الأحد ٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

الكرسيّ الفارغ

القرية تنام على صدى الأصوات، لا على صمتها.

تتبدّل اللهجات في الأزقّة كما تتبدّل الرياح عند المنعطفات.

لم يعرف أحد من بدأ الحكاية، لكنّ الجميع كان جزءًا منها.

في المجلس الحجري عند عين الماء، جلس ابن المختار كحارسٍ يتلصّص بعينيه، كمن يحرس نفسه من نفسه. عيناه نصف مفتوحتين، تبحثان عمّن سرق فكرة النظام من رأسه.

تحدث ببطء، كمن يوزّع المطر بالتقسيط: "القرية لا تُقاد بالكثرة، بل بالحنكة."

لكن الحنكة في القرية صارت سلعة تُباع على أبواب البيوت، تُقايض بالولاء وبنصف وعدٍ منسي.

وفي الجهة الأخرى، ظهر ابن القرية. جلس في دكّانٍ مهجور من الكلمات، يرسم المستقبل على جدار متآكل، ويقول: "الأرض لا تريد من يسقيها، بل من يوقظ طينها."

ضحك أتباعه طويلًا، ثم خرجوا ينثرون الكلام في الأزقّة.

لم يعرف أحد إن كانوا مؤمنين أم ممثلين، لكن خطواتهم صنعت ضجيجًا يفوق الحقيقة.

أما الشيخ، فكان يمشي بصمت يشبه الفتوى، يرفع سبّابته لا ليأمر، بل ليقيس حرارة الفوضى.

يتحدث همسًا، كأن صوته يرفض اختيار طرف، والجماهير حوله تعرف أنّ الحياد نوع من السلطة أيضًا: "لا ابن المختار يُرى، ولا ابن القرية يُفهم... القرية تختبر من يليق بالكرسي."

تتداخل الأصوات، وتختلط الشعارات ببعضها، ويغدو الليل ساحة بلا سقف.

تشتعل المصابيح على وجوه الناس، كل وجه يلمع كقناع، وكل قناع يلمع كوجه آخر.

في الفجر، خرج الأذان متقطعًا من المئذنة، كأن المؤذّن تردّد قبل أن يعلن صلاة باسم مَن؟ قيل إن ابن المختار اختفى قبل طلوع الشمس، وابن القرية شوهد في الحقول يحدّث الريح، والشيخ صلّى وحده دون أن يُسمّي أحدًا.

منذ ذلك الصباح، لم تُعرَف الجهة التي تدير القرية. الناس يقولون: "القرية تحكم نفسها." الهواء تغيّر؛ لم يعد النسيم بريئًا، صار يحمل ما يشبه الحذر.

تُغلَق النوافذ قبل الغروب بدقائق، والأبواب لا تُطرَق إلا بكفّ مرتجف.

كل بيت يظنّ أن الآخر يُخفي ابن المختار، وكل عابر يُسأل عن رأيه قبل اسمه.

الشيخ ما زال صامتًا، لكن صمته صار أبلغ من خطبته القديمة.

قيل إنه رأى ابن المختار في المنام يمشي بين الحقول مرتديًا عباءة الغبار:

"الكرسي الذي يجلس عليه الناس، لا أحد يجلس عليه طويلًا."

ثم تبخّر كالبخار الخارج من قِدرٍ نُسي على النار.

ابن القرية بدأ يتحدث عن "النظام الجديد"، عن مجلس بلا مناوئة، عن صوت جماعي يكتب القرارات.

لكن صوته كان مكسورًا، كأنه يستعير كلمات من كتاب لم يفهمه أحد.

رفع صورته في الساحة، فتجمّع حوله شباب بأعين لامعة، يرددون شعارات مصحوبة بالضجيج.

كلّما حاولوا الهتاف باسم، اختلط الاسم بالريح، وكأن القرية نفسها ترفض النطق.

عاد الليل متلبّسًا بالدخان، تصاعدت غمامة من جهة التل.

قيل إن بيتًا احترق، وقيل إن الضوء علامة.

خرج الناس من بيوتهم يرتجفون، ورأوا الدخان يتماوج على الجدران، وأحدهم صرخ: "ابن المختار عاد!"

لكن ظهر رجل يحمل فانوسًا مطفأ، وقال إنه رأى الشيخ يسير وحيدًا نحو العين، يرسم على الماء دوائر، كأنه يحاول استعادة وجه غاب.

لم يعد أحد يسأل من يحكم القرية؛ فالقرية اكتشفت أنّ الحُكم قديم مثل الحجارة، وأن المتنازعين مجرد صدى لأسماء ضاعت في مهبّ الريح.

السماء في تلك الليلة تأمّلت القرية كما لو كانت تراقب حلمًا لم يكتمل.

الهواء شحيح، والريح تمشي على رؤوس السنابل بخطوات من يعرف الطريق ويُنكره في الوقت ذاته.

الشيخ اختفى منذ أسبوعين. قيل إنه غادر نحو المدينة ليعيد النظام، وقيل إنه دفن صوته قرب عين الماء حين اكتشف أن الصدى أصدق من الدعاء.

ابن القرية صار يتحدث إلى نفسه في الساحة، يرسم خرائط وهمية على التراب، يشير إلى خطوط لا يراها أحد، ويقول: "هنا يجب أن نبدأ من الصفر، لكن الصفر لا يريد أن يبدأ من هنا."

الأطفال يتبعونه صامتين، يتعلّمون منه كيف تُقال الكلمات دون أن تُقال.

وفي الليل، حين يسكن كل شيء، كانت الأبواب ترتجّ من تلقاء نفسها، كأنّ القرية تتنفّس.

كان الناس يسمعون همسًا يخرج من الأرض، صوتًا لا يشبه ابن المختار، ولا الشيخ، ولا ابن القرية، صوتًا يقول: "أنا ظلّ القرية، خُلقت من اختلافهم، وأنا من يحكم حين يرحل الجميع."

في الصباح التالي، وُجد على جدار المجلس نقش جديد، لم يكن بالحبر، بل بشيء يشبه السخام: "لا تختاروا من يفرط بكم، فهذا بداية النهاية."

جلس الناس أمام النقش، تأمّلوه طويلًا، ثم نهضوا دون أن يتحدثوا.

اختفى ابن القرية في الطريق المؤدية إلى الحقول، وأما ابن المختار، فشوهد آخر مرة في الحلم ذاته الذي يراه الجميع ولا يستطيع أحد روايته كاملًا.

بقيت القرية كما كانت، لكن شيئًا فيها تغيّر: لم تعد تبحث من يحكمها، بل من يفهم لغتها.

في الليالي، حين تمرّ الريح من فوق الأسطح، يسمع الناس همسًا يقول:

"القيادة ليست كرسيًا... بل غياب يعرف متى يعود."

تجلّى الثلاثة في وجه واحد، لا يُرى إلا حين تمحو الشمس ظلالها.

ابن المختار كان الذاكرة، يخاف أن تضيع ملامح القرية إن تغيّر ترتيب الأسماء.

ابن القرية كان الحلم، يريد أن يزرع المستقبل في تربة لم تُشفَ من ماضيها.

والشيخ كان السكوت، يحرس التوازن بين الاثنين، ليمنع الضوء من أن يحرق.

وفي آخر الفجر، حين انكسرت المئذنة على انعكاسها في الماء، مرّ طيف واحد بثلاث خطوات، واختفى عند العين.

ومنذ ذلك اليوم، يقول الناس إن القرية لا يحكمها بشر، بل فكرة تمشي على هيئة إنسان، تغيّر أسماءها كما يغيّر الليل لون صمته.

وهكذا صارت القرية مرآة للبلاد كلّها: كل من يريد أن يحكمها، يذوب فيها أولًا،

حتى لا يبقى منه سوى اسمه مكتوبًا على الريح.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى