرِ لمْ تجِدْ سِوى

سُهْدَ اللَّيالي وجفافَ الأيامِْ ..

باحِثاً في الطُّرُقاتِ عَنْ فَـتاتِ الخُبْزِ اللئيمْ ..

.. فالطريقُ مكتَظَّـةٌ بالمارَّةِ والمُتسكِّعِينَ

وذوي الهِندَامِ الجميلْ ..

أدارَ وجْهَهُ يَمْنَةً ويُسْرَة لكنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أحَداً

.. كانَ غَارِقاً في هَمِّه .. يتلو في سِرِّهِ

شيئاً من أهازيجِ اليأسِ وفقرِه المُدْقـعْ ..

أمسَـكَ ورقةً وقلماً ليَكتُبَ شيئاً مَـا .. يُزِيحُ

به مَا يَعْتَلي صَدْرَه مِنْ غَـمٍّ ..

تذكَّرَ فجأةً أنَّهُ لمْ يجْلِسْ على كنَباتِ

الفصْلِ والدَّرسِ يوْماً .. فبللتْ دُمُوعُه الوَرقَ ..

جَرَّ ذيلَ جِبَّتِهِ الملطَّخةِ بالطِّينْ .. ثمَّ انْزَوى

إلى رُكْنِ حائطٍ قديمْ ..

لَمَحَ رجُلاً لامِعَ التَّقَـاسيمِ والملابسْ ..

قامَ عَجِلاً صَوْبَه ؛ ثُمَّ مدَّ يدَه إليهِ آمِلاً

ومُتوجِّساً وقائِلاً : " للهِ يا مُحْسنينَ ديناراً

أوْ جُنيْهاً أو خُبزه "

.. أزاحَهُ الرَّجُلُ عن طريقِهِ وانْتَهرَه بشدَّةٍ

هَكَذَا : لا تَعُوقَ طريقيَ نحنُ نُسْبِقُكمْ فقطْ

بالصَّبرْ !!! ..

ضَاقَتِ الدُّنيا مِنْ حَوْلِهِ فقدْ أفقدَهُ ذلكَ

المُهَنْدَمُ الأمَلَ .. مع أنَّ أمَلَهُ لَمْ يَكُن مِنَ

الآمالِ العِرَاضِ كآمالِ الآخرين ، بل مجرَّدِ

أمَلِ طعامٍ أو ماءٍ يَسْتُرُ بهِ عورةَ بطنِه

الجوْفاءْ ..

فهذه المهنةُ لَمْ يَمْتَهِنْهَـا طائعاً مُختاراً

لكنَّها هي التي قصدتهُ بغيْرِ إرادةٍ منه

فأشْرَبَتْه رحيقَها المُرَّ ...

نَذَرَ يَوْمَاً نفسَه بألا يَعُودَ إليها ثانيةً ..

لكنَّهُ كانَ قاصِراً عنِ العملِ

فاقداً ليدِهِ ورجلِهِ اليُسرَى ...

ذاكَ مَّا حَدَا به لأنْ يَنْثنيَ أمامَ هذه

المهنةْ ، له من البناتِ خمسْ ومن

البنينِ ثلاثة ، الثاني عشرةَ

لمْ يتجاوزْهَا أكبرُهم ، لذا فقد كانَ

هوَ أكبرَهم هَمَّاً وعُمْرا .

حاولتُ الاقترابَ منْهُ قدْرَ استطاعتي ،

فقدْ أتاني إحساسٌ بأنَّهُ ليسَ شحَّاذاً عَاديَّاً

، لذا بدأتُ بمصادقتِهِ ، حاوَلَ النُّفُورَ منِّيَ

لكنَّه أخيراً وبطيبِ قلبٍ قَبِلَني صديقاً ،

فكنتُ أجلِسُ معهُ لأستشِفَ ما بداخلِهِ

من أسرارٍ . فقدْ كانَ شحَّاذاً جميلاً

وعالِماً ..

يَميلُ كثيراً للتَّحدُّثِِ معيَ باللغـةِ العربيَّةِ

الفصيحةْ ..

ولمِسْتُ من كلامِهِْ أنَّه لا يُخطِئُ مُطْلَقَاً

عندَ امتطائِهِ صهوةَ اللُّغةْ . فأدْهَشَنِي

ذلك منهْ جدّاً ..

.. وكُنْتُ أعتقدُ بأنَّ لي باعَاً لا يُسْتَهَانُ

به في العربيَّةِ وعُلُومِهَـا ونحوِها وصرفِها

فتجدُني أتَشَدَّقُ معهُ بذلك كثيراً

ولكِنْ !! ويا لَعَجَبِي !!! فقدْ تضاءَلَتْ قُدْرَاتي

تجاهَ مَا يقولْ ..

قال لي : أتدري مَا الكافُ ومَا المَكفُوفْ ؟

وما المجرورُ بالمجاورةِ ؟؟ قلتُ : اللهُ أعلمْ ..

قال : أتدري ما إعرابُ " إنّما المؤمنونَ إخوةٌ " ؟..

قلتُ : المؤمنونَ : مبتدأٌ مرفوعٌ بثبوت الواو

لأنَّه جمعُ مذكَّرٍ سالمْ ، وإخوةٌ : خبرُ مبتدأٍ

مرفوعْ ..

وقد كنتُ قد تجاوزتُ " إنَّمَـا " عَمْداً لعدمِ دِرايَتي

الكافيةِ بإعرابِها ..

فقالَ لي : لِمَ لمْ تَعْرِبْ " إنّما " ؟؟ ..

فتَمْتَمْتُ في نفسيَ ولمْ أُكْمِلْ ..

فقطعَ تمتمتي قائلاً : لا عليكَ يا بُنَيّْ ..

طالَما ارتضيْتَ أنْ تجالسَني فذاكَ تواضُعٌ

جَمٌّ مِنْكْ ، فالنَّاسُ تنفِرُ منِّي ولا تُطِيقُني ..

فسأخبرُكَ عنها الآنَ : فهذا يُسمَّى الكافُ

والمكفوفْ ، أيْ بمعنى

إنَّ : أداةُ توكيدٍ ونصبٍ كما تعلم وهنا

تُسمَّى ( مكفوفة ) ،

واسمُ الموصولِ ما : (كافٌّ) لأنَّها كفَّتْ

وأبطلتْ عملَ إنَّ .

فقلتُ له : لمْ أفهمْ شيئاً . لكنَّني بعدَ أنْ

أرْهقتُهُ شرحاً كنْتُ قدْ

فهِمتُ قوْلَه .

فأدركتُ أنَّهُ قدْ هَزَمَنِي من هذهِ

النافذةِ ، حاولتُ أنْ أقْفِزَ

وأتسلَّلَ إلى نفسِهِ عبرَ نافِذةٍ أُخرى فقلتُ

له : أتعرفُ شكسبيرْ ؟

قالَ : قُلِ الكاتبَ الإنجليزيَّ " وليام شكسبير "

الموْلودَ في أبريل عامِ أربعةٍ وستينَ

وخمسمائةَ وألف ..

ومن أعماله تاجر البندقيَّة والملك لير وماكبث

وهاملت وعُطَيْل و ....

بدأ الإندهاشُ يَدُبُّ في داخلي لأنَّه كانَ يقولُها

باللَّكنةِ الإنجليزيَّة ويُذكرُ تأريخَ هذه الأعمالِ

على التتالي دونَ توقفٍ أو تردُّدْ ..

ثمَّ أردفَ قائلاً : فشكسبيرُ كانَ فقيراً مثلي ..

ثمَّ نظرَ نظرةً عميقةً تجاهَ الأرضِْ ..

فحاولتُ أنْ أُطيِّبَ خاطرَهُ فقلتُ له : إنَّ الفَقْـرَ

لمْ يَكنْ يوْماً نقطةً سوداءَ في تأريخِ الفردِ .. و ..

لكنَّه استمرَّ غَيْرَ آبِهٍ ، قائلاً : لكنَّني أرى أنَّهُ كانَ

يقتبسُ بعضَ كتاباتِه من أعمالٍ سابقةٍ .. و ...

واستمرَّ بالحديثِ وأنا أزدادُ

اندهاشاً ..

حاولتُ أن أنْحُوَ بالحديثِ لمَجَالٍ آخَرٍ ..

الكيمياءْ .. ثمَّ الفيزياءْ ..

ولكنِّي لم أجدُ غيرَ الدَّهشةْ ..

كانَ رجُلاً يُحبُّ الشِّعْـرَ والشُّعَـراءَ ، خاصَّةً

الشعرَ العربيَّ الجاهليَّ وكانَ يحفظُ المعلقاتِ

السبعْ .. كلُّ هذا وهو لا يقرأُ ولا يكتُبْ !!! ..

سألتُه بأنْ يُخبرَني من أينَ وكيفَ تعلَّمَ هذا كلَّه

وكيفَ حَفِظَه ؟؟؟؟ ..

قال لي : لا تتعجَّلِ الأمورَ فسأُخبِرُكَ عن ذلكَ يوْماً

مَا ، ولكن يا بُنيْ اصْدُقِ اللهَ يَصْدُقُك .. ثمَّ سكَتْ ..

ويبدو أنَّ ريقَهُ قدْ جفَّ تماماً فناولتُه قارورةَ

مَاءٍ كانتْ قَـابِعَةً بجانبِه وبها من الإحترارِ ما يَكْفي

لأنْ أذكرَه . وأحسَسْتُ أنَّنِي قدْ أرهقتُهُ أسئِلَةً

واستماعاً .. فرجَوْتـُـه أنْ يَذهبَ مَعِيَ.. لكنَّ رَفْضَهُ

كانَ قاطعاً .. وقال : أيْ بُنَيّْ هنا نلتقي وهنا نفترِقْ .. !!

فاستأذنْتُه بالرَّحيلِ على أنْ أعودَ إليهِ باكِراً ..

وفي الصباحِ أتيتُه كما الوعدُ ، وكعادتِه يُمْتِعُني بالحديثِ ..

فقد كنتُ أتردَّدُ عليه كثيراً ولا أغيبُ عنه أُسبوعاً ..

وذاتَ مرَّةٍ خطَرَتْ لي فكرةٌ بأنْ أستفيدََ منه في علومِ الحديثِ

والمذاهِبِ الأربعةِ فقدْ كُنْتُ قاصِرَ الطَّرْفِ فيهِمَا ،

فرتَّبتُ أُمُورِيَ ؛

وذهبتُ إلى ذلكَ المكانِ المعهودِ الذي يُمارِسُ فيه

مِهْنتَهُ غيْرَ المُحبَّبةِ إليْهْ !! لكنِّي لم أجِدْهُ هُنَاكْ ..

تفَرَّسْتُ المكانَ جيِّداً فلمْ أرَ لهُ أثراً .. ولكنَّ ثمَّةَ

جَمْعٍ ضَخْمٍ من النَّاسِ في مكانٍ غيرَ بعيدٍ من

مكانِنَا المَعْهُودْ ...

تحرَّكتُ تجاهَهُمْ .. وأنا أُردِّدُ ماذا هناك ؟؟

ماذا هناك ؟؟...

قالَ لي أحدُهم دونَ أنْ يَلْتَفِـتَ إليَّ أنَّ هناك

حادثاً قد وقعَ قبلَ قليلٍ لرجُلٍ باليَ الملابسِ

والشَّكلِْ ، ْفقد دَهَسَتْه سيَّارةٌ وذهبتْ دونَ أنْ يُعرَفََ

قائدُهَا ..

قالها ذلكَ الرجُلُ بلا اكتراثٍ منْهْ ..

زاحَمْتُ الخَلْقَ واخترقتُ الصُّفوفَ حتَّى

وصلتُ ... حتَّى .... وقفتُ أمامَ ...

فوجدتُ صديقيَ مُمَدَّداً على الأرضِ جُثَّةً

هامِدةً ودَمُه الطاهرُ تِبْرٌ خالطَهُ التُّرابُ ..

ولا يبدو منهُ سِوَى رأسُه بشعرِه الأسودِ

المُجعَّـدْ ..

فانكفأْتُ عليهِ أتلمَّسُه والدمعُ يتقاطرُ منِّيَ

بلا توقُّفٍْ ..

وكانَ بعضُهم يقولُ : ( "لعلَّه ابْنهُ .." والآخر يقولُ :

" لا أعتقدُ أنَّ لهذا الرجلِ الشحَّاذِ أهْلاً فقد يكونُ

من بابِ الشفقةِ والعاطفة و .. " ) ..

.. وهمْ لا يدْرُونَ عنْ أيِّ شحَّاذٍ يتحدَّثُون وعنْ

أيِّ رجلٍ يتفوَّهُونْ .. ولا يعلمونَ أنَّهم أمامَ جُثَّةِ

عالمٍ أخطأتْهُ الملابسُ وأقْصَتْهُ المِهْنةُ ..

فَثَمَّةَ حديثٍ مَعكَ يا .. صديقيَ .. مات مَوْءُودَاً في

حُنْجُرَتي .. فهلْ ليَ مِنْ شحَّاذٍ

آخرٍ غيرِكَ فقد اعتراني بعدَكَ .. يا ..

أُستاذيَ الذُّهُولْ ..

فشكراً لغيابِكَ الحُضُورُ عندي ..

وشكراً لأنَّكَ غَـيَّرْتَ مَجْرَى التَّأريخِ

فِـيَّ ..

وسوفَ أظلُّ أبداً لا أذكُركَ .. لأنِّيَ ..

أبَداً .. أبداً .. أبداً ..

لَنْ أنساكْ ...

وباقٍ أنتَ في الذكرى ..

وحتماً في القلبِ

وفي الرَّحِيلْ ..


الرِّياض- 2004م .

قلم: محمد زين الشفيع أحمد

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى