المرأة في رواية " مرافئ الوهم " لليلى الأطرش
تستعير ليلى الأطرش الروائية والإعلامية الفلسطينية الأصول، فضاء الإعلام ليكون الفضاء المتخيل لشخوص روايتها " مرافئ الوهم ".
موضوع الرواية:
تتناول الراوية موضوعات تقليدية تتمثل بشكل خاص بمشكلة المرأة العربية وبالتابوهات ( السياسية والاجتماعية والدينية )، لتصوير معاناة الإنسان العربي إجمالاً. فالنص الموازي الذي نقرأه على لوحة الغلاف الخلفية يلخص أحداث الرواية وهي: " عالم من الرومانسية والاشتهاء والتعاطف والحب والامتلاك والصدام والإدمان يفجر كثيراً من المسكوت عنه من خلال العلاقات العاطفية المدمرة لفنان بوهيمي وزوجة عاشقة تتمرد، وصحفي يتاجر بفكره، وإعلامية تسد فراغها العاطفي بالنجاح والشهرة، ومخرج يدمن النساء.
رحلة تتقاطع فيها المصائر والمسارات لفريق إعلامي عربي من فلسطين والعراق والخليج في أثناء مهمة لهم في لندن ليواجه كل منهم الآخر في حياة يعيشونها وأخرى مشتهاة بسطت ظلالها على الواقع العربي ".
رواية نسوية:
تحمل " مرافئ الوهم " صفة الرواية النسوية لا لكون كاتبتها امرأة، بل لأنها تطرح هموم المرأة وقضاياها بشكل واضح، بعيداً عن الصراع الجنسوي رجل ضد المرأة. فهي تتخذ من المرأة محوراً للبطولة، ومحوراً للصراع، لترسم صورة فنية للمرأة في علاقتها بذاتها وبالآخرين.
وكما في روايات الكاتبة الأخرى تمثل بطلة الرواية نموذجاً للمرأة المثقفة القادرة على النجاح في حياتها العملية مقابل الرجل الذي يبدو شخصية معطوبة يتخلى عن مبادئه ويتاجر بها، وفي نظرته إلى المرأة يعكس مفاهيم الذكورة التي ترى فيها مجرد أنثى تحقق رغبات الرجل، ووسيلة يحتمي بها من عجزه وإحباطاته، ويمارس عليها قمعه واضطهاده.
هاجس المرأة الكاتبة:
يتمحور هم الكاتبة الإبداعي كغيرها من النساء المبدعات حول رغبتها في كسر القالب الذي وضع فيه الرجل / الكاتب المرأة - قالب الأم والخادمة والعذراء والمومس -. فالرجل لا يريد أن يرى للمرأة صورة مركبة، بل يريدها حالة أحادية، يُحقق تفوقه عليها من جهة، وتخضع لرغباته وأهوائه من جهة ثانية، فهو محكوم بإرث ثقافي واجتماعي تربى عليه، وليس من السهل التخلي عنه. وإن كان الكثيرون يُنظرون لحقوق المرأة وحريتها، لكن تنظير الرجل الشرقي لا يعني اقتناعه أو ممارسته، فهو يرغب في شيء ويطبق آخر، مشدود إلى الماضي ويتغنى بالمستقبل.
من هنا كانت المرأة المبدعة أكثر قدرة على تصوير عالم المرأة الداخلي بكل ما يحوي من هموم وقلق وحزن واغتراب، على الرغم من أن المجتمع " ما زال ينظر إلى المرأة بوصفها دخيلة على الأدب، ويقرأ ما تكتبه لا كفن، بل وسيلة للتلصص على حياتها الشخصية، والتعرف على أسرارها " ( سوسن ناجي " المرأة المصرية والثورة " ص282 ).
وتبدو ليلى الأطرش في روايتها "مرافئ الوهم" قد تجاوزت هذه النظرة، فقد استطاعت أن تحمل روايتها رسالة إلى القارئ من خلال خلخلة النظام الاجتماعي والثفافي السائد. فالرواية لها تأثيراتها العميقة في المجتمع، فهي ليست مرآة تعكس الواقع كما هو، بل تكشف عن تناقضات المجتمع وأزماته الظاهرة والخفية، وتؤسس لوعي جديد.
المرأة في " مرافئ الوهم ":
بداية يطرح السؤال نفسه، كيف بدت صورة المرأة في هذه الرواية؟ هل تختلف عن صورتها في روايات الكاتبة الأخرى؟ وهل كان هاجس الكاتبة تحرير المرأة اجتماعياً وجسدياً؟ وهل كان الرجل بالنسبة للمرأة هو القوة التي تحول بينها وبين حريتها؟
ولكي نتعرف على صورة المرأة في هذه الرواية لا بد لنا من التعرف على صورتها في بعض روايات الكاتبة الأخرى. فقد كتبت ليلى الأطرش عدداً من الروايات، نأتي على صورة المرأة في بعضها، منها: وتشرق غرباً، " وامرأة للفصول الخمسة "، و" ليلتان وظل امرأة ".
ففي رواية " وتشرق غرباً، 1988 "، يتصدر المشهد الروائي شخصيات نسائية متعددة تتباين في حضورها. وتبدو هند النجار أكثرها حضوراً، إذ تمثل نموذجاً للمرأة المتمردة. تحصل على حقها في التعليم رغم معاناتها من قمع السـلطة الأبوية التي تميز بين الذكور والإناث، فوالدها رفض أن يبيع الأرض لتعليمها " شــو بيقولوا الناس؟ شـكري النجار باع أرضه علشـان يعلم بنت " ( الرواية ص111 )، ومعاناتها لم تقتصر على حقها في التعليم بل على حقها في الزواج ممن تحب فقد رفضت عائلتها الزوج بسبب اختلاف الدين، وطالبها أشقاؤها بالحفاظ على سمعة العائلة، وعلى العادات، والتقاليد التي استباحوا لكونهم رجالاً، ويحرمونها عليها لأنها امرأة.
تخضع هند لرغبة العائلة ولعاداتها وتقاليدها، وتصبح رغم ما حصلت عليه من حقوق - التعليم والاستقلال والاقتصادي -، مسلوبة من أبناء جيلها من الذكور ( أشقائها )، من أكثر هؤلاء وعياً بحرية المرأة وحقوقها، وذلك لأن المرأة وحدها هي التي استطاعت أن تتمثل الدلالة الحضارية لعصرها بينما تخلف الرجل عن الركب مطمئناً إلى خلود أسـوار الحريم ". ( سوسن ناجي " المرأة المصرية والثورة "، 115 ). فتنظير الرجل الشرقي عن حرية المرأة لا يعني اقتناعه أو ممارسته، ونظرة المجتمع للمرأة لن تغير إلا بتقدم المجتمع ومواكبته لحركة الواقع الاجتماعية والسياسية لذا تتغير هذه النظرة حين تُفسح الثورة للمرأة المجال للنضال إلى جانب الرجل، لأن تحرير المرأة مقياس لتحرر الإنسان. وانطلاقاً من هذا الوعي تنضم هند النجار لحركة المقاومة، فيزداد إحساسها بذاتها وهويتها وقناعتها بأن التحرر الحقيقي للمرأة لا يتم إلا بالنضال إلى جانب الرجل، وهو وحده الكفيل بإذابة الترسبات والحساسيات بين أفراد المجتمع بتشكيلته الجنسوية والأثنية.
وفي رواية " امرأة للفصول الخمسة، 1990 " تتباين صورة المرأة من خلال نادية الفقيه التي تمثل المرأة في حالات الخضوع والتمرد. وفيها تحاول الروائية تقديم الواقع الخارجي والداخلي لبطلتها، فتغوص في الوجدان النفسي للشخصية، عبر رصد الواقع. فنادية الفقيه تُعد شخصية دينامية (نامية) تخضع لتحولات عدة؛ كما ميزها (فوستر)، تستمد عدداً من خصائصها من العالم المرجعي للقارئ، إضافة إلى خصائصها المعطاة في النص، ما يعني أن صورتها في الرواية عبارة عن خليط ما بين المعطيات الموضوعية للنص والمساهمة الذاتية للقارئ.
تمثل نادية في بداية زواجها دور المرأة التقليدي، المرأة الخاضعة التي تؤثر رغبات زوجها على رغباتها وقناعاتها " الكتاب في يدي يزعجه كان يصر على سحبه من يدي ... ثم بدأت ألقيه حين يدخل، أردت أن أكون زوجته ... فأنا من سلالة تلك الأعرابية التي تناقلت النساء وصيتها " ( الرواية 42 ).
تشعر نادية بالفراغ والخواء في حياتها، رغم عيشتها المترفة. وهنا تحاول الكاتبة رصد معاناة المرأة النفسية وصراعها للتخلص من دور الأنثى الذي فرض عليها " يؤلمها أن تحس أنه لا يرى فيها إلا امرأته "(الرواية 20 ).
وحين تخرج من قالب الأنثى وتتمرد على الدور الذي رسمه لها زوجها – دور الزوجة الجميلة، والأم التي تحافظ على نسله، والمرأة التي تستجيب لرغباته – تمثل نادية دور المرأة المتمردة التي تحقق ذاتها بالعمل، فتصبح سيدة أعمال ناجحة بعيداً عن عمل زوجها.
وبعد سقوط قناع حبيبها الأول، وبطلها الثوري جلال الناطور الذي دخل لعبة الثروة والمال، وبعد أن حاول التحرش بها تربط نادية بين فحيعة الوطن، ومأساة المرأة في مجتمع ذكوري متخلف، فتزداد قوة وصلابة " تخيلت أن جلال أقدر على لمس إنساني الداخلي ... فإذا أنا له مجرد أنثى ... وهو رجل ... أنا ناديه الفقيه، لا يستطيع أحد أن يعرفها أو يملكها ... بل أنا منذ هذه اللحظة أملك نفسي " ( الرواية 128 ).
لكن على الرغم مما حققته نادية تبقى قدرتها كامرأة على إحداث التغيير محدودة نظراً لعدم الاتساق بين واقع داخلي متغير وجمود خارجي يتهددها. لذا تعجز عن اتخاذ قرارها بالانفصال عن زوجها حين يخونها، وتبقى أسيرة لدورها النمطي، وأمومتها التي أجبرتها على التضحية بحريتها من أجل الحفاظ على صورة أسرة متماسكة " اشتريت سكوته ... ليس من أجلك يا إحسان، ولكن للحفاظ على كرامتي وعلى صورتك أمام الأولاد " ( الرواية 200 ).
وفي رواية " ليلتان وظل امرأة، 1998" يُشكل القارئ صورة المرأة من خلال نموذجين مختلفين ظاهرياً للمرأة، يمثل كل منهما ظلاً للآخر في الحقيقة.
تلتقي الشقيقتان منى وآمال بعد غياب طويل فتسرد كل منهما عن حياتها ومشاعرها وهواجسها فنتعرف من خلالهما على العالم الداخلي والخارجي لهما.
تمثل آمال نموذجاً للمرأة المتمردة المثقفة، محامية مشهورة فرضت حضورها على مجتمع الرجال الذين كان يعز عليهم أن يضعوا قضاياهم في يد امرأة ( الرواية 42 )، تعلمت وتزوجت بمن تحب بمساعدة والديها اللذين شعرا بعقدة الذنب مما جنياه على شقيقتها الكبرى منى.
تصدم آمال بزيف العالم الذكوري من حولها حين حاول زوج شقيقتها الاعتداء عليها " كيف سمح لنفسه أن يتجرأ على كرامتي ... أهي تلك الذكورية التي تدفع بالذكر لأن يتجرأ على الأنثى حتى لو فاقته في إنسانيتها " ( الرواية 79 ). تكتم آمال هذه الحادثة وتطويها في خبايا نفسها، كما فعلت ناديه الفقيه في " امرأة للفصول الخمسة "، حين حاول شقيق زوجها التحرش بها، ففي مجتمع يحمل المرأة مسؤولية الخطأ، ويغفر للرجل خيانته، تُؤثر المرأة دائماً التكتم ولا تجرؤ على البوح بخيانة الرجل.
تحمل آمال في داخلها نموذج المرأة التقليدي فتتفانى في حب زوجها وخدمته " من أجله أصبحت زوجة وربة بيت يعود إليها " ( الرواية 86 )، لكنها تكتشف أن منطقه في الحب يختلف عن منطقها " كان يريد أماً لأبنائه، وكنت أريد أن أكون أنا وأماً، وأحببت أن أكون أنا وزوجة فأرادني امرأته فقط " ( الرواية 87 ). لذا تشعر آمال بحيرة وأزمة إزاء خلط الأدوار التي وضعت فيها، فقد تعلمت وعملت لتحمي نفسها من الاستغلال والاستلاب، ومع ذلك فالمتوقع منها هو عكس ما حققته تماماً، يتوقع منها التبعية لزوجها وطاعته والرضوخ لرغباته.
وتجسد آمال أزمة المرأة المعاصرة ومعاناتها حين تخرج إلى العمل، إذ تصطدم برفض زوجها الذي أحبها من خلال عملها، فيشتد الخلاف بينهما إزاء إصرارها على امتلاك ذاتها وحريتها.
وتتمادى آمال في تمردها ورفضها للواقع فتخرج عن طوق النمطية الأنثوية التي تقرها نظرة الرجل الدونية للمرأة فترفض الإنجاب لأكثر من طفل " لم يفهم عادل أن الحمل والولادة تؤكد دوري الأنثوي وخضوعي له " ( الرواية 116 ).
ومع تحقيق ذاتها تجد آمال نفسها في مأزق يدفعها إلى إنكار أنوثتها والتمرد عليها، وهنا تنفصم العلاقة بين المرأة وأنوثتها لصالح العمل الذي تحقق من خلاله الشهره والنجاح، إلا أنها تشعر بالغربة عن جوهرها الأصلي الأمر الذي يؤدي إلى إحباط شديد التعقيد في علاقتها بزوجها الذي يتركها لأخرى.
وحين تخسر زوجها، تحاول آمال أن تخفي انكسارها وهزيمتها حفاظاً على صورتها أمام الناس، وتحاول استعادته. وهي بذلك تؤكد أن المرأة على الرغم مما حققته من نجاح في عملها لم تتحرر بعد من نظرة المجتمع الذكوري للمرأة المطلقة.
وفي المقابل تمثل شقيقتها منى نموذجاً للمرأة الخاضعة " انكشفت إرضاءً لمن حولي وتعريت ... كل التفاصيل في حياتي لهم يناقشونها ثم يقررون " ( الرواية 24 ). ففي مجتمع تخضع فيه المرأة لقوانينه الصارمة، تعاقب منى على حبها لهشام بحرمانها من التعليم الجامعي، وإجبارها على الزواج بآخر.
وكما هي المرأة في مجتماعتنا الشرقية، تحاول منى إخفاء شعورها بالتعاسة والخيبة، فتنجح كأم وزوجة وعاملة. تبدي ظاهرياً الشعور بالرضى والتعود على حياتها الزوجية، لكنها في لحظة مكاشفة مع شقيقتها ما تلبث أن تبوح بمشاعرها تجاه ذلك " استمر زواجي لأني حمارة وضعيفة ... لم أستطع مقاومة الأهل أو الحياة أو الناس " ( الرواية 128 ). وهنا تظهر مني أن مشكلة المرأة الأساسية تكمن مع ذاتها، لأن قلائل من يستطعن امتلاك ذواتهن في مواجهة المحيط العائلي والسلطة الأبوية وتقاليد المجتمع. وبالتالي نجد أن النموذجين نموذج المرأة المتمردة والخاضعة يتساويان في شعورهما بالمرارة والحسرة والخيبة والفشل، فكلاهما ظل لأمرأة واحدة، يضغط عليها المجتمع الذكوري بثقافته وقيوده وقوالبه.
وفي رواية "مرافئ الوهم، 2005" تضع الكاتبة الأحداث على خط يتأرجح بين الحاضر والماضي والمستقبل، يبدأ السرد من حاضر شادن الرواي بطلة الرواية ولقائها المرتقب مع كفاح أبو غليون " أرتعد إذ أستعد لك. أنا المرأة التي ملكت مفاتيح الكلام " (الرواية 5 )، وفي سردها تسترجع الماضي المنسوج في ذاكرتها فنتعرف من خلاله على أبعاد شخصيتها. ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.
يجمع الحب بين شادن وكفاح في الماضي، فترفض عائلتها كفاح لاختلاف الدين، رغم اســتعداده لتغيير دينه، فترضخ شــادن لقرار عائلتها تماماً مثل هند النجار في رواية الكاتبة " وتشرق غرباً "، إذ تتشابه تجربة شادن مع تجربة هند التي وقفت عائلتها في وجه زواجها من مروان نصار المسلم لاختلاف الدين أيضاً.
وتبدو شادن كهند عاجزة عن القفز عن تقاليد العائلة، محكومة بثقافة العيب والحلال والحرام. لذا تمضي هي وكفاح كل في طريقه.
تحاول بعد حبها الفاشل ترميم حياتها فتتزوج من آخر، لكنها تصطدم بخيانته فتصر على الطلاق وتحصل عليه رغماً عن أهلها الذين وقفوا إلى جانب الزوج الخائن " ثار أبي، وندب حظه ابنة متهورة تطلق رجلاً ناجحاً ... وأقسم أن يقاطعني " ( الرواية 13 ).
وهنا تبدو شادن شخصية بيرونية متمردة على عادات مجتمعها وتقاليده، تطلق زوجها بإرادتها بعد أن صدمتها العلاقات الاجتماعية ذات الطابع الذكوري التي تتيح للزوج الخيانة، ورأت فيها تعدياً على فرديتها وسحقاً لإنسانيتها. " رفعت صوتي كما لم يعهد أبي أو خبرته من نفسي ... أخرجت الآخر من حياتي بقراري وحدي " ( الرواية 13 ).
رضخت شادن للعلاقات الاجتماعية التي حرمتها ممن تحب، لكن القمع الذي مورس عليها حين خانها زوجها، دفعها للتمرد لتؤكد حريتها الفردية.
وما بين زوج خائن وحبيب غادر يصبح العمل نوعاً من الخلاص لتفريغ الهموم الداخلية، لذا تشق شادن طريقها إلى الشهرة والنجاح ( إعلامية وروائية )، وتثبت جدارتها بحرية انتزعتها رغماً عن أهلها. لكن وعلى الرغم من بريق الشهرة والنجاح لم تستطع شادن التحرر من إرثها الثقافي والتربوي فخطواتها كانت مربوطة ومغلولة إلى عقل يحدد مسيرتها، وتمردها كان محسوباً بمقدار " أنا امرأة ... تحلم بمغامرة تحيي جذوة الحياة وتقلبها فلا تجرؤ ... وأحسد نساء يندفعن بعاطفة وإقدام إلى المغامرة " ( الرواية 16 ). وهنا تبدو شخصية المرأة رغم تمردها محصورة ضمن إطار الفرد الذي يملك العقل الحسابي، إذ لا يعبر صاحبه عن مشاعره أو أفكاره أو يتصرف إلا بما يخدم غاياته ومراميه. "حليم بركات المجتمع العربي في القرن العشرين، 755"
ويبدو أيضاً أن الموقف الأيديولوجي عند الشخصية غير منفصل عن موقف الكاتبة، فمفهوم الحرية عند شادن ومن خلفها الراوئية مرتبط بدرجة وعي المرأة وتصورها لنفسـها ككائن مستقل يرى أن الحرية هي وعي بالضرورة الاجتماعية والتربوية، التي تحدد علاقتها بالآخر ضمن إطارها المشـروع. لذا لم تجرؤ شادن على المغامرة، بل تذهب إلى أبعد من ذلك إذ ترى أن القدر هو الذي يحدد مصيرها " تفرض الحياة واقعها وسطوتها وشروطها فنقبل دون أن نفهم ... " ( الرواية 8 )، ولأن شادن تنتمي إلى بيئة محافظة بعاداتها وتقاليدها تكتم عواطفها " علمتني أمي أن امرأة عربية مثلي يضيرها أن تصرح بمشاعرها "، ولأنها كذلك تخفي سرها عن الآخرين، وتغلف الأسى والخذلان في حياتها بمرح ظاهر كي تحافظ على صورتها أمام الناس.
ورغم مرور السنين تحتفظ شادن بحب الماضي في أعماقها وكأن الماضي يسكن الحاضر ويفعل في حركته "هل خطر لك في فراق السـنين أنني كنت أنجح من أجلك أتميز لتعرف أشتهر لتســمع " ( الرواية 27 ). وحين يفرض عليها لقاء كفاح بعد خمســة وعشــرين عاماً، تبالغ في مظهرها وأناقتها رغبة في استعادة الماضي وتجديده، فتبدو امرأة تقليدية تحاول التأثير على الآخر من خلال مظهرها. لكنها حين تلقاه تتعمق خسارتها لرجل الماضي فخسارة الماضي مقدمة لخسارة الحاضر " وجه غير هذا احتلني وضاع فيه العمر " (الرواية 24 ).
وفي ذات الرواية تمثل سلاف نموذجاً مشابهاً لشادن الراوي في خيبتها وخسارتها لمن أحبت، ويتعاون الشكل الفني للسرد الذاتي في إعطاء صورة عن سلاف التي تروي بضمير الأنا عن علاقتها بجواد، كما روت شادن عن علاقتها بكفاح. وما بين استحضار سلاف واسترجاعها لماضيها نتعرف على الأبعاد المختلفة للأزمة التي تعيشها كامرأة.
فقد تعرفت على زوجها جواد الجبالي في كواليس مسرح الفن في بغداد، وتزوجا رغماً عن عائلته، ورحلا إلى لندن.
تبدو سلاف شخصية متمردة منذ طفولتها " منذ وعيت وغير العادي هاجسي، وأحلم بدور لم يلعبه سواي "( الرواية 74 )، فرغم تقاليد العائلة الصارمة حطمت أسواراً وأصفاداً قبل زواجها وبعده. وفي تمردها تبدو سلاف أكثر جرأة من شادن الراوي، فقد اتخذت من صلابة خالتها لميعة وقدرتها على النجاح مثالاً تحتذي به. لكنها تتشابه مع شادن في سمة البطل البيروني الذي لا يمكن له أن يحقق ذاته داخل أطر المجتمع التقليدية التي تحد من حريته الفردية.
تعاني سلاف من نزق الرجل وطيشه. الرجل الذي يقف إلى جانبها في عملها ودراستها، ويسلبها في المقابل كرامتها وإنسانيتها، يجرحها بكلماته ثم يتوسل الصفح. يطردها مطلقة ثم يعيدها باكياً معتذراً، وما بين طلاق وعودة، وما بين بوهيمية الحب والغفران تتحول العلاقة بينهما إلى تعذيب سادي، فيفشل زواجهما.
ترفض سلاف زواج المحلل أو زواج المتعة وترى فيه نوعاً من القهر والاختزال "لن أقبل المحلل ففيه امتهان لي، ولن أنام مع غيرك لأعود لك" (الرواية 87).
وتبدو سلاف في علاقتها الجديدة مع جواد امرأة أخرى أنضجتها التجربة وبدلت وعيها، وأخرجتها من ذاتها الأولى، فالزمن كان كفيلاً لفهمها معنى الأنوثة والحياة.
وكما هي شادن الراوي تصبح سلاف بعيداً عن زوجها امرأة قادرة، فهي لن تكون رهن إشارة الرجل "لن أخدع ربي من أجلك أو أمارس الحرام لتنكح وتطلق متى تشاء ..." (الرواية 89).
لذا ترحل سلاف بأولادها بعيداً عن جواد الذي لا يرى فيها سوى جسدٍ يشتهيه، وبعيداً عنه تشق طريقها في الحياة، وتنجح في عملها، وتفرض احترامها على الجميع، فتمتلك ذاتها وحريتها. ورغم ذلك تجهد لإخفاء فشل زواجها عن أعين الآخرين كما أخفت شادن فشلها العاطفي عنهم. لتحافظ على صورتها أمام الناس، لكنها حين يصاب جواد بالشلل تقف إلى جانبه مراعاة لعشرة كانت، وحباً لأولادها.
هذه هي المرأة في "مرافئ الوهم" كما هي في روايات ليلى الأطرش الأخرى جاءت نقيضاً لصورتها في ذهن الرجل أو كتاباته، لكنها في الوقت ذاته لا تعكس الصورة المطلوبة للمرأة كما تريدها الكاتبة، كونها تنتمي إلى بيئة محافظة لا زالت ترزح تحت ثقل منظومة القيم والعادات والتقاليد التي صاغها المجتمع الذكوري.
على الرغم من محاولاتها عبر شخصياتها النسوية التمرد على تابوهات المجتمع- الدين والسياسة والجنس- وتحقيق التوازن المفقود بين الذات الداخلية للمرأة وذاتها الاجتماعية، بين ما ترغب بإعلانه وبين ذلك المسكوت عنه، لردم الهوة بين الأنا والعالم، والبوح بكل ما لا تستطيع وتجرؤ على البوح به على الصعيد الشخصي، إلا أنها تبقى أيضاً –الكاتبة- محكومة بالضرورة للشرط الواقعي الذي تتحرك فيه المرأة/البطلة، أي الشخصية المحكومة لإرثها الثقافي والاجتماعي.
وبالعودة إلى نصوص الكاتبة، يلاحظ القارئ أن الروائية رصدت معاناة المرأة في الواقع، لتبني عالماً موازياً للعالم الحقيقي، تسلط من خلاله الضوء على جوانب من تلك المعاناة، تحرك المياه الراكدة، وتزيل الستار عن عالم المرأة الداخلي الذي يمور بالتمرد والثورة، وهي إذ تفعل ذلك، لا تنظر لأفق جديد أو حياة مغايرة ينبغي على المرأة أن تسعى إليها.
من هنا كانت صورة المرأة نابعة من الواقع الحي الذي تعيشه المرأة، لا رؤية مستقبلية، فقد بدت المرأة في رواياتها مثقفة تمارس شكلاً من أشكال التمرد المقترن بالوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي، ضد واقع قاس يضغط بقوالبه الحديدية على حياتها، تسعى من خلاله التأكيد على جدارتها بالحرية التي انتزعتها من النظام الأسري البطريكي، عبر الشهرة والنجاح في مجال العمل لتأكيد إنسانية الذات وكرامتها. لكن هذا النجاح له ثمن باهظ على المستوى العاطفي للمرأة. فحين تمتلك ذاتها وقرارها تفشل في حياتها العاطفية، كونها تقدم النظرة الاجتماعية على حريتها الشخصية.
وعلى ذلك لم تكن حرية المرأة في روايات ليلى الأطرش تكمن في حرية التصرف بالجسد خارج إطار مؤسسة الزواج، كماهو الحال عند بعض الروائيات العربيات، فالمرأة في رواياتها مسكونة دائماً بالحلال والحرام، وهذا ليس غريباً على روائية تنتمي إلى بيئة محافظة، لم تصل مساحة الحرية فيها إلى ما وصلت إليه بيئة روائيات أُخر كأحلام مستغانمي أو ليلى بعلبكي أو نوال السعداوي على سبيل المثال لا الحصر.