الخميس ٤ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٧
قراءة نقدية تحليلية في رواية (أهرميان) للدكتور غسان العلي

حقائق أسطورية في ثنائيات أردنية

د. عماد الخطيب

من عمان و سعد الخيشان إلى خربة حنة و متعب بن جفال

غسان العلي : طبيب وروائي معروف، من الأردن، عرف حديثا بروايته الأولى ( الذئب ).. التي دعمت نشرها أمانة عمان الكبرى.. فرواية " أهرميان "، التي نشرتها له وزارة الثقافة الأردنية.. ضمن سلسلة إبداعات ( سلسلة الكتب الشهرية التي تصدرها الوزارة )، و عدد صفحات الرواية 177 صفحة، 2006م.

 و ذكر إمام عبد الفتاح إمام في معجمه " معجم ديانات و أساطير العالم "، مكتبة مدبولي، القاهرة – مصر، 1995م، ص 61، أهرمان .. بأنه مبدأ الشر في الميثولوجيا الفارسية.. و تعني الروح المدمر – اسم لأول من أدخل الموت إلى العالم عندما قاد قوى الشر ضد ( سبنتا مينيو = الروح القدس ) الذي يساعد " أهورا مازدا = إله " – السيد الحكيم الذي له النصر في نهاية الصراع - .
التحليل :
من حديث النظرية :

-1-

استخدمت كلمة "أسطورة" أو "حكاية خرافية" استخدامات متعددة ومختلفة على مر العصور إلى أن وصلت إلى اصطلاحها الفني الحالي.. الذي يعني [ من تعريف محمد عجينة في موسوعة أساطير العرب " عن الجاهلية و دلالاتها – بتصرف ] الحكاية المروية من قديم الزمان و تؤسس لفكر ما .

فالأسطورة،
تعتمد على عنصر الخيال الذي تحيا فيه وتستمد منه وجودها، و إضافة إلى عنصر الخيال في الأسطورة عنصراً آخر، فقد اعتقد أن الأسطورة تخفي في طياتها نوعاً من المنطق الذي لا يمكن إرجاعه إلى منطق آخر. و هي شكل حياة رمزي، يتسم بوحدة الوجود ووحدة المشاعر، ففي عالم الفعل الميثولوجي لا توجد حدود فاصلة بين المادي والروحي، أو بين الطبيعي والذاتي، حيث يحدث التبادل المستمر بين عالم الروح وعالم المادة.

ومن ناحية الشكل الفنّي للأسطورة، فإنَّها تنهض على حكمة أو مثل أو فكرة مأثورة، ويعتمد استخدامها على النظرة الشخصية، والنظرة الأخلاقية العامة، وفيها توازن بين السرد الرمزي للأحداث والمواقف، وبين ما تحمله من مغزى فكريّ. فالأسطورة واقع حي، وليست وهماً أو كذباً، وهي: تجربة وجودية. و إنّ الأسطورة تحوي عناصر أساسية لحقيقة الإنسان ووجوده، وهي تضع الإنسان في كل زمان ومكان أمام مرآة صافية مصقولة يرى فيها وجهه السليم وحقيقة وجوده.

-2-

إنَّ النظريات التي فسرّت الأسطورة اشتركت هي الأخرى بتفسير الظاهرة الدّينية؛ لأنَّ الأسطورة والدّين يتجزّآن معًا ويتداخلان معًا..، مع أنَّ النظرية الأنثروبولوجية قد احتلّت مكانًا متميّزًا في نظريات تفسير الأسطورة. وما نخلص إليه مستنتجين أن الشعوب الأولى كانت تفرّق بين ديانتها وأساطيرها. وأن الأسطورة ليست جزءًا من أجزاء الدّيانة؛ لأن العابد ملزم بأداء الشعيرة، لكنه غير ملزم بتصديق ما جاء في الأسطورة. فالشعيرة-من هنا-ثابتة، لكن الأسطورة متغيّرة، وإنَّ دراسة الأساطير تتصل بدراسة الشعائر. مع أن الشعيرة ظهرت أولاً، ثم ظهرت الأسطورة، ثم إنَّنا بهذا التسلسل لآراء مَنْ فصلوا بين علم الأساطير وعلم الأديان-تاريخ الأديان-، كأنَّنا نرى من الخطأ تفسير ظاهرة التديّن نسبة إلى أفكار معاصرة في أديان قديمة.

ورأى الإنسان في المقدّس جزءًا من جسده، وكان له فائدة روحية. وبتكوّن الدّين في تلك الفترة البدائية من (عقيدة وطقس وأسطورة) اعتقد الإنسان-هناك-بوجود حياة أخرى؛ فانصبّ تفكيره في مرحلته الفكرية تلك لمعرفة سببت موت شخص معين بدلاً من التفكير بسبب الموت ذاته. ثم بالعقيدة عرف الإنسان الفن والفلسفة إلى جانب الدّين.

و بعد،
فالرواية صراع بين الخير و الشر.. و ثنائيات سترد في التحليل هكذا :
عمان .. و خربة حنة
مادبا .. و الحمايدة
رمضان .. و العيد
ذيبة السلمان.. و ديمة
عفاف.. و عيشة
سعد و متعب بن جفال
جابر المتروك .. و محمود الصانع
أهرميان.. و ابن حاديراش
مقدس السفر.. و ابن أكشاني

-1-

لقد جاء المشهد الروائي في " أهرميان " يكشف عن نفسية بطل الرواية، وعن إحالاته التاويلية النفسية والشعورية، ووضعه الاجتماعي وواقعه المهزوم والمأزوم..ففي الرواية تأتي الملامح الأساسية لذاتية البطل تائهة وضائعة، وتمر بحالات من الانهيار والتمزق النفسي التي تتغور النفس الإنسانية وتصدعها إلى نصفين، فيبحث عن خلاصه هائما صارخا محتجا لعدمية وجوده في هذه الحياة التي امتلأت بالانتكاسات والهزائم.. فجاءت صراعاته الذاتية تصويرا لحالة من الخلاص وانعدام الوجود، فهو دائم الهرب من العالم المحيط به ومن ذاته، التي تعاني الوحدة والقلق والخوف...

فكيف كان ذلك ؟

لقد وظف القاص " الأسطورة " توظيفا رمزيا في إثراء البناء القصصي، فقد أشار بمنتهى البساطة وبدلالة متنوعة إلى الواقع الاجتماعي، يقول الراوي عن " أهرميان " :

.. لا يخفى على أحد أن الرجل أسطورة
إنه موهوب..
لكنه غامض، ص 49.

و الراوي.. يغلب في سرده أن يكون باحثا عن الوجه الآخر :

هل كان اسمه :
صارييل اهرميان..
جمال مرزوق..
ابن حاديراش..
من يدري ؟، ص 75
 
و ما هو الحل ؟
لعله ليس من مخلوقات الدنيا !
هو عفريت أو جن، ص 90

و ما أن ينقضي رمضان حتى تنفك عنه أكباله.. ، ص 71

قال عن نفسه :
أنا من نار، ص 70
كما أن مطلقته من الجن، ص 55.

ولقد تطوّر مفهوم المقدّس في الرواية، وفي علاقته بأهرميان،-من الناحية الفكرية-؛ لأن الرجل = الشيطان.. يحب الالتزام بالمبادئ، وعليه أن يرعاها بالاعتقاد بالمقدّس، وقد اتّخذ أصحاب النبوءات الكاذبة هذا الجانب بتوّسع عندما لبسوا ثوب الصدق لتلبية حاجة الإنسان إلى المقدّس الحقيقي، وهم يعلمون ميل الإنسان-طبيعيًا-إلى الالتزام بالمبادئ، وأنه يبحث عنها في نفسه إِنْ غابت عنه، ويُصاب بالقلق إن لم يجدها، كما يبحث المجتمع عن المبادئ إن غابت عنه؛ فهي عامل أساسي في بنائه وتوجيه علاقاته. وكأنَّ التاريخ لا يسمو في سيره من غير نبوءات صادقة.

فإذا كان في الدنيا .. فالدنيا ليست ملكا لأحد :

نايف و عبد الهادي
قتلا في الغزو
محجوب تزوج
...
داوته الحجة أم صفية بنبات الهوجان المعجون بالسمن
لكنه مات في اليوم الثالث
ترك زوجته غزية الخيشان حبلى
..
ولدت سعدا
[ببطن الوادي]
لفت وليدها بذيل ثوبها
و عادت به إلى الخربة
.. ترعرع سعد
مع ابن خالته جابر
عاش الولدان تحت عين جدهما " أبو الحيايا "صبح الخيشان
[مات حسرة على ما فقد من مال]
قال للولدين قبل موته :
أمس رأيت في منامي قافلة
تحمل قمحا ترحل شطر عمان
قادمة من الجنوب.. ، ص 78-79

فيبحث عن الأمل وراء الحقيقة.. فيقول الراوي :

هل تبحث في ثراء سريع ؟
ثم ،
فتش عن ذهب، أو ..
اتجر بالمخدرات، أو السرقة، ص 84.
فهو بحث عن حلم تائه في الواقع، متكدس في المجهول لا يظهر إلا بعد الفناء، ويدفع توسع الإنسان في الرّمزيات المقدّسة شعوره بإرادته وحريّته وخوفه من الكون وليس حبّه له، لأن الإنسان شاء أن يقدّس، فصنع إلهه، واختاره، ومثّل شكله، وحدّد مكانه، وأقامه، ولو شاء استبدله، أو سَخِر منه..

كما فعل مقدس السفر : إنه الشيخ الحكيم و الرجل المعجزة .. و اسمه : ابن أكشاني.. ص 30، 36، 126.

وقد جاءت التقنية التي استثمرت الأسطورة بأثر عميق ودلالة خصبة في جدار النفس الإنسانية لإيصال رسالة تخدم الفكر والواقع الذي يريد القاص أن يعبر عنه، وهو نوع من التوق للحرية عبر الخروج بالأسطورة إلى واقع الناس، اقرأ كيف سار السرد في قصة ابنته ( ديمة) من ( عفاف = المرأة الإنسان) التي كان لها ثلاث عيون في وجهها " عيناها البشريتان من ( عفاف ) و عين في جبينها ( منه هو الشيطان) "، ص 86. لخدمة المضمون:

أما جابر المتروك فكان وراء ثأر من نوع آخر..
يبحث عن ابنته " ديمة "،
و لم يترك مكانا إلا و بحث في عنها..
كيف ماتت ؟
قل لهم كيف قتلت ابنتك !
التهمت كيسا من دقيق سكر القدَر..
يا له من عبر،
يجر خرائب جسده،
متعثرا شطر أحزانه البعيدة، ص20، 35 93، 148، 150.

لقد ساق الراوي الرمز / الأسطوري كثيرا في معترك العبارات والجمل والألفاظ اللغوية، التي وظفت بقصد الهروب من واقعية الكلمة ، و البحث عن عالم مثالي بلاحدود..

و بدت عمّان
و وجوه الناس
ككتاب مخطوط بلغة مجهولة، ص 34.
أما فيما يخص الرمز التراثي في الرواية فكان غنيًا تتميز الرواية به بدءا من :
أمه : ذيبة السلمان
جده : صبح الخيشان ( أبو الحيايا )،
الحجة أم صفية،
و انتهاء بـ :
وادي اليتم،
ذيبان،
أم الرصاص،
أطيان بني حميدة،
حي الأرمن،
ضاحية الجندويل،
الخربة،
الساحة الهاشمية،
جبل الأشرفية..

أما الرمز الديني، فتمثل في أن جابر المتروك كان مسيحيا.. و ق سارت أحداث الرواية في رمضان، و العيد.. وقد جاء الرمز الديني على مستوى الموقف، أي لم يكن على المستوى الكلي الشامل لبناء القصة.. فجاء الراوي بهذه الألفاظ في نسيج البنيان القصصي لإبراز دلالات معينة توظف في مكانها فقط، اقرأ قوله :

ما عليك يا جابر
سوى أن تمسك
بين إصبعين
عودا من القش
تبلله بالبصاق
ثم تدسه في قعر الثقب الذي في الأرض
و أنت تقول :
اطلع يا إبليس !
 
لإغناء النص بنكهة من نوع آخر :
اشهدي يا نجوم، يقظة جابر المتروك في نبوة البيدر المقدس !

ويشار إلى السلوك الدّيني في الرواية بدراسة تأريخية للتدين فيها، فقد تحوّل مغزى الإله و خوارقه إلى قوّة حقيقية :
تقول عنه عازفة العود :
كان مسيحيا
و اعتنق الإسلام كي يتزوجها.
لكنه ظل يرسم الوصايا العشر على أظافر يديه.
ومن ناحية عملية تظهر في الرواية فكرة الإله، والدعاء له، والتجمّع حوله:

كان يصلي
بالطريقة نفسها التي يبكي؛
لأنه يعلم أن الدمع جزء من الخالق !

وهذا يظهر تنفيذ المقدّس من خلال إجراء الرواية:

كان يرسم في العتمة
و لم يكن يتوقف عن الرسم إلا أثناء الخسوف ..

و ما يظهر من تخليد الشخصيات الرمزية المبنية- في الرواية- أنها ذوات خارقة:

فأخبره بأنه ليس المخلوق الذي يخاف من التراب
و يرضخ !
و أنه ابن حاديراش الشيطان ..
القوي ..
و أنه لا مقارنة بين قوته و قوة البشر .
و أن النار أقوى من الطين

.

وقد استمدت الأسطورة أهميتها بربطها بفكر الأسلاف والأجداد، يقول الرواي:
قالت أم جابر بأن الكنز مدفون في خربة ( حنة )،
و لا يطلع لأن الرصد مقيم.

و لقد حاول الروائي إعطاء صورة واضحة وبسيطة على كيفية اختياره لرموزه ومصادر هذه الرموز، ثم كيفية توظيفها من خلال العمل الروائي ككل :

الأرض أولى بأحلامها يا سعد.
و من هنا حاول الراوي أن يعمق مفهوم الرمزية لتكشف لنا عمق الإنسان وأفكاره وعواطفه ..

-2-

و نحن أما م تداخل نصوص أدبية مختارة قديمة وحديثة شعرا أو نثرا مع نص الرواية الأصلي، بحيث تكون منسجمة وموظفة ودالة قدر الإمكان على الفكرة التي يطرحها الرواي أو الحالة التي يجسدها ويقدمها في روايته و هو ما يعرف بالتناص الثقافي .. كما يعرفه أحمد الزعبي. و التناص الثقافي معطى تكثيفي للنص يساهم في تكثيفه ومنحه الكثير من الخصب والإيحاء، ومع التناص تزداد أهمية النص ويصير فعلا حاثا باعثا.
فالمخزون التعبيري الكامن في الأعماق يحضر في لحظة استلهام ليعطي دلالة واضحة لمعنى قديم مترسب في الذاكرة، وصياغته من جديد تعبير عن ذلك. و يتضح معنى التناص الثقافي في رواية العلي من خلال حضور الخطاب الشبيه بالشعري في النص الروائي :

ديمة.. ديمة
يا قبضة من نور
يا حضنا من سنابل
لا أملك في حضرتك
سوى الصمت .. ! ص 86 - 87
 
فيتولد الاستحضار في لحظات تألق :
من ذا الذي ينشد الهواء
أمام كل هذا الإبداع،
وحده الانجماد يكفي
أمام هذا العالم اللوني
الجاهز لأخذي إلى حيث
أشاء.. ص 44
 
أو انكسار عاطفي :
في ليلة ماطرة ، عاد
رجل ميت من قبره
ليتناول العشاء مع
أسرته، كان وجهه حزينا
في موته مثلما حياته..
لم يمنحه الموت أي
فرح .. ص 54 – 55

وينتج ذلك من خلال علاقة النفس مع النفس أو مع الآخر أو مع المجتمع، و تبدو شخصية البطل " أهرميان " في محور الطقوس أثناء الحديث عن البطل في الأساطير، صفة للشعيرة التي تنسب إلى شخصية قديمة مقدّسة، وهي أقرب ما تكون إلى ذاك البطل الأسطوري. ولعل افتراض أن الطقوس أعمال تؤدّى بطريقة ثابتة، مثلها مثل الشعائر الدِّينية، قد يكون من أوضح السبل لفهم الأساطير التي تربط بتلك الأعمال، ويتم ذلك بثلاثة طرق هي:

طريق اعتبار الطقوس أصلاً لفهم الأساطير. مع الحاجة للفهم النفسي، وإدراك أن مجال الفهم النفسي واسع الفرض واحتمال الخطأ فيه موجود، في حين أن الطقوس وقائع لا يمكن الخلاف عليها، وطريق يصل البطولة بالطقوس الجماعية. وهي صلة غامضة؛ إذ إن في الطقوس الجماعية لا تظهر أهمية الفرد فيها كفرد، رغم أن الأسطورة تبقي الفرد نموذجًا معبّرًا عن حياة الجماعة لا ذاتًا متميّزة، وطريق تصاحب فيه الطقوس الأساطير، مصاحبة منها إليها، وإليها منها.

-3-

و يمكن أن تدرس الأساطير هنا بالاعتماد على الطقوس المصاحبة لها، أي الثنائيات لكشف لغزها و سنوردها بالتفصيل في الأسطر القادمة :

ففي رمضان خرج ( سعد الخيشان = سمى نفسه للشرطي في عمان " متعب بن جفال " ) و هو بدوي في الثلاثين من عمره، قصير و سمين.. وجهه أسمر مدور و له عينان حادتان و شارب ضخم- و معه ( جابر المتروك = ابن خالته الذي سماه سعد للشرطي في عمان " محمود الصانع " ) وهو الطويل النحيل شائب الرأس ضامر و حليق و يحلم كثيرا خاصة بملاقاته ابنته التي أضاعها إهماله و ماتت !.. و أخبره ( مقدس السفر ) بأن الموت هو الذي أخذ ابنته منه و عليه مطاردة الموت في خربة ( حنة ) و أن يتبع ( رائحة الحرمل ) - خرجا إلى مدينة ( عمان = العجيبة ذات الضجيج و الكآبة و شركات التامين و مؤسسات بيع الخبز و حافلة النقل العام و .. ) عام 2019م، و وصلاها عصرا..و كانا يبحثان عن رجل سرق من جد سعد ( صبح الخيشان ) جرة كنز.. و عدّ سعد ذلك ثأرا.. و قد أضاعا أكياس قمح أعطاهما إياها ( مقدس السفر ) و لم يعيرا ذلك انتباها لأن ما جدوى بضع أكياس من قمح في مواجهة المستقبل ؟ و المخابز الآلية تتفشى في عمان ! كل شيء تغير في عمان. و مما لفت انتباهما منع بيع السجائر!

ذهبا للبحث عن معرض صور لـ " أهرميان = و معروف ابن حاديراش " بعد أن قرأ جابر عنه في الجريدة و هما في الفندق في عمان.. و هو معروف لديهما فقد كان شريك جد سعد في المواشي.. ثم تواطئا في البحث عن الذهب في أطيان ( بني حميدة ) و لقيا جرة.. دفناها في مكان معلوم.. غير أن " أهرميان " سرقها و اختفى.... . و قيل إنه جاء من الماضي، و حين لم يفهم موهبته أحد فرّ هاربا إلى المستقبل.. و ثمة شائعة بأن الرجل ما كان غير بائع جوّال، خزاف يتجر بالجرار الفخارية.. حتى وقع قرب مدينة البتراء على فخارة عمرها آلاف السنين.. و ترك " أهرميان " المكان و غادر صوب ( عمان ) في العام 2019م.. حيث عمان تحتفل.. اسمنت و حجر و أنفاق و جسور = و هل ثمة خير في مدينة تغتال بيادرها ! .. و لم يبق فيها متسع من تراب.. قال عنه ( مقدس السفر = و اسمه ابن اكشاني و يحرس الذهب المدفون ) بأنه هو من سرق جرة كنز جد سعد ثم اختفى.. و لم يعثر عليه أحد. و لم يعد الجد، و لم يعد الكنز و بقي مدفونا في الأرض.

و صلا المعرض و ذهلا من صور المعرض التي رسمها "أهرميان " و ما وصل إليه من الشهرة و الغنى. طلبا لقاءه فلم يفلحا ! شرح لهما أنه سيختفي إذا دخل شهر الصيام. و أن عليهما الانتظار إلى بعد العيد . أو أن يشتريا يوما من قبل فيمكنهما مشاهدته فيه.. إن " أهرميان موهوب، و غامض، و هو رجل أسطورة .. لا يدري أحد من أين أتى و لا لماذا يختفي شهرا كاملا كل عام. قال عنه مدير أعماله ( جمال مرزوق ) : إنه كان ينبش الأرض ليس بحثا عن ذهب كما قال سعد و لكن بحثا عن مواضيع تغذي أعماله الفنية. و أخبرهما بأن ما يقولانه عنه بأن يده تنقص إبهاما صحيح ! ثم أخبرهما عن مطلقته و أنها من الجن و تعزف على العود و تستخدم ذيلها إصبعا سادسا . تقول عنه عازفة العود : كان مسيحيا و اعتنق الإسلام كي يتزوجها. لكنه ظل يرسم الوصايا العشر على أظافر يديه. كان يصلي بالطريقة نفسها التي يبكي؛ لأنه يعلم أن الدمع جزء من الخالق ! و لكنه قبل أن يرحل قطع إبهامه و علمني كيف يكون العزف على العود. كان يرسم في العتمة . و لم يكن يتوقف عن الرسم إلا أثناء الخسوف .. و يرسم على عظام الدجاج.. كان يقول أنا لا أفهم إلى أي جحيم أو نعيم تنجبون الأطفال .. انتهت الساعات الأخيرة في رمضان و اقتربت عودة سعد إلى ( مادبا ) خائرا يلجم بعقال الصمت.. يتساءل : ماذا سيقول عنك الحمايدة ؟ قرر أن يشتري من شيخ على الطريق يوم الرابع من شوال ! فاشتراه . سار إلى فندق ( صلاح الدين ) قاطعا شارع ( الأمير محمد ) ثم دلف إلى شارع ( الملك طلال ) و فتح الكيس الذي قال له الشيخ بأن الرابع من شوال فيه فوجد " قبضة من ملح بارود معجونة باللعاب . و قارورة صغيرة بها حبة دواء واحدة خضراء " فقط . أشعل قبضة البارود و ابتلع الحبة . أحس بأن الدخان سوف ينقله إلى الرابع من شوال. أحس بنشوة الانتصار على " أهرميان " و أنه سوف يثأر لجده. غرق سعد في الصمت و النعاس و رائحة الزنجبيل ! توجه إلى مكتب معرض " أهرميان " قال للمدير : اخلع قميصك ، أنت " أهرميان " أنت تخدعني. قال له : كيف عرفتني ؟ قال : أعد لي جرتي . فأخبره بأنه ليس المخلوق الذي يخاف من التراب و يرضخ ! و أنه ابن حاديراش الشيطان .. القوي .. و أنه لا مقارنة بين قوته و قوة البشر . و أن النار أقوى من الطين . قتله سعد و أخذ مفتاح الخزنة و فتحها و وجد جرة الفخار لكنه لم يجد بها ذهبا.. بل كانت طافحة بأعشاب نبات الحرمل. نظر سعد إلى هلال شوال و أدرك بأن الرجل الممدد مقتولا أمامه ليس " أهرميان".

عاد سعد و جابر إلى ( المصطبة ) حيث ( مقدس السفر ).. و فتحا الأرض بالمحراث و راحا يزرعان القمح و مقدس السفر يبتسم.. و لا أحد يعلم من أين أتى و هل هو من الجن أم من الإنس ! ثمة مال مدفون و مخبوء في باطن الأرض عند الشياطين .. خذا منه ما تشاءان.. إنها غنائم طوع يديكما.. تطالهما اليدان .. كراس عاجية و صناديق طافحة بالجواهر .. فرغت أكياس القمح و زرعت الأرض كاملة .. و في اليوم التالي حرثا الأرض .. و السعادة تملأ المكان . انتهت الحراثة مع الغروب .. و أثناء نوم سعد جاءه في المنام أن يحفر تحت الشجرة من رجل لم ير منه غير أصابع يده اليسرى و كانت أربعة فقط ! في هذه الأثناء مات ( مقدس السفر ) عراه جابر من ملابسه و ملأ محجريه بالتراب.. و تساءل عن دفنه و عن كونه مسيحيا أم مسلما.. و أنه هل ثمة فرق في الموت ؟ حفر سعد و لم يجد سوى التراب . قالت أم جابر بأن الكنز مدفون في خربة ( حنة )، و لا يطلع لأن الرصد مقيم. و يرحل إذا نزل المطر و لا أحد يعرف متى تمطر . لكنه استدل على عين ( ماء الحياة ) في الخربة. و قسم الماء مع الغولة.. و انحدر هابطا نحو الخربة و هزيم الرعد يجلل الموارس بديم – جمع ديمة - المطر. و لكنها لم تمطر أمام عينيه.
ثم تحدث الرواي عن ( جابر و ديمة ) و حكايته مع الشيطان الذي كان يغويه لفعل كل الشر و يداوم معه ليله و نهاره .. و كيف أنه تزوج من ( عفاف = قيل إنها امرأة خزاف في خربة حنة و تعرف باسم " عيشة " و كان زوجها خزاف و له معرض جرار في عمان و كان يتاجر بالأنتيكا و قيل إنه تاجر حشيش .. و اسمه : جمال مرزوق) و رزق بـ ( ديمة ).. و لكنه يلحظ أن الشيطان لم يكن يفارقه حتى أنجب ابنته بثلاث عيون : عينان بشريتان و ثالثة في جبينها. و ظل الشيطان يحثه على الشر حتى طلق زوجته و دفن ابنته ! أبلغ ( جابر ) عن فقدان ابنته رغم أنه دفنها.. و يروي الشيطان " ابن حاديراش " حكاية دفن جابر لابنته بأنه رآه و هو يلحد الصغيرة في القبر ثم ركع باكيا .. و روى – الظل – رواية مفادها أنها أكلت نصف كيس من الثلاثة أكياس من الهيروئين يتاجر بها ( جابر ) .. و لما أخبر الشرطة بأنه دفنها و حفروا القبر لم يجدوا الجثة، فسجنوه.. ثم أخرجوه لعدم كفاية الأدلة ! . و كان جابر يخطب بالسجناء عن قهر الموت و خاصة موت الأطفال.. ثم يتساءل : أين اختفت " ديمة " ؟ .. تذكر جابر أمه ( ذيبة السلمان ) و كيف رآها تموت أمام عينيه !

ظهرت غمار القمح.. و راح جابر يحصد وحيدا تحت الشمس.. ثم راح يقتحم دار ( عيشة = عفاف ) على الرغم من أنه لمح زوجها من بعيد! دفع الباب و دخل .. رأى ظل الرجل الخزّاف و رأى عيشة : أدرك أنه يعرفها.. كانت متعبة من الولادة.. تذكر أمه ( ذيبة السلمان ) و نهنهاتها.. و كان يسمع صوت الوليدة.. و راح الجميع ( سعد و جابر و أبو الحيايا ) ينسفون المحصول عاليا في الهواء.. و هم مرهقون.. أعياهم الكدح لملاقاة أسباب الحياة .. ملأ ( سعد الخيشان ) و ( جابر المتروك ) أكياس الخيش بالمحصول.. و حين طلع الصبح راحوا يقعدون على المصطبة و يحسبون غلتهم و كم تساوي من الذهب..

تذكر سعد جده و جدته ( نوفة المتروك ) و هي تواسيه على ضياع الجرة. و تذكر كيف ولدته أمه ( غزية الخشان ) و هي تحتطب الإثل في الوادي.. و تذكر كيف ترعرع مع ابن خالته ( جابر ). عاشا يتيمين و رباهما جدهما " صبح الخيشان = أبو الحيايا ".

-4-

لقد أبدع العلي روح الشعر في نبض نسيجه القصصي، فاحضر إضافة للنص الشعري و الحكاية التراثية القريبة إلى النفس - بعض نماذج تراثية و شعرية ووظفها داخل نصه.. وتكمن أهمية ذلك في أنها تجسد الحالة النفسية التي تعيشها الشخصية..، يقول:

تزوج من ( عفاف = قيل إنها امرأة خزاف في خربة حنة و تعرف باسم " عيشة " و كان زوجها خزاف و له معرض جرار في عمان و كان يتاجر بالأنتيكا و قيل إنه تاجر حشيش .. و اسمه : جمال مرزوق) و رزق بـ ( ديمة )..
فكلما يبحث الراوي عن أمل وحلم مفقود في ردهة التاريخ، يأتي الرثاء الاسترجاعي محملا بحنين الماضي :
و قيل إنه جاء من الماضي،
و حين لم يفهم موهبته أحد فرّ هاربا إلى المستقبل..
مما جعله دقيقا ومنسجما مع السياق القصصي للرواية، محققا التأثير المطلوب بجلاء الصورة وإظهارها :
حيث عمان تحتفل..
اسمنت و حجر و أنفاق و جسور
و هل ثمة خير في مدينة تغتال بيادرها ! ..
و لم يبق فيها متسع من تراب..

ويمكن أن نرى في خيال الروائي قدرة على التحليق بعيداً عن الواقع المباشر المحسوس فلا فارق عنده بين الواقعي و الممكن :
و فتح الكيس الذي قال له الشيخ بأن الرابع من شوال فيه فوجد " قبضة من ملح بارود معجونة باللعاب . و قارورة صغيرة بها حبة دواء واحدة خضراء " فقط . أشعل قبضة البارود و ابتلع الحبة . أحس بأن الدخان سوف ينقله إلى الرابع من شوال. أحس بنشوة الانتصار على " أهرميان " و أنه سوف يثأر لجده.

فكل شيء يفكر به الراوي يعده موجودًا :
قرر أن يشتري من شيخ على الطريق يوم الرابع من شوال ! فاشتراه.
فيستعين الراوي بـالثنائيات لتقريب الأسطورة.. و يكشف الحقائق في نهاية الرواية، يقول :
تزوج من ( عفاف = قيل إنها امرأة خزاف في خربة حنة و تعرف باسم " عيشة " و كان زوجها خزاف و له معرض جرار في عمان و كان يتاجر بالأنتيكا و قيل إنه تاجر حشيش .. و اسمه : جمال مرزوق) و رزق بـ ( ديمة )..
موظفا إياها في نسيج الرواية في لحظة وجدانية وانفعالية ذات وتيرة مرتفعة:

أنجب ابنته بثلاث عيون : عينان بشريتان و ثالثة في جبينها. و ظل الشيطان يحثه على الشر حتى طلق زوجته و دفن ابنته !
إن هذا النموذج من التناص الأسطوري الذي يستخدمه القاص هو من أعمق التناص وأكثره إبداعا:
و كان جابر يخطب بالسجناء عن قهر الموت..
ثم يتساءل :
أين اختفت " ديمة " ؟ ..

إنها لغة وفكر في بناء الرواية القصصي :

و راح الجميع ( سعد و جابر و أبو الحيايا ) ينسفون المحصول عاليا في الهواء.. و هم مرهقون.. أعياهم الكدح لملاقاة أسباب الحياة ..
فتصورات الروائي و أفكاره بطريقة أسطورية ترجع في تصويرها و مرجعيتها لها و بنظرة سريعة للقصة التي أثبتها المؤلف في الهامش عن " أهرميان " تجد بعض التطابقات المقصودة، ومنها :

في هذه الأثناء مات ( مقدس السفر ) عراه جابر من ملابسه و ملأ محجريه بالتراب.. و تساءل عن دفنه..
و تظهر علاقات مألوفة بين الراوي و أشياء و أشخاص حفظت في ذاكرته :

سار إلى فندق ( صلاح الدين ) قاطعا شارع ( الأمير محمد ) ثم دلف إلى شارع ( الملك طلال )..
أما مرحلة اللغة المدونة الصالحة للتعبير عن الأفكار المعقدة. و قد مثلت الأساطير استجابة الروائي لها استجابة إدراكية إزاء الظواهر الكونية، تارة.. و إزاء بنية معرفية لها(عقلها)الخاص، تارة أخرى :

لا يدري أحد من أين أتى و لا لماذا يختفي شهرا كاملا كل عام.
كما يحاول الراوي التقاط الملفوظ التراثي التاريخي ووضعه على لسان الشخصيات، ومنها قوله :
لقد كان شريك جد سعد في المواشي.. ثم تواطئا في البحث عن الذهب في أطيان ( بني حميدة ) و لقيا جرة.. دفناها في مكان معلوم..
و في الدائرة السحرية الأساسية للأسطورة نجد وحدة بين الفلسفات، والفنون، والأشكال الاجتماعية، والاكتشافات العلميــــة، والأحلام. وبذا تكون الأسطورة فتحة سحرية تنصب منها الطاقات إلى مظاهر الحضـــارة :
ثمة مال مدفون و مخبوء في باطن الرض عند الشياطين .. خذا منه ما تشاءان.. إنها غنائم طوع يديكما.. تطالهما اليدان .. كراس عاجية و صناديق طافحة بالجواهر ..

إن الدائرة السحرية للأسطورة لا تختلف فيها الأسطورة عن السحر. فكل ما يتعلــق بالاجتماعي فيها يؤسس نظاماً ذا مفاهيم عقدية آمن بها من استخدمها و ذلك من قوله :
لكنه استدل على عين ( ماء الحياة ) في الخربة. و قسم الماء مع الغولة.. و انحدر هابطا نحو الخربة و هزيم الرعد يجلل الموارس بديم – جمع ديمة - المطر. و لكنها لم تمطر أمام عينيه.

ويمكن القول إن علم النفس فسر بعض الجانب الأسطوري عند الإنســــان، وإن الأسطورة بنية نفسية تنقد باطن الإنسان.. وإن ظهورها جاء مطلبا لاقترابها من جوهر الإنسان و أنها صارت كنمط فكري عنده، انظر ذلك في قوله :
و لا أحد يعلم من أين أتى ( مقدس السفر )
و هل هو من الجن أم من الإنس !
ويمكننا تفسير ما جرى من قفزة في عالم الرواية – أسطوريا - إلى العالم الضمني، إذ تبدو القوى خلاله قادمة من عالم آخر، كأنه العالم الضمني الموجود فينا جميعا وفي كل ما حولنا في الكون، إلا أننا نحتاج إلى قوة أو منفذ يوصلنا بها.. فيظهر السحر بمعناه الخارق في الأسطورة قوة يتمتع بها أناس استثنائيون موهوبون0 فتنشأ أشكال لا حدود لها من الحيل والخداع.. ولقد مارس الروائي التحكم بالقوى الخارقة للتأثير على القارئ :
و أثناء نوم سعد جاءه في المنام أن يحفر تحت الشجرة من رجل لم ير منه غير أصابع يده اليسرى و كانت أربعة فقط !

و الثنائيات في الرواية على درجة عالية من الأهمية.. و لقد حاولنا استجلاء دلالاتها شكلا ومضمونا، وعلاقتها مع السياق النصي وأحداثه، أثناء كتابتنا لملخص تحليل الرواية.. فالانسجام على صعيد المضمون اتضح في التحليل من خلال المقارنة أو المشابهة بين حالين.. نجح الروائي في تقصيهما...

د. عماد الخطيب

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى