الاثنين ١٠ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

هجرة

ليس في الرحيلِ ما يرحل،

كلُّ شيءٍ يعودُ من نصفِ خطوة،

كأنَّ الطريقَ هو الراحلُ،

ونحنُ الأجسادُ المرهقةُ من محاولاتِ الوصول.

الحقائبُ لا تحملُ أشياءَها،

بل رائحةَ الذين لم يودّعوا أحدًا.

تسحبُ أصواتَها من الذاكرة،

كأنّها تحفرُ في الهواءِ مقبرةً للحنين.

المدنُ تُلوّحُ بأصابعَ ترتجف،

أيدٍ ليست لها،

ولا لنا،

أيدٍ تعلّقت بالفراغِ حتى نسيت أن تكونَ جسدًا.

كنتُ أظنُّ الطريقَ ذاكرةً،

فإذا بهِ خطأٌ نحويٌّ في جملةِ الوجود،

كأنّني أُعيدُ صياغةَ الغيابِ

بلغةٍ لا تعرفُ الفعل.

الجهاتُ تتبدّل،

والحروفُ تُهاجرُ من أفواهِها،

والريحُ تتعلّمُ النطقَ من أخطائنا.

كلُّ خطوةٍ تُصحّحُ ما قبلها،

ثم تندم.

في الميناء،

تتدلّى السماءُ من خيطٍ أزرقَ رثّ،

والبحرُ يجرّحهُ ضوءٌ لم يكتمل.

الأمواجُ تصعدُ الدرجَ

كأنّها تتدرّبُ على الوداع،

تغسلُ نوافذَ الكلام،

وتتركُ على ما بَقي توقيعَها الأخير.

هل الوطنُ هو مَن بقي في الذاكرة،

أم مَن اختبأ في حقيبةٍ وهاجرَ دونَ أن يلتفت؟

هل الوطنُ مكانٌ،

أم خطأٌ في الترجمة؟

أم مجازٌ يتناقصُ كلّما قلنا: «هنا»؟

أحملُ وجهي كمسوّدةٍ تالفة،

أعيدُ رسمَه بالحبرِ الذي سال من المسافة،

كلّما حاولتُ ترميمَ الضوء،

يتحطّم الوقتُ في صدري،

وتتسرّبُ المواسمُ كأسماءٍ هجرتْها الذاكرة.

تتسلّقني لغاتٌ لا أفهمها،

تصعدُ من صدري إلى فمي،

كأنّني جدارٌ يتكلّمُ بظلّه،

أو تمثالٌ يتذكّرُ الحجرَ الذي شيّدَه.

في الحنين،

غصونٌ يابسةٌ تتمايلُ كأقنعةٍ في عاصفة.

أهاجرُ من الحرفِ إلى الحرف،

من صمتٍ إلى صمت،

من معنىً لم يُولدْ إلى جملةٍ تُجهضُ نفسها.

في آخرِ الرحلة،

لم أجدْ أحدًا ينتظر،

وجدتُ ظلّي يشربُ القهوةَ مع غريبٍ

يبتسمُ بملامحي القديمة.

كانا يضحكان،

كأنّهما اكتشفا أنني كنتُ خطأً في ذاكرةِ المكان.

الرحيلُ، إذًا، ليس ذهابًا،

بل دورانًا حولَ جرحٍ يعرفُ طريقَه جيدًا.

كلُّ مهاجرٍ يحملُ خريطتَه،

ويتوهُ أكثرَ كلّما حاولَ أن ينطقَها.

الهجرةُ ليست من وطنٍ إلى وطن،

بل من ذاتٍ إلى أخرى،

من اسمٍ ينسى نغمتَه،

إلى صدىً يتعلّمُ أن يكونَ وجودًا.

وهكذا،

أكتبُ لأتذكّرَ أنني نسيت،

وأمحو لأتأكّدَ أنَّ ما بقي فيّ

هو ما لم يرحلْ بعد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى