الثلاثاء ١٦ أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

مدينة الفرات

«يحكي لنا الكبار قصصًا لها معانٍ، لكنها باقية شَفَاهًا لم تُدوَّن من شهود العيان. فكانت إحدى تلك الحكايات قصتنا هذه، لتوثّق ما مضى ولم يُكتب».

نهر الفرات يطوي مياهه مثل ثوبٍ قديم، والأزقة تفوح برائحة الطين المبتلّ والخبز الساخن. لم تكن الخمسينات مجرد سنوات، بل كانت مسرحًا معلّقًا بين الحلم وبقايا غبار الهجرة من القرى التي اجتاحها الفيضان، حين راحت المدينة تتسع بما يشبه الأمل والجرح في آنٍ واحد.

الشارع الرئيس يفيض بدكاكين صغيرة، وأصوات الباعة تتداخل مع نداءات الأطفال الذين يركضون حفاةً خلف كرةٍ من خرقةٍ محشوة بالقش. المقاهي مزدحمة بالدخان والجدال: شابٌّ يقرأ الجريدة بصوتٍ مرتفع، وآخر يقاطعه بضحكةٍ ساخرة، والوجوه مشدودة بين سؤالٍ يتردّد: «إلى أين يسير البلد؟»

يوسف، طالبٌ في المعهد، يعبر الجسر كل صباحٍ حاملاً كتبه تحت إبطه، يحدّق في مياه الفرات كأنه يبحث عن وجهٍ لم يره بعد. المدينة تهمس له بأسرارها: جدارٌ متآكل، نافذةٌ نصف مفتوحة، ظلٌّ عابر يختفي في منعطفٍ ضيق. كلها إشارات إلى ما يتجاوز الواقع.

كانت سعاد، غير بعيدٍ عن أفكاره، ناشطةً مدنية، ابنةَ معلّمٍ وأحلامِ النساء المنتظرات عند الأعتاب. لم تكن مجرد شاهدة، بل كانت صوتًا يعلو حين يصمت الجميع.

في نادي المعهد، بعد محاضرةٍ حول «الوعي وشباب المستقبل» ألقاها أستاذٌ من جامعة بغداد، جلس يوسف وسعاد مع مجموعةٍ من الأصدقاء. هناك برز كريم، ابنُ بائع الكتب المتقاعد، شابٌّ نحيل بعينين ثاقبتين، يلوّح بيده محمّسًا، ويقتبس أبياتًا يحفظها من الشعراء، ويرى أن القصيدة ثورةٌ سرّية لا تقلّ عن السلاح.

بجانبه جلس حسين، عاملٌ من أبناء الأهوار، يحمل في عينيه صلابة الطين وحرقة الفقر. كان يؤمن أن الحزب السياسي هو الطريق إلى العدالة، وأن القصائد لا تُشبع الجائع ولا تحمي الكادح.

اشتعلت الحوارات: كريم يقرأ الشعر كأنه يطلق رصاصًا، وحسين يردّ بأن الكلمات لا تكفي. رفعت سعاد صوتها، فتحدثت عن الحرية، وعن عدالةٍ تبدأ حين يتوقف الخوف. أما يوسف، فظلّ يصغي كمن يقف عند مفترقٍ لا يعرف أيّ دربٍ يسلك.

امتد النقاش حتى المساء، وترك أثره في النفوس. خرجوا إلى الشارع، والمدينة غارقة في أضواءٍ صفراء باهتة تنعكس على الأرصفة المبلّلة بندى الليل. كان بعض المارة يبتسم كمن يعرف أن هؤلاء الشبان يحملون شيئًا يتجاوز أعمارهم.

مع الأيام، صار النادي ملتقى، والمقهى منبرًا، والزقاق ساحةً للنقاشات. النساء في السوق كنّ يتهامسن:

«سعاد التي كسرت الصمت».

«كريم الذي يصوّب القصائد كالسِهام».

«حسين الذي يتكلم بلهجة الأهوار الصلبة».

«ويوسف الذي يبحث عن نفسه بين ضفتين».

في مساءٍ آخر، اجتمعوا على ضفة الفرات. جلسوا متجاورين، والليل يكسو النهر بلمعانه الفضي. تحدّث كريم عن حلمه بطبع ديوان صغير يحمل اسم المدينة، فضحك حسين:

ـ «الديوان لا يُشبع جائعًا».

ردّت سعاد:
ـ «لكنه قد يشعل في قلبه نارًا... ليطالب بلقمةٍ أكبر».

أما يوسف، فظلّ صامتًا، يراقب انعكاس القمر على الماء، كأنه ينتظر أن يجيبه الفرات نفسه.

كانت المدينة في تلك الأيام كبركانٍ خامد، يتهيأ للانفجار. أخبار الانقلابات تتناقلها أجهزة الراديو، وصدى التظاهرات في بغداد، المؤيدة للملك والرافضة، يهبط على الأزقة كرجفةٍ غامضة. كل بيتٍ يحمل حكاية، وكل وجهٍ يخفي قلقًا أو حلمًا، والكلّ يترقّب.

وفي تلك الليلة الشهيرة، حين ارتفعت الأصوات في النادي، لم يكن الأمر مجرد جدالٍ شبابي، بل كانت شرارة. كلماتٌ صادقة صدحت، فاشتعلت في الأزقة، وأيقظت المدينة من نومها الطويل.

في صباح اليوم التالي، كانت المدينة تغلي. الكل يتحدث عن الشباب الأربعة:
عن الشابة التي تجرأت على رفع صوتها،
وعن الشاعر الذي صرخ بالقصيدة كأنها بيان،
وعن العامل الذي تحدّى الخوف،
وعن الطالب الذي اختار أخيرًا أن يكون صوتًا لا صدى.

عاد يوسف إلى بيته تلك الليلة، عبر زقاقٍ ضيق. رأى امرأةً مسنّة تجلس قرب بابها، تهمس بأغنيةٍ قديمة، وصوتها يختلط بخرير ماءٍ ينساب من جرةٍ مشروخة. شعر أن تلك اللحظة الصغيرة تختصر المدينة كلها: مدينةٌ تحلم، لكنها محاصَرة بين ما مضى وما سيأتي.

ابتسم يوسف، وتذكّر كلمات سعاد، وضحكة كريم، وصرخة حسين. عندها أدرك أن الأيام، بصخبها وغموضها، ستبقى حيّة في ذاكرة المدينة كوشمٍ لا يُمحى، وأن الفرات، كلما طوى مياهه، كان ينهض من جديد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى