الأحد ٢٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٦

حكاية شعب

محمد دحمس - فلسطين

في يوم من أيام السنة الدراسية، حيث كان عائدا من المدرسة بعد انتهاء يومه الدراسي، تملأ روحه البهجة والسرور وكأنه يريد أن يطير إلى حيث بيئته وأهله، فتساءل في قرارة نفسه متعجباً!

لماذا هذا الشعور بالبهجة والسرور على الرغم من قسوة أيام الانتفاضة وبطش جيش الاحتلال الصهيوني، وعلى رغم من ثقل المسؤولية الملقاة على كاهله حيث عائلته الفقيرة المكونة من عدد من الأخوة والأخوات والأب والأم، وكان هو أوسطهم ، وكان أخوه الأكبر منه سناً مطلوبا لدى قوات الاحتلال منذ ما يقرب على الخمس سنين، أي من بداية الانتفاضة الأولى عام، 1987 وكان عمر أخيه آن ذلك أقل من ستة عشر عاما، حيث كان قد أسر وعمره لا يتجاوز الخمس عشر عاما.

وبعد خروجه من السجن بأشهر قليلة، اندلعت الانتفاضة الأولى وكأنها بركان غضب ثار على من يواجهه، إذا ما لبث حتى أصبح مطاردا في ربوع الوطن المصاب.
فقال لنفسه:

آه: في حرقة وألم
ربما الأمل بأن الله سوف يغير هذا الواقع الأليم بلا شك، وأنه سوف يساعد والده في إعالة العائلة بالعمل في العطلة الصيفية القريبة.

فقد كانت السنة الدراسية قد شارفت على نهايتها، وصادفت أن هذا اليوم هو يوم الخميس العاشر من شهر رمضان المبارك شهر البهجة والبركة عند من لا احتلال عنده، فجاءت تذكره انه صائم فشعر بالجوع فقال لنفسه:
قد شارف اليوم على نهايته واقترب آذان العصر فاصبر
وفي طريقه إلى البيت اخذ ينثر السلام هنا وهناك على من يقف على أجناب الطرقات بصوته الرقيق الخفات وقد أوشك على دخول حيه وما زال يشعر بالفرحة، ولكن!

هناك شيئا ما فالناس يتحركون بصورة غريبة في الحي أشبه وما يكون بالعرس الخجل الحزين.
فتعجب مما يدور حوله فتمتم بينه وبين نفسه ربما بسبب شعوره بما في داخلي يخيل إلي أن كل من حولي يشعر بشعوري، فلما أقترب من بيت العائلة فإذا بجيرانه خارجون من بيوتهم يحدقون به فتعجب وانتهرت نفسه ما زال يلقي السلام على الرغم من ردهم الموحي بما هو أكثر من رد السلام، وكان يرى في عيونهم وهي تقترب جسمه الصغير وروحه البريئة نظرة التعجب والحزن، ولا يدري ما سبب هذه النظرات وما ينتظره.
فجأة....

وإذ به يسمع أصوات غريبة تأتي من قبل البيت، فإذا بإخوته وأخواته الصغار خارج البيت ومنهم من يبكي، ومنهم من يتساءل عن ما يجري بحيرة ومنهم من لا يبالي لصغر سنه.
فأسرع نحو البيت خائفا يصرخ ماذا يجري.... ماذا جرى؟؟؟؟
فأجابه أخوه الأصغر منه سنا بأن الأخ الأكبر له قد وقع شهيدا في كمين صهيوني فجن جنونه واقتحم البيت المكتظ بالناس من الجيران وغيرهم وروحه تختنق كأنه يقتحم دخان فوهة بركان أسود أشعره بالاختناق، فإذا بنسوة يبكين بحسرة وآلم، فأخذت عيناه تدور في باحة المنزل تترقب وجه أمه وكأنه في دار مغلقة سوداء فتذكر ما كان يشعر به قبل لحظات من فرحة وسرور وأمل، فشعر بدوران وكأن الأرض تهوي به وتهرب من تحت قدميه الصغيرتان، وإذا بعيناه تقع على وجه أمه الشاحب من شدة البكاء والعويل والنحيب، وهو يرى في أمه دائما الأم الصابرة المحتسبة التي كانت تذكره دائما بالصبر والأمل وأن الفرج قريب من عند الله.
فساقته قدامه وكأنه يركب الهواء إلى حيث أمه فنظر إليها وكانت حقيبته المدرسية وما زالت على ظهره الذي سيحمل أثقل مما يتصور فأتى في مثل سنة.
فقالت له أمه:
أخوك استشهد.....
أخوك مات قتلوه اليهود.....
وأخذت تبكي وتحتسب بالله وكانت تبدو كأنها مخنوقة بصوتها وشكلها، فأحس بمدى ومرارة وحرقة دمعها فشعر بدوران وغثيان وكأنه سيقذف أحشائه.
وكانت النساء تمسح بأيديها على رأسه ووجه وتسمي بالله، فأدرك مدى المصاب والكارثة، فأحس بأنه سيقع على الأرض وأخذ يشق طريقه بين النساء متماسكا رغم فداحت الأمر وصغر سنه ليدخل أحدى غرف المنزل الصغير، وما أن دخل حتى وقع على الأرض كالمغشي عليه وانهمر عليه دمعه الذي بدأ كأنه خلف سداً منيع وكأنه لم يبكي من قبل.
فحاول جاهدا أن يمنع هذه الدموع فيما استطاع لها منعا.

وما هي إلا لحظات حتى تجلت أمامه صورة أخيه قبل استشهاده الذي كان بمثابة شمس الضحى ينير طريقه ويشجعه دائما على التحدي والصمود في وجه الصعاب، فتخيل كيفية استشهاده وكأنه يشعر بأنفاس أخيه الشهيد تلفح وجه وتهمس له بالصبر والمواجهة.
فبدأ يجفف دمعه المناسب دون جدوى وتنفس عميقا ولملم أطرافه وجراحه وأفكاره وتمالك أعصابه وتذكر كلام أمه توكلي على الله فأن الله مع الصابرين
وأتجه نحو باحة المنزل يبحث بين الرجال عله يرى والده بينهم فرأى في عيونهم نظرات الشفقة والحسرة بما آل إليه حال هذه الأسرة الفقيرة بعد هذا المصاب الجلل.
وإذ به يرى والده والرجال حوله من الأقارب والأصدقاء والجيران، وكأن أخوته الصغار جالسون هنا وهناك منهم من يدرك ومنهم من يتعجب ويتساءل عن طبيعة الحدث، فاحترقت أنفاسه وأتجه نحو والده فرآه أبوه فبكيا وزاد بكاءهما حزنا حتى تعانقا فضمه أبوه وأخذ يسمح على جسده الصغير إلى أن تقدم احد القارب وأخذه من حضن أبوه مواسيا له فتارة يمسح دمعه وتارة يهدأ من روعه، وقال له: أنت رجل عيب عليك أن تبكي فتشجع يا بني وتوكل على الله فأنت الآن مسؤول عن العائلة، فأبوك رجل كبير السن فقد تعب كثيرا من أجلكم وهو الآن لا يقدر على العمل، فيجب عليك أن تدرك مدى المسؤولية الملقى على عاتقك رغم صغر سنك، وقال له:
 آه.... للمناسبة كم عمرك؟
 فقال: أقل من 14 عاماً
 فقال الرجل:
 أنت رجل إذن، فقد كان في المرحلة الإعدادية نحمل أحمال الرجال وهمومهم.
وكانت هذه اللحظات بمثابة بداية لحياته الجديدة المليئة بالمتاعب.

ومرت عدة أيام وما زال جسد أخيه الشهيد أسير في ثلاجة احتلال، وبعد أسبوعين سلم جثمانه، وعاد الحزن إلى ذروته بعد أن كان قد هدأ دون نسيان.
وبدأت جنازته أشبه بالعرس الوطني الحزين الممتد من بداية النكبة إلى النكسة إلى ما آل إليه حال الشعب الفلسطيني.
وكانت قد ساءت حالة والده الصحية وأصبح حول المعيل الوحيد للأسرة بعد الله.
ومع بداية السنة الدراسية الجديدة ودخوله المرحلة الثانوية الأولى كانت قد أصبحت الانتفاضة على أشدها، حيث أثرت على مجرى العملية الدراسية، فرغبت نفسه عن الدراسة، وأصر على العمل طول النهار بدل من العمل بعد المدرسة لشدة حاجته الماسة للمال، حيث بدأ مشواره الجهادي من أجل أهله، فبدت تواجهه صعوبات وتحديات عظيمة ومقارنة مع سنة، مثل طبيعة العمل وقلة وتدني الأجر، ولكن كان شعاره الصبر والتوكل على الله.
أخذت الأيام تعدو وتعدو وهو يكافح ويكابر في فترة أغلقت فيها كل الأبواب في وجهه من قلة العمل بسبب إغلاق المدينة وفرض حظر التجوال في أيام الانتفاضة لمرات عديدة وأيام متواصلة.
وكانت تأتي أيام على أهل البيت لا يوجد سوى الماء.
فأصر على العمل داخل الأراضي المحتلة عام 1948 حيث دخل، وبدأ يعمل لفترات متقطعة على مر أيام الانتفاضة رغم شدة الإغلاق.

أتت أيام تحسنت فيها حالة الأسرة وهدأت الانتفاضة وبدأت علامات السلام المزعوم تلوح بالأفق.
ومع مر الأيام كبر الصغير وأصبح شديد المراص مما رآه من أنواع وألوان المعاناة.
فبدأ يحلم بأكثر من لقمة العيش، فأصبح يحلم ببيت جميل ومستقبل كريم للعائلة إذ أخذ يجمع المال ويصلح ما دمرته ويلات الاحتلال في بيته وأهله.

ومن ثم بدأ بإضافة شقة فوق بيت العائلة، فقد كان قد كبر وبدأ بالتفكير في تكوين أسرة أخرى رغم صعوبة ذلك.
ساءت الأحول السياسية وبدا كان الأمر يعود إلى الأسوأ فقد اندلعت انتفاضة النفق وكثرة العمليات الاستشهادية التي كانت قاسية بدورها على العدو الصهيوني.
وكان له أخ يصغره سنا وهو طالب في المدرسة ولكنه كان نشيطا في إحدى الحركات الطلابية داخل المدرسة، فبدأ له كأن الدائرة تدور من جديد.
ومرت الأيام ومرت الشهور وتحسن الوضع من جديد وبعد ما يقرب السنتين اندلعت انتفاضة الأقصى وبدأ بذلك مشوار جديدا قديما.

فقد أصبح بالبيت مطاردا آخر وبدأت مداهمة جيش الاحتلال بالبيت التي لا ترحم صغيرا ولا كبيرا ولا تميز بين ليلا أو نهارا وكأنه الظلام المنذر بالشؤم والدمار.
وفي ليلة من ليالي انتفاضة الأقصى داهمت قوات الاحتلال بيت العائلة المكون من طابقين المكونين بقطرات الدم والعرق، بكامل عدتها وعتادها كأنها تستعد لمهاجمة جيش آخر، فاخذوا يضربوا الأبواب بوحشية ويصرخوا:
 أفتح الباب..................
 افتح الباب..................
ففزعت العائلة التي كانت نائمة بلا هناء واستيقظت على صراخ ومطالبة؛ بخروج أفراد البيت إلى خارج البيت، فاتجه نحو الباب هو وأمه فأشعل النور واختلس النظر من ثقب الباب فإذا بجنود الرعب والإرهاب بدأو بالاختفاء خلف سيارتهم كأنهم فئران ليل قد فزعوا من ضوء النهار، وبدأ يصرخوا
يلا افتح الباب .... يلا افتح الباب....

وما لبث أن فتح الباب حتى انهمرت عليه أضواء مصابيح الاحتلال كأنها شمس تموز المحرقة فصرخوا ارفع يديك.... ارفع يديك
 ارفعوا الأواعي
 فصرخ: لا شي بحوزتي فأنا في لباس النوم كما ترون
 فقرروا ارفع الأواعي
فرفع ما على جسده وهي أشبه بقطعة قماش رقيقة يرى من خلالها ما تحتها بوضوح.
فصرخوا نزل البنطلون... نزل البنطلون والا أطلقنا النار
فصرخ قائلا ما بحوزتي شيء أفعل ما تشاء فأمروه بالتقدم إليه
فما لبث أن اقترب منهم أنهمروا عليه بسلاحهم وبأيديهم والصقوه بمقدمة سيارة الجب العسكري
وأخذوا يقيدونه ويصرخوا:

أين أخوك ... أين أخوك
فأجابهم لا أعرف: فالمنزل أمامكم، أدخلوا وفتشوه فما بداخله أحد....
فساقوه إلى حيث مقر المخابرات والتحقيق داخل الأراضي المحتلة عام 1948
ومرت الأيام والشهور المليئة بالإساءة والمعاناة في زنازين الاحتلال الغاشم بما فيها من أنواع وألوان العذاب والحيرة والفكر المشغول بالأهل والأحباب وعدا عن ذلك ما كانوا يسمعون من أخبار غير صحيحة لينهار ويستسلم للذل والهوان، فقد كانوا يقولون له بأن بيتك قد تهدم وأخوك قد قتل وأهلك شردوا وما بقي لك بقية فأبوك المعقد في الشارع وأهلك عراة جائعون.

وبعد انتهاء فترة التحقيق انتقل إلى سجن أكثر انفتاحاً، واخبروه الأسرى أمثاله أن أخوه قد أعتقل وأنه بخير وأهله.
وبعد شهرين أفرج عنه وكان قد شارف شهر رمضان على القدوم وأسرع إلى بيته فرحاً لا يكتمل فرحه، وخائفا مما قد يلقاه أمامه من حزن وآسى قد حال على عائلته من جديد؛ مشفقا على أمه الصابرة ووالده المسكين المقعد، وكانت قد مرت في أثناء عودته حوادث حياته كلها، متفحصاً إياها فلم يجد يوما إلا وفيه شيئاً من الجراح.
وفجأة تذكر أمه وعلى أي حال هي، وكيف سيلقاها بعد هذه المدة الذي قضاها في السجن، لا سيما أن أخوه قد أسر هو الآخر، وما زال معتقل.

وبدأت دموعه تنهمر وقلبه يخفق حتى أن دخل حيه وتلقاه الأهل والجيران والأصدقاء بالتبريك والتهاني بالإفراج، ولما وصل إلى باب المنزل نظر إلى أمه وهي لا تكاد تقدر على الكلام، فضمته إلى صدرها وألقت بثقلها وان لم يتبقى لها ثقل من شدة ما رأت من مصائب، فضمها بشوق ودخل إلى البيت ليبدأ من جديد.
وفي ليلة ظلماء دامس لونها، بعد ما يقارب الثلاثة شهور إذ بقوات الاحتلال تداهم البيت بكل قوة وهمجية تطالبهم بإخلاء البيت فوراً، وذلك من أجل هدمه وتدميره بالكامل.
فقال لهم ما الأمر.... ماذا تريدون لم عدتم من جديد
فقالوا: عدنا لنهدم البيت لأن أخوك تورط في قتل يهود...
فبدأ من جديد من بداية الدائرة الأولى مشواره البنائي مثله مثل الكثير الكثير من أبناء شعبنا الفلسطيني الصامد، وكان قد فاق الثلاثين من عمره.

محمد دحمس - فلسطين

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى