

فصولٌ من سيرةِ رجلٍ لا يستحي
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
1987
"أنت لا تستحي"..
هذا ما استطاع سماعه من كلمات الرجل، قبل أن يذهب بعيدًا وهو يرغي ويزبد ويهمهم، ويداه الغاضبتان تشيران في كل اتجاه..
تجاوز الإهانة لأنها صادرة من رجلٍ في مثل سنّ والده، ولكن ما آلمه أنه لم يكن مستحقًا لها، فالحياء لا ينقصه، وجلسته اللطيفة مع حبيبته على ضفة الليطاني الذي تحرّر قبل عامَين لا تعني عكس ذلك.. صحيحٌ أنه كان منحنيًا يهمّ بتقبيل قدم دلال حين باغتهما الرجل.. ولكن، أنّى للرجل أن يعرف أن ما رآه ليس سوى فعل امتنان لقدمٍ تلقت رصاصةً معاديةً نيابة عنه؟
لم يكن له أن يتم فعلته على أي حال، فدلال التي تبذل روحها بلا تردد كي لا تشاهده منحنيًا لأي سبب من الأسباب، والتي تجد ما فعلته أقل ما يمكن أن يهديه حبيبٌ إلى حبيبه، لم تكن لتسمح له بإتمام انحناءته، حتى لو لم يباغتهما الرجل في خلوتهما..
قبل سنةٍ واحدة من جلستهما تلك، كانت دلال تحمل إليه الطعام في مخبئه داخل مغارة عاملية، حين تزامن مسيرها إليه، مع مسير دورية إسرائيلية يقودها "فاعلُ خير" ملثم من أبناء هذه البلاد التي تنجب أرضها بعض الشوك والكثير من الورد. أخذت قرارها سريعًا بالاشتباك مع قطيع الخنازير، فأصابت منهم واحدًا قبل أن تختفي بين طيات جبلٍ هي أدرى منهم بشعابه، ولم يستطيعوا الوصول إليها رغم أنها تقفز على قدم واحدة، وتئنّ من ألم قدمها الثانية التي اخترقتها رصاصة عابرة سببت لها جرحًا طفيفًا.
نجح يومها في الفرار إلى المنطقة المحررة بصحبة دلال التي وصلت إليه قبلهم رغم الجرح في قدمها، وبقي مدينًا لها، وللجرح، بحياته.
كانت دلال، باندفاعها وإقدامها واستعدادها الدائم للتضحية، نسخةً عن صديقتها ليلى التي سقطت أمام مدخل تلك البناية البيروتية ذات اللون الرمادي الحائل، فتركت في قلبها جرحاً لم يندمل إلا بلحاقها بها في عملية فدائية بعد سنوات..
وكالجرح الذي تركته ليلى في قلبها، تركت دلال جرحًا لا يندمل في قلبه.
كان ما يعزيه أنه ظل لائقًا بذكرى دلال أكثر مما كان نضال لائقًا بذكرى ليلى. ترك الأخير ليلى وكل شيء خلفه، والتحق بزوج والدته في الخارج طالبًا السلامة والثروة.
أما أكثر ما كان يؤلمه فهو أنه لم يكن حاضرًا في وداع دلال. لم يؤثر السلامة والاغتراب كما نضال، ولكن نصيبه كان الوقوع في الأسر أثناء تنفيذ عملية فدائية بعد يومٍ واحد من الجلسة على ضفة الليطاني.. كانت تلك الجلسة آخر عهده بدلال، ولم يكن له إلى معرفة ذلك سبيلًا، ولو عرفه لقبّل قدميها الاثنتين لحظتها غير عابئٍ بالرجل وعبارته الساخطة..
1988
"أنتَ لا تستحي"..
قال له السجّان في معتقل الخيام بلغة عربية سليمة وبلكنة أهل البلاد. لم يكن السجّان، إلا شوكةً أخرى أنجبتها هذه الأرض..
الفارق هذه المرّة أنه استطاع سماع كلمات خصمه التالية بوضوح: "إنت ما بتستحي؟ مفكّر حالك نازل بأوتيل؟ بدّك كتب؟ شو رأيك بجريدة وفنجان قهوة كل يوم الصبح كمان؟".
كان يحلم بقراءة "الكتاب الأحمر" الذي لم يسعفه الوقت في قراءته قبل الاعتقال، ولكنه لم يكن ليجرؤ على طلبه من السجّان، كان سيكتفي بطلب بعض الروايات التي ظنَّ أنها لا تثير غضب الأخير واستهجانه، ولم يكن ظنه في محله، فالعنف الذي تعرّض له فاق ما شهده في أيام الاعتقال الأولى، حين اضطرّ السجانون لإدخاله إلى المستشفى، ليخرج منها بعطل دائم وفقدان للأمل في أن يكون "أبًا" يومًا.
2004
"أنتَ لا تستحي"..
قدرُ هذه التهمة الظالمة أن تلاحقه قبل تجربة الاعتقال المريرة، وأثناءها، وبعدها.. خرج من المعتقل بعد 17 عامًا في صفقة تبادل. لم يكن يظنّ أنّ ثمّة حياة يمكن أن تُعاش بعد دلال، فجاءت وفاء لتغير رأيه في الأمر.
كانت وفاء تصغره بسنواتٍ كثيرة، فلم يحُل ذلك دون نموّ الحب في قلبيهما، ولا حال دونه ما عرفته وفاء من وضعه بعد الأسر. كانت مقتنعةً تمامًا أن الحروب لا ينبغي أن تُخاض إلا من أجل الحبّ، فعاهدته على خوض هذه الحرب معه، وكان الحبّ ينتصر دائمًا في رواياتها، فلم تشأ أن تنصره على الورق وتخذله في الواقع.
ولكن والدها كان له رأي مختلف، وخذلهما معًا..
"أنتَ لا تستحي؟ تريد ربط مصير هذه الشابة بمصيرك، وأنت آيسٌ من الحياة، وهي مقبلةٌ عليها؟ حتى حلم الأمومة لن تستطيع تحقيقه لها".
لم تكن وفاء تريد ابنًا.. كان يكفيها ويكفيه أن تكون له أمًا وابنةً في آنٍ واحد، فلم تنكث بوعدها له، وظلت إلى جانبه على أمل أن تنتهي هذه الحرب يومًا بانتصار الحبّ..
2024
تحت شمس أيار، على مقعد اسمنتيّ وسط الكورنيش البحري، يجلس ووفاء إلى جانبه، وفي يد كل منهما حزمة من الحمص الأخضر، يتناولان حباتها اللذيذة بلهفة من يستعيد تقليدًا سنويًّا بكثير من الشغف و"النوستالجيا"، وإلى جانبهما كيس بلاستيكي يلقيان بقشور "الأم قليبانة" داخله..
يضحك من قلبه لكلمة قالتها وفاء، فتضحك معه، لتستدرجه ضحكتها إلى المزيد من الضحك..
لوفاء ضحكة تدخل القلب من دون استئذان، وقد ظنَّ أنه نسي الضحك بعد أشهرٍ أدمنَ فيها سماع الأخبار الآتية من الأراضي المحتلة، وهي أخبارٌ فيها من العزّة ما فيها من محفّزات الدموع، خصوصًا مع ارتقاء بعض رفاق زنزانته إلى حيث يليق بأمثالهم..
يمرّ من جانبهما شابان يضعان على أكتافهما كوفيتين فلسطينيتين، توحي أنهما عائدَين للتوّ من تلك الفعالية التضامنية في الجامعة الأميركية، وبنبرةِ من ختم النضال وأدى قسطه للعلا، يقول أحد الشابين لصاحبه بصوتٍ مسموع:
– هذا الأشيب لا يستحي! يضحك مع صاحبته في الشارع غير عابئٍ بآلام الناس في الأرض المحتلة، بينما تمرّ قضيتنا بأشدّ أيامها حرجًا وخطورةً.. كيف لنا أن ننتصر وبيننا من لا يعرفون الحياء؟