الجمعة ٢٨ نيسان (أبريل) ٢٠١٧
رواية «وجع بلا قرار»
بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش

إضافة نوعية إلى أدب السجون

"سدوا علي النور في زنزانة، فتوهجت في القلب... شمس مشاعل، فإذا احترقت على صليب عبادتي، أصبحت قديسا بزي مقاتل".

"وجع بلا قرار" رواية جديدة للأسير والمناضل الفلسطيني كميل أبو حنيش المحكوم بخمسة عشر مؤبدا، والصادرة عن المكتبة الشعبية عام 2017، تنتمي هذه الرواية إلى أدب السجون الذي كتبه الأسرى الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال.

ولأدب السجون امتداد في تاريخ الأدب الفلسطيني، وتاريخ الأدب العربي والعالمي، فثمة أسماء عديدة عربية وعالمية سجلت تجربتها في السجون شعرا ونثرا. إلا أن الكتابة الإبداعية للأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال تبقى هي الأكثر شمولية من حيث الكم والكيف، بين تجارب الشعوب وحركات التحرر، لارتباطها بالقضية الفلسطينية، وطبيعة الاحتلال الإسرائيلي الذي يعد الأطول في التاريخ.

وقد فرض أدب السجون الفلسطيني نفسه كظاهرة أدبية على الأدب الفلسطيني الحديث، علما بأن هذه الظاهرة بدأت مع خليل بيدس في بدايات القرن العشرين زمن الانتداب البريطاني، حين سجل تجربته في سجون الانتداب في كتاب بعنوان"أدب السجون". وإلى جانبه كتب محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد بعضا من أشعارهم داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، كما كتب معين بسيسو تجربته في السجون المصرية بعنوان "دفاتر فلسطينية".

وقد مر هذا الأدب - الذي تشكل في أجواء من القهر والقمع مارسته ولازالت تمارسه إدارة سجون الاحتلال على الأسرى الفلسطينيين- بمراحل عدة أدت إلى صقله، وإثبات حضوره في المشهد الأدبي الفلسطيني. فكان صورة حية وواقعية لنضالهم ومعاناتهم في أقبية التحقيق وسجون الاحتلال. وقد ارتبطت بداياته مع الشعر كونه أكثر الأنواع الأدبية استجابة للتعبير عن المعاناة، ففي عام 1975، صدر عن معتقل (بئر السبع)، أول ديوان شعري مشترك لعدد من الأسرى الفلسطينيين مكتوب بخط اليد بعنوان"كلمات سجينة"، وفي الثمانينيات تطور إبداع الأسرى الأدبي، حيث لعب المثقفون والأكاديميون الذين اعتقلوا في فترة الانتفاضة الأولى دورا مهما في توجيه الكتاب والأدباء من الأسرى نحو آليات وقواعد الكتابة الفنية للأدب، وفي هذه الفترة تمكنوا من تهريب إنتاجهم الإبداعي إلى خارج السجون والمعتقلات الإسرائيلية. ومن جانبها اهتمت الصحف والمجلات ودور النشر المحلية بنشر إنتاجهم، ما شجعهم على مواصلة الكتابة، لتطوير إبداعاتهم التي توجت بإصدارهم لعدد من الروايات.

وشهدت فترة ما بعد أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية، وانتفاضة الأقصى نشر كتابات متعددة شعرية ونثرية، لعدد من الأسرى الذين تحرروا من قيد الأسر، كعائشة عودة التي كتبت سيرتها بعنوان "أحلام بريئة"، والمتوكل طه في روايته "رمل الأفعى-سيرة كتسيعوت- أو أنصار3"، ووليد الهودلي في روايته"ستائر العتمة". بالإضافة إلى إصدارات أخرى لعدد من الأسرى الذين لازالوا يقبعون في سجون الاحتلال. فقد صدر لشعبان حسونة الذي يقضي حكما مدى الحياة رواية "ظل الغيمة،2006"، ولباسم خندقجي المحكوم بثلاثة مؤبدات ديوان شعري بعنوان" طقوس للمرأة الأولى،2006"، ورواية"مسك الكفاية-سيرة سيدة الظلال الحرة،2014"، إلى جانب العديد من الإصدارات الشعرية والنثرية لغيرهم من الأسرى.

"وجع بلا قرار" بنيتها ومضمونها:

يحدد كميل أبو حنيش نصه الأدبي الذي يقع في (179 صفحة) من القطع المتوسط، فنقرأ على الغلاف رواية، يقسمها إلى أقسام يحمل كل منها رقما يروي فيه قصة حب وعشق ووطن ونضال، وخيبات وانكسارات، يروي عن الحزب، ورفاق النضال، والشهداء منهم، وعن آخرين يبدلون انتماءاتهم السياسية والفكرية جريا وراء مكاسب مادية ومصالح شخصية، وعن الانتفاضتين، وأوسلو وتبعاته الكارثية، كما يروي عن هموم الأسير الإنسان، وعن ندوب الطفولة وعذابها، وعن حياة السجن. فيتداخل الخاص بالعام، والسياسي بغير السياسي، والحلم والأمل بالهزائم والخيبات.

تشد الرواية القارئ منذ عتباتها الأولى، مرورا بجماليات اللغة وقوتها ورصانتها، وبنيتها الروائية المتميزة، فهي لا ترتكز على حكاية واحدة لتسردها في خط زمني متسلسل متصاعد، بل ترتكز على حكايتين، حكاية المؤلف الضمني/الراوي (الذات الثانية للكاتب)، وحكاية بطل الرواية علاء. يرويها أبو حنيش عبر أسلوب التوليف بين الحكايات كما يسميه( تزفيتان تودوروف في كتابه الشعرية)، أي أسلوب السرد المتداخل-تداخل الحكايات وتشظيها_ فالراوي يحاول أن يجمع حكاية علاء عبر أوراقه(مذكراته) التي يسلمها له، وعبر حواراته معه على البرش، أو في ساحة الفورة، فتتشظى حكاية علاء وتتقاطع في كثير من مفاصلها مع حكايته، لا بل تتشابه معها أحيانا. فيبدو علاء صنوا للراوي/ المؤلف الضمني(الكاتب). ويظهر ذلك في غير مكان من الرواية.

 "كلما أمعنت في مطالعة أوراق علاء كلما عثرت على تشابه كبير بيننا، فكل حدث وكل حكاية ثمة ما يماثلها لدي". (50 الرواية)

 "أوراقه باتت شغلي الشاغل، وكأنني أنا صاحبها، ثمة نصوص فيها تشبهني".(82)

 "غمرني إحساس وأنا أتصفح أوراقه أنه يكتب عني كل جملة خطها في أوراقه، فتستفز ذاكرتي، واستغرق بأحلام اليقظة محاولا تذكر أحداث مشابهة مرت بي".(107)

لذا يحاول أبو حنيش أن يكتب حكايته وحكاية علاء، حكاية الإنسان والمناضل والعاشق والأسير الفلسطيني، ليشكل نصا جديرا بالتأمل، وعلى تماس مع الحكاية الفلسطينية وجزء منها. "أوراق علاء ألهمتني أن أتهيأ لكتابة ما قد مر معنا من أحداث، ومن حكاياتنا الصغيرة والكبيرة أثناء الانتفاضتين، وما بينهما من سلاح زائف، فالحكاية لا بد لها من يرويها، ممن بقي على قيد الحياة وقيد الوفاء". (59)

يتخذ المؤلف الضمني/الراوي من الذاكرة إطارا مرجعيا لسرد حكايته وحكاية علاء فتتداخل الحكايات، لأن عملية التذكر لا تخضع لمنطق التسلسل أو التتابع الزمني الذي تمدنا به الأحداث والوقائع، ولأن السرد من الذاكرة لا يمكن إلا أن يكون مفككا. وكما يقول الروائي اللبناني الياس خوري" القصة لا يمكن أن تكون مكتملة، لا يمكن إلا أن تكون متقطعة، ومكسورة، والحياة ليست خيطا، نعرف أين يبدأ وكيف وإلى أين ينتهي".

وفي الرواية تنفتح الذاكرة على نوافذ الماضي، فتشكل كل نافذة حكاية لا يلبث الراوي أن يغلقها, ففي لحظة ما يعمد إلى بترها أو قطعها، لتبدأ في لحظة نهايتها حكاية أخرى جديدة مختلفة أو مكملة لها.فمثلا يروي علاء في مذكراته عن سجن الفارعة، فيتذكر الراوي تجربته في هذا السجن أيضا، "وبعد إجراءات روتينية تتعلق بالأمانات وألبسة السجن ألقيت نظرة نحو أفراد خليتي...تفاهمنا بالنظرات والابتسامات الواثقة...سرت أمام بضعة جنود بخطى واثقة ولا يتردد في ذهني سوى الاعتراف خيانة"، فيتذكر الراوي حكايته" قبل أن أقلب صفحة من مذكرات علاء...سهمت، كنت أنا الآخر قد ولجت قدماي ذات شتاء لسجن الفارعة، أعرف زنازينه وساحات شبحه ومحققيه، وأعرف خزاناته الأسمنتية الضيقة والباردة، وأعرف أيضا المعنى العميق لشعار الاعتراف خيانة..." (66). وفي السرد تبدو تقنية الراوي جلية وواضحة، فهو يعمد إلى الإبقاء على الحكاية الأولى مفتوحة متناثرة، بل قد تمتد حتى نهاية سرد الرواية قبل أن يعود ليلم شظاياها المبعثرة ويغلقها. فحكايات علاء والراوي بناها أبو حنيش من نتف المعلومات المتناثرة في جسد النص، والتي تتجمع فوق بعضها بشكل تراكمي، وكلما تقدمتا في القراءة نكتشف جوانب كانت غامضة أو غير مترابطة. فحكاية الحب التي جمعت بين علاء وأنهار لا نتعرف عليها دفعة واحدة فالراوي ينثرها في فضاء روايته، ويستجمع خيوطها بين حين وآخر من خلال أوراق علاء أو حواراته معه، دون الوصول إلى خاتمة، معتمدا على الكثير من الإرجاء، قبل أن يلم شظاياها المبعثرة في نهاية الرواية. وحكايته أيضا مع سهام زوجة والده، وغيرها من الحكايات.

وفي جانب آخر من جوانب بنائها الفني تتميز الرواية بتوظيف أبو حنيش لتقنية التناص التي جاءت صدى لثقافته الواسعة المتسربة إلى نصه. فروايته تدخل في علاقات تناصية متعددة مع أشكال وأنواع أدبية أخرى، من داخل الجنس الروائي ومن خارجه (روايات كنفاني، الشعر العربي قديمه وحديثه، الأساطير، الأمثال الشعبية، فوتشيك، فلاسفة الإغريق...وغيرها). تتراوح هذه العلاقات ما بين الحضور والغياب مستثمرة أبعادها التخيلية وطاقاتها الترميزية مدمجة إياها ضمن تشعبات السرد فيها بشكل أثرى النص الروائي وفتحه على قراءات تأويلية.

ومن حيث اللغة تفتقر رواية "وجع بلا قرار" للتعدد اللساني، فقد أدخل أبو حنيش شخوصه في مياه نهر(ليثي)، فجاءت لغة شخوصه بكافة مستوياتهم، لغة رصينة قوية في ألفاظها وتراكيبها، طافحة بالوجد والوجع والإصرار، تميل إلى لغة الشعر وجمالياته، وما فيه من اقتصاد لغوي وتكثيف."الأرض تصادر، أقدام العسكر ما برحت تفتك وتحاصر، تقتل وتصادر، تعتقل البهجة وتحول آمال الناس لماء يتبخر، وأيادي العمال تشيد في (إسرائيل) بروجا، وتحرك آلات معاملهم وتخدم راحتهم. الفقر، الجوع، الخوف، الظمأ، الإذلال اليومي، وسجون لا تنفك تفيض بشباب في عمر الورد، القتل بلا سبب والإبعاد على الشبهة، الجرافات تجرف بيوتا ومزارع لا ذنب لها إلا ذنب وقوف التاريخ على ناصية الزمن...طفح الكيل...المرجل يغلي، زمن الذل قد ولى...انتفض الشعب فكانت ثورته مثل نبي يحمل على كاهله رسالة. شعارات تملأ جدران بيوت الفقراء تحرضهم..." (36)..
ومن حيث المضمون تجاوز أبو حنيش في روايته صورة الأسير الفلسطيني ومعاناته في سجون الاحتلال ومعتقلاته، ليسلط الضوء على عالمه الداخلي، وعلى حكاياته الصغيرة والكبيرة خارج جدران السجن، وعلى همومه وأحزانه، فقد جعل منه إنسانا ومناضلا يحلم ويحب، يتألم ويفرح ويحزن، يشعر بالضعف والانكسار. ففي الرواية نقرأ عن عقدة اليتم لدى علاء، وما تركته من ندوب تمثلت في بحثه الدائم عن الأمومة" أضناني البحث عن رائحة أمومة تطفئ ظمأي، وتخصب روحي. وفي كل مرة كنت أتخلى عن أم لأبحث عن أخرى، لأشعر بالانتماء التام وأحس بالدفء، دفء العلاقات الحميمة في الصداقات في الحب وفي العلاقات الرفاقية في الحزب، ومع أول برودة أستشعرها في الأشياء التي أنتمي إليها، سرعان ما يغمرني الرعب وأغدو كمن فقد والدته ثانية" (29). وضمن إطارها الإنساني تحتفي الرواية بالحب والمرأة عبر ساردها وبطلها علاء." فالحب هو قاهر الموت... وهو أقوى سلاح يعينك على الصمود والبقاء، فتحرص أن تشحذه كي لا يصدأ، وأنت تخوض نزالا متواصلا مع الموت" (113،114). والمرأة هي نقطة ضعف الرجل مهما بلغت سطوته، وهي حجر سنمار الذي يقوم عليه البناء"فكيف بمقدورك أن تعشق وطنا بدون طيف امرأة" (161). في الجانب الاجتماعي ترسم رواية أبوحنيش صورة جميلة للمرأة الفلسطينية عبر شخصية أنهار تقترب من الواقع في وفائها لحبها ولمبادئها، وفي مشاركتها للرجل في ميدان النضال في الانتفاضة الأولى، وتراجع دورها في الانتفاضة الثانية التي غلب عليها طابع النضال المسلح. (109)

وعلى الصعيد الفكري والسياسي يرسم الراوي/ المؤلف الضمني للرواية من موقعه كمناضل خارطة الطريق للثوري، فيبدو كالمسيح المعلم في سرده عن صفات القائد، والالتزام الحزبي، وسلامة المبدأ والإخلاص للفكرة، والانحياز لقيم العدل والمساواة ومحاربة الفساد والانقسام والظلم.. (90،91). وفي السياق ذاته تؤسس الرواية لنهج جديد في التفكير، خلافا لما هو متعارف عليه في الفكر السياسي العربي من تقديس للرسول.إذ يرى الراوي وبناء على تجربته وتجربة علاء مع المعلم النبي أن على الإنسان أن يكفر بالرسول إذا تخاذل وثبت زيفه، والإيمان بالرسالة إذا صحت.(72)

وعليه يمكننا القول أن رواية " وجع بلا قرار" التي كتبها أبو حنيش في عتمة زنازين الاحتلال ومن خلف القضبان، محتفيا بأوجاعه، وهو يحتسي الأمل، ويعيش على حلم بغد أجمل. بدت لنا إضافة نوعية لأدب السجون في طريقة بنائها، ومضامينها الفكرية والسياسية والاجتماعية والإنسانية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى