الأربعاء ١٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٦
بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش

الفلسطيني والسجن في رواية "باب الشمس" لـ إلياس خوري

ملخص:

تشغل ثيمة السجون والتعذيب وغياب الحريات حيزا من خطاب الرواية العربية، فقد أتى العديد من الروائيين على هذه الفكرة في رواياتهم، إذ جعلوا من وصف ألوان التعذيب والإذلال متناً روائياً ممتعاً ومزعجاً في آن معا. (1) فثمة وصف دقيق لعنف الجلادين ووحشيتهم في أقبية السجون ومراكز التحقيق لنزع اعترافات السجناء أو لإسقاطهم.
وهنا تسعى هذه الدراسة لتجلية علاقة الفلسطيني بالسجن في رواية "باب الشمس"، وهي علاقة بدت متعددة بتعدد السجون التي ذاق مرارتها ووحشيتها منذ النكبة عام 1948 وحتى اللحظة الراهنة.

تأتي الدراسة وبشكل عابر على ثيمة السجون في روايات خوري الأخرى السابقة لكتابة الرواية واللاحقة لها، تضع القارئ في صلب الموضوع. ثم تبحث في علاقة الفلسطيني بالسجون العربية، وعلاقته بسجون الاحتلال الإسرائيلي سواء على الأرض الفلسطينية، أو على الأرض اللبنانية، كما تبحث في علاقة الذات بذاتها من خلال علاقة الفلسطيني بسجون أشقائه الفلسطينيين.
وتنتهي الدراسة بخاتمة تبين الجديد الذي أضافته الرواية في هذا الجانب، ومدى اختلاف تلك السجون أو تشابهها.

السجن في روايات خوري:

يكتب خوري كغيره من الروائيين العرب عن فكرة السجون والتعذيب في بلاده، فتبدو هذه الفكرة- بشكل عام- لافتة في خطابه الروائي وعلى وجه التحديد في رواية "يالو" (2)، التي كانت بامتياز رواية الحرب الأهلية اللبنانية بقسوتها وبشاعة سجونها، إذ يعد السجن فيها الفضاء الأكثر حضورا، سواء على الصعيد الخارجي أو الداخلي، فضاء يمارس فيه السجان/ المحقق أساليب التعذيب الوحشية والتنكيل بالسجناء.

تقدم الرواية خطاباً محملاً بايحاءات ودلالات نقدية وتهكمية لاذعة لوضع السجون وغياب الحريات في لبنان خاصة، والعالم العربي عامة. وذلك عبر حكاية بطل الرواية (يالو) الذي دخل السجن وتعرض لأقسى وأبشع أنواع التعذيب، لا ليعاقب على جرائم السرقة والاغتصاب التي ارتكبها، بل للإعتقاد بانتمائه لعصابة سرية للمتفجرات، وهو بعيد كل البعد عنها.

وفي رواية "الجبل الصغير" (3) يأتي الخطاب الروائي فيها على غياب الحريات في لبنان، وعلى تعذيب اليساريين والقوميين، فتتداخل المرايا، مرايا سجون الاحتلال الإسرائيلي للفلسطينيين، ومرايا سجون البلدان العربية لليساريين والقوميين العرب، فتنعكس على بعضها، إذ تبدو في ذهن الراوي متشابهة من حيث وحشيتها.

وفي رواية "الوجوه البيضاء" (4) يفسح الخطاب الروائي جانبا منه للحديث عما يتعرض له الفلسطينيين واللبنانيين على السواء في السجون اللبنانية، حيث يتفنن المحقق في تعذيب القوميين واليساريين من اللبنانيين نفسيا وجسديا، لإحباطهم وتفكيك تنظيماتهم السرية، خشية تحقيق أهدافهم، وعزل الحكومة، واستلام الحكم بدلا منها.
في حين يسجن الفلسطيني ويعذب لمنعه من القيام بعمليات عسكرية انطلاقا من الجنوب اللبناني، وفي هذا الجانب يكشف السرد وعبر حكاية أحد الفدائيين الفلسطينيين عن طرق التعذيب البشعة والممارسات اللإنسانية التي كان يقوم بها المحقق اللبناني ضد هؤلاء الفلسطينيين.

وفي رواية " مجمع الأسرار" (5) يشغل السرد عن السجون وأساليب التعذيب جزءاً كبيراً من خطابها الروائي، وذلك عبر سرد حنا السلمان لتجربته في السجن وما تعرض له من أشكال التعذيب المختلفة حين دخله بتهمة ارتكاب جريمة قتل، حكم على أثرها بالإعدام، لكن أطلق سراحه بعد إلقاء القبض على القاتل الحقيقي.

وهنا وإن كان سجن حنا السلمان بعيدا عن فكرة السجن السياسي إلا أنه يبقى أولا وأخيرا نموذجاً تطبيقيا لظاهرة القمع، وانتهاك حقوق الإنسان في السجن لا أكثر ولا أقل.
وفي رواية "باب الشمس" (6)، يتسع مشهد السجون فيها ليشمل سجون الاحتلال وممارسات جلاديه الوحشية بحق الفلسطينيين، جنباً إلى جنب مع سجون الأنظمة العربية القمعية وممارساتها البشعة ضد الفلسطينيين، أو ممارساتهم هم أنفسهم – الفصائل الفلسطينية- بحق بعضهم الآخر. وبهذا امتازت هذه الرواية عن غيرها من روايات الكاتب في هذا المشهد المؤلم. لكن يبقى خطاب الروائي ككل في هذا المجال ذا تميز واضح، فثمة جرأة واضحة في تناوله لهذه القضية، إذ يسمي الأمور بمسمياتها، ويحدد الزمان والمكان ولا يلجأ للرمز كغيره من الروائيين.

الفلسطيني والسجون في "باب الشمس":

تأتي هذه الثيمة عفوية منسجمة مع سياق السرد الروائي وأحداثه، فيبدو الروائي محايدا في رأيه على الرغم من أن أبطاله يحملون رؤيته الخاصة لمشهد السجون وغياب الحريات "لأن أيديولوجية العمل الأدبي هي أيديولوجية المؤلف المجرد" (7).

يحافظ الروائي على حياديته في هذه الرواية عبر استخدامه لتقنيات سردية مختلفة تكفل له هذا الأمر، فخطاب روايته يُقدم عبر تقنية تعدد الأصوات، فالسارد لديه لا يحتكر الحقيقة بل يوزعها على الجميع، لذا يتم السرد من خلال أبطال الرواية، ومن موقعهم شهودا وضحايا على تلك الجرائم، يرسم كل منهم صورة لعلاقة الفلسطيني بالسجون المختلفة تعزز إحداها الأخرى. ما يجعل سردهم جزءا لا يتجزأ من البناء الفني للرواية، أي جزءا من الإيقاع السنفوني لها، وليس نشازا خارجا عن رتم الإيقاع.

يحاول خوري في كتابته عن السجون أن يبني عالما موازياً لعالم الواقع، يدخل من خلاله إلى عالم السجين ليرصد كل ما يحيط به، وليسلط الضوء على جوانب وخبايا معتمة ومؤلمة من حياتنا العربية والفلسطينية على السواء ليس من أجل خطاب سياسي تحريضي مكشوف، بل لأجل النقد والمساءلة، وفتح آفاق للتغيير، فعلاقة الأدب بالسياسة تتأرجح بين نقطتين، نقطة عمياء، وأخرى مبصرة، تدخل العلاقة في نقطتها العمياء عندما يكون هم الكاتب توصيل رسالة سياسية بصورة فجة ومكشوفة، أما العلاقة في نقطتها المضيئة فهي تنطلق من فهم الكاتب لعمله الأدبي على كونه ممارسة لغوية أساساً. من هنا كان لا بد من التفريق بين الكاتب من حيث هو ذات إنسانية تقدم موقفا سياسياً من العالم في حين يقدم عمله الأدبي موقفا أدبياً له أثر سياسي. هذا الأثر لا يتطابق مع موقف الكاتب السياسي إلا عندما يحقق التوازن بين مفهومه للعالم وبنائه الفني. (8) وخوري، يحقق ذلك من خلال أبطاله الذين يروون معاناتهم في السجون على اختلاف أنواعها.

(1-1) الفلسطيني والسجون العربية:

يروي خوري عن ألم الفلسطيني وعذابه في السجون اللبنانية عبر بطل روايته يونس الأسدي الذي لم يرض بذل المنفى، وبالخيمة التي تخترقها الرياح من كل جانب، فقد حاول هذا البطل مع رفاقه تحريض الفلسطينيين على العودة إلى مدنهم وقراهم التي هجروا عنها في الجليل، عبر القيام بعمليات عسكرية مسلحة ضد العدو انطلاقا من الجنوب اللبناني، فوقع في المحظور.

فعلاقة الفلسطيني بالأنظمة العربية ككل كانت ولا تزال علاقة شائكة، مرت بمراحل عدة لم تكن سارة دائما، فهي لم تقتصر على محاولة تلك الأنظمة احتواء الثورة الفلسطينية، بل تعدتها إلى محاولة تصفيتها والقضاء عليها في أكثر من زمان ومكان.
يترك الروائي في "باب الشمس" لبطله حرية السرد عن معاناته في السجون اللبنانية، فيروي الآخر عن ذكرياته التي تفرض دلالات خاصة بها، هي دلالات القسوة والبشاعة عبر طرق التعذيب، وعبر حالة السجن ذاتها، وتأثير ذلك ليس على جسمه فحسب، بل على مشاعره، وروحه أيضا. "كنت مرهقا بعد ثلاثة شهور ولا أعلم أين سجنونني، كنت في قبو تحت الأرض، ظلام ورطوبة وبرد... كان البرد يسكنني وكان الوجع... صرت أتمنى الضرب لأنه وسيلتي الوحيدة كي أحصل على قليل من الدفء، وكنت أنتظر حفلة الضرب وأسرع إليها، ويبدو أنهم انتبهوا إلى تمتعي بالدفء وسط لكماتهم ولبيطهم فقرروا شيئا آخر". (9)

ويبدو أن ألم التعذيب لم يقتصر على حالات اليقظة، بل كان يمتد إلى حالات النوم عبر الكوابيس، ففي السجن يصبح الإنسان عاجزا عن التمييز بين النوم واليقظة وبين الأشياء الأخرى.

يقدم الخطاب الروائي، وعبر فضاء السجن العربي ذاته، وضعا إنسانيا منفرا لإثارة القارئ وشد انتباهه وذلك من خلال متابعة يونس لسرده عن تجربته الذاتية في ذلك السجن. حيث يروي بضمير الأنا/ المتكلم، رغبة منه في الكشف عما في طيات نفسه للمتلقي، عن تطلع إلى تسجيل ذكرياته على قرطاس ليلم عليها الناس (10) "أسندني أحدهم إلى الحائط، ووضع ذراعه تحت عنقي، وقام آخر بضربي بقبضته الملفوفة بجنزير حديدي على فمي فانبثق الألم. أذكر صورة المحقق وهو يطلب مني أن أبلع، أبصق وأتقيأ، والرجل يغلق فمي بيده كي يجبرني على بلع أسناني المحطمة" (11).

ومع تقدم السرد يكشف الخطاب الروائي عن صورة بشعة لتلك الأنظمة التي كان همها حماية أمن إسرائيل بدل مساعدة الفلسطينيين على استرداد حقهم، يقول يونس: " تكلم معي المحقق اللبناني، بلهجة فلسطينية مفتعلة كأنه يتمسخر علي، وهددني. ثم قال إنهم سيطلقون سراحي... وأنه يا ويلي إذا حاولت عبور الحدود اللبنانية- الإسرائيلية من جديد، لأنهم سيجبرونني على بلع كل أسناني" (12)

يجسد يونس في سرده السابق لتجربته الذاتية بضمير الأنا ما يطلق عليه تودروف "الرؤية المصاحبة"، أي كل معلومة سردية، أو كل سر من أسرار الشريط السردي، يغتدي مصاحبا مع الأنا/ السارد. (13) ما عزر من حيادية الروائي أو المؤلف المجرد.

(2-1) الفلسطيني وسجون الاحتلال:

تحضر سجون العدو الإسرائيلي بداية من خلال الفلسطينيين الذين ما زالوا يقيمون على الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 48 ونهيلة واحدا منهم.
تروي هذه المرأة حينا، ويروي السارد كلي المعرفة حينا آخر عن معاناتها مع المحقق الإسرائيلي، وعن الإذلال، والقهر الذي كان يمارس ضدها، وضد أبناء شعبها، وعن أساليب الترغيب والترهيب، والحرب النفسية التي تعرضوا لها.

تبوح نهيلة في سردها عن مكنونات نفسها، وعن تجربة اعتقالها الأولى حين ذهبت لمقر الحكم العسكري لطلب تصريح مرور لنقل طفلها الذي يصارع الموت إلى مستشفى عكا، " لم يضعوا الكيس في رأسي... لكنهم رموني في غرفة معتمة لأكثر من ثلاث ساعات، ثم أخذوني إلى مكتب رجل قصير القامة، أنا أبكي وهو يهدد، وأنا أقول الصبي يموت، وهو يطلب مني التعاون معهم..." (14) .

ويروي السارد كلي المعرفة من منظوره الخاص جانبا آخر من التحقيق مع نهيلة حين اعتقلت لمدة أسبوع بعد عملية فدائية شارك فيها زوجها يونس. كما يروي أيضا عن أساليب التعذيب الوحشية، وتطورها في سجون الاحتلال، "يومها لم يكن الإسرائيليون يستخدمون فن التعذيب بالكراسي، الذي اخترعوه بعد اجتياح لبنان، يربطون المعتقل إلى كرسي ويتركونه جالسا لمدة أسبوع، والكيس الأسود يغطي رأسه، ويبقى المعتقل مربوطا إلى الكرسي داخل ظلام الكيس، يرفع الجندي الكيس عن الفم مرة في اليوم ويعطون السجين كسرة خبز وجرعة ماء..." (15).

ويتابع هذا السارد من موقعه كراوٍ إله يملك بؤرة السرد، ويعلم أكثر مما تعلم أي شخصية، إذ يتمتع بالرؤية من الخلف التي تمكنه من إضافاته السردية المتعددة، يقول: "لم يكن الإسرائيليون يملكون طريقة محددة للتعامل مع امرأة، تهمتها الأولى أنها أنجبت طفلين، وتهمتها الثانية أنها حبلى. أبقوها ثلاثة أيام في زنزانة انفرادية مظلمة، ثم استدعوها إلى التحقيق... مكبلة اليدين" (16)

ولإظهار معاناة الفلسطينيين في سجون الاحتلال يعمد السارد إلى تأطير خطاب الشخصية بخطابه الخاص والتعبير عن موقفه الأيديولوجي بمزاولته لوظيفة التأويل (17)، إذ يتخذ من السرد عن التحقيق مع نهيلة لعبة للحوار السياسي لطرح أفكاره، يقول: "جلست نهيلة أرضا، القيود في يديها، والضحك يرفرف فوق وجهها... وقالت لهم إنهم حطموا كل شيء ويأتون الآن ليدافعوا عن الشرف والأخلاق" (18).

وحين تروي نهيلة تجربتها مع المحقق الإسرائيلي، ينهض السارد أو المؤلف المجرد بوظيفة التصوير والمراقبة فقط. "بيت الشيخ يا سيدنا دمرتموه مرتين، مرة في عين الزيتون، ومرة في شعب... مخجل! سرقتم البلاد وطردتم أهلها، وتأتون لتعطوني دروسا في الأخلاق..." (19).

يحمل كلام نهيلة السابق نبرة استعلاء وتحدي للمحقق، فتبدو المفارقة داخل السجن، ويطرح السؤال: من يلغي الآخر داخل السجن؟ يسألها المحقق عن والد طفلها فترفض الاعتراف باسمه، مدعية عدم المعرفة، ووسط استنكار المحققين، ترد عليهم قائلة: "أنا حرة يا أخي، أنت شو بدك في، أنا شرموطة، ليش ما فيش شراميط في دولتكم المحترمة اعتبروني واحدة من إياهن وخلصني" (20).

وهنا يبدو السارد ومن خلفه الكاتب محايدا، عبر لغة الحوار هذه، وكأنه رجل ثالث في الخصومة الناشئة بين الاثنين. (المحقق/ نهيلة)، ولكن في النهاية وإن تحرر الكاتب من لغة الحوار تلك، إلا أن قصده الدلالي يحضر داخل مختلف أجزاء لغته، "فالسارد نفسه، وكل ما هو مسرود يدخل سوية داخل منظور الكاتب" (21).

وعبر تقنية تعدد الأصوات، تحضر سجون الاحتلال مرة أخرى، وذلك من خلال الفلسطينيين الذين اعتقلوا في الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 67، واؤلئك الذين اعتقلوا في الأراضي اللبنانية التي احتلت عام 82. وهنا يساعد الشكل الفني للرواية لإفراغ المضمون الواقعي المعيش، إذ تروي كل شخصية بضمير الأنا من وجهة نظرها الخاصة، ومن موقعها النضالي.

يروي خليل عن تجربته النضالية في السجن، فينطلق من الحاضر، حاضر الواقع الفلسطيني إلى الماضي القريب لا البعيد، إلى سجن أنصار الذي أقامه العدو الإسرائيلي في الجنوب اللبناني عقب اجتياح بيروت عام 82، فيطل هذا السجن مثلما أطلت قامات أبطاله الذين احتوتهم زنازينه، يقول": "أما أنا فربطوني إلى تلك الشباك التي تشبه أقفاص الحيوانات وعصبوا عيني ولفوني بما يشبه الحبال... ففي أنصار خسرت عشرين كيلو، وأصبحت نحيلا سقيما... كنا آلافا وسط حقل أجرد تحيط به الأسلاك الشائكة" (22) .

أما عبد المعطي فيأتي في سرده عن تجربته في السجن على الواقع الفلسطيني المؤلم، وعلى الماضي الأكثر إيلاما، إذ ترتد به الذاكرة إلى الماضي البعيد وتحديدا إلى عام 48 واعتقالات ساحة البعنة، وصلبهم تحت أشعة الشمس قبل تصفيتهم الجسدية، وإعدام الكثيرين منهم، لكن لا يلبث أن يعود إلى الماضي القريب، فيربط بين تشميسة البعنة وتشميسة أنصار في الجنوب اللبناني، ويسهب في وصف التعذيب في ذالك المعتقل "التشميسة كانت وسيلة التعذيب الأساسية. يربطون يديك ورجليك، ويلقون بك تحت أشعة الشمس فتتلوى وتتبرم وتتدحرج باحثا عن لحظة لتخفيف احتراقك... تبقى هكذا من طلوع الشمس حتى غيابها ثم يأتي الضابط ويأمر بفك قدميك ورجليك، ويطلب منك الوقوف فتكتشف أنك صرت عاجزا عن أي شيء، الشمس غابت تحت جلدك، والنار تعشعش في داخلك والغروب هو اللعنة والموت" (23).

ويكشف سميح بركة في سرده لتجربته الذاتية في سجون الاحتلال الإسرائيلي وتحديدا في مناطق الضفة الغربية عن أساليب التعذيب الوحشية على المستوى الجسدي والنفسي، ففي المرة الأولى التي دخل فيها السجن صغيرا استدرجه المحقق ليعترف بما عنده عبر التأثير النفسي، لكن في المرة الثانية بعد أن أعتقل ضمن مجموعة منظمة لحركة فتح كان على وعي تام بأساليبهم القذرة، لذا بقي صامدا، رغم ما تعرض له من تعذيب، يقول: "كنا في شهر شباط، وكان البرد والثلج. اقتادوني إلى المحقق الذي أمرني بخلع ملابسي... خرجنا من باب السجن ومشينا إلى تلة مرتفعة، وكان الثلج، وفي أعلى التلة بدأ الضرب، ضربوني في كل مكان من جسمي، استخدموا أيديهم وأرجلهم وأحزمتهم..." (24).

وتتعدد سجون الاحتلال بتعدد الرواة، فمن خلال جمال الليبي الذي اعتقل ضمن خلية للجبهة الشعبية وحكم عليه لمدة عشرين عاما، يحضر سجن الدامون في ثنايا سرده لتجربته في السجن. لكن ثيمة السجن لا تلفت القارئ إلى شيء بقدر ما تلفت إلى التأثير النفسي على السجين، وتصويره في حالات القوة والضعف، فهو أولا وأخيرا إنسان حرمه السجن من حاجات ورغبات كثيرة. ويبدو ذلك في سرد جمال عن عواطفه تجاه ابنة خاله اليهودية، فقد رأى في السجن جانيا إيجابيا أنقذه من التفكير بعلاقته بهذه المرأة.

(3-1) الفلسطيني وسجون أشقائه الفلسطينيين:

يأتي الخطاب الروائي في "باب الشمس" على علاقة الفصائل الفلسطينية مع بعضها في لبنان أثناء الحرب الأهلية وما بعدها عبر ثيمة السجون، فيضع الروائي أصبعه على الجرح الدامي، فقد امتلكت الفصائل الفلسطينية سجونها الخاصة في لبنان، واستخدم كل فيصل سجونه ضد أفراد الفصائل الأخرى التي تختلف معه.

يقدم هذه الثيمة شخوص فلسطينيون كانوا في موقع الحدث، وعانوا من مرارته وذاقوا ويلاته، وهذا ما أعطى السرد كثيرا من المصداقية.

يروي خليل عن تجربته ومعاناته في سجن إحدى الفصائل الفلسطينية، فيكشف بسرده أن تعذيب الفلسطيني وإذلاله، لم يقتصر على سجون الأشقاء العرب، أو سجون الاحتلال الإسرائيلي، بل امتد ليطاله في سجون أشقائه الفلسطينيين، يقول: "عندما اعتقلوني أنا لم أقل شيئا كنت عاجزا عن الكلام لأنني أحسست بالخديعة والخوف، وهناك اكتشفت قرار إعدامها في عيون أعضاء اللجنة" (25). وفي سرده هذا لا يتورع خليل في الكشف عن بشاعة التحقيق في تلك السجون، التي كانت مجرد شكل صوري لتبرير قرار إعدام شخص ما، أو تصفية جماعة معينة. "هم قولوني أشياء لم أقلها، من أجل إيجاد مبررات إضافية لقتل شمس" (26)

يظهر خليل في سرده مقدار الألم الذي عاناه في السجن، فحين يكون السجان شقيقا يكون الألم النفسي مضاعفا. "عندما وقفت أمام لجنة التحقيق لم أشعر بالبلاهة، بل بالذل، البلاهة ليست ذلا، إنها موقف، أما هناك فوقفت ذليلا وفقدت قدرتي على الدفاع عن نفسي" (27).

ولا يقتصر الألم على الناحية النفسية بل على الناحية الجسدية أيضا، فكما يستخدم العدو الإسرائيلي والشقيق العربي أساليب تعذيب وحشية، يستخدم كذلك الشقيق الفلسطيني أساليبا أشد بشاعة ووحشية من أولئك، "لم يكن هناك تحقيق... اقتادوني فورا إلى سجن عين الحلوة ورموني في قبو مظلم تحت الأرض... تعفنت في القبو عشرة أيام كأنها عشر سنوات... أخرجوني إلى جلسة التحقيق وجاء رجل يحمل مخرزاً نستخدمه عادة لتكسير ألواح الثلج وبدأ يغرسه في صدري ويطلب مني أن أعترف" (28).

ولا يكتفي خليل في سرده بوصف إجرام المحقق الفلسطيني وممارساته الوحشية، بل ينفذ إلى نقد جارح للتنظيمات الفلسطينية ككل حين يقول: "ليس محققا ولا أحمق، إنه مجرم، لقد ترعرعت الجريمة في صفوفنا سقيناها دما وحماقات، غرقنا في الخطأ فأكلنا الخطأ" (29).

الخاتمة:
تبدو السجون التي ذاق الفلسطيني مرارتها، وتجرع ويلات أقبية التحقيق فيها، في رواية "باب الشمس" متعددة بتعدد الأصوات التي روت تجاربها، لكن على الرغم من ذلك يخرج القارئ بصورة منفرة لها، تعززها الصور المختلفة.

ولأن الأدب نضال اجتماعي بلغة الفن، عكس خوري في روايته ما يعتمل في الحاضر من مشكلات، فقد مزج بين مشهد السجن السياسي للفلسطينيين في الدول العربية، وسجن الفصائل الفلسطينية بحق بعضها، وبين سجون الاحتلال داخل فلسطين وعلى الأرض اللبنانية، وعليه بدت تلك السجون على اختلاف أنوعها متشابهة من حيث المضمون مع اختلاف الغايات، فسجن الشقيق الفلسطيني لا يختلف عن سجن الشقيق العربي ولا عن سجن العدو إلا بكونه أشد إيلاما على المستوى النفسي.

كما يقول الشاعر:

وظلم ذوي القربى أشد مرارة علي من وقع الحسام المهند

الهوامش:
 
1- فريجات، عادل: مرايا الرواية، اتحاد الكتاب العرب، 2000، ص93.
2- خوري، إلياس: يالو، دار الأدب، بيروت، ط1، 2002.
3- خوري، إلياس: الجبل الصغير، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط2، 1984.
4- خوري، إلياس: الوجوه البيضاء، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط2، 1986.
5- خوري، إلياس: مجمع الأسرار، دار الآداب، بيروت، ط1، 1994.
6- خوري، إلياس: باب الشمس، دار الآداب، ط3، 2003.
7- مجموعة من المؤلفين: طرائق تحليل السرد الأدبي، اتحاد كتاب المغرب، الرباط، 1992، ص94.
8- ينظر: دراج، فيصل: حوار في علاقات الثقافة والسياسة، دار الجليل، دمشق، 1984، ص139.
9- خوري، باب الشمس، ص59.
10- مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية، عالم المعرفة، الكويت، 1998، ص187.
11- خوري، باب الشمس، ص60.
12- السابق، ص60.
13- مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية، ص185.
14- خوري، باب الشمس، ص131.
15- السابق، ص285.
16- السابق، ص285.
17- مجموعة من المؤلفين: طرائق تحليل السرد الأدبي، ص95.
18- خوري، باب الشمس، ص289.
19- السابق، ص289.
20- السابق، ص288.
21- باختين، ميخائيل: الخطاب الروائي، ت: محمد برادة، دار الفكر، القاهرة، 1987، ص83.
22- خوري، باب الشمس، ص77.
23- السابق، ص233.
24- السابق، ص361.
25- السابق، ص75.
26- السابق، ص75.
27- السابق، ص147.
28- السابق، ص465.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى