الاثنين ٧ تموز (يوليو) ٢٠٢٥
بقلم محمد عبد الحليم غنيم

العروس المتوهّجة

بقلم: جهـﭭـرتشند ميجاني

ألّف جهـﭭـرتشند ميجاني (1896–1947) ما يقرب من مئة كتاب – بين روايات وسير ذاتية ومجموعات من القصص والقصائد والأغاني والمسرحيات. وقد كرّس حياته للحفاظ على التراث الثقافي المميّز لإقليم سوراشترا – شبه جزيرة كبيرة تمتدّ في بحر العرب من ولاية غوجارات الواقعة غرب الهند، المعروفة بأنها مسقط رأس المهاتما غاندي وآخر موطن طبيعي لأسود آسيا.

في عام 1922، شرع ميجاني في رحلة استمرت عدة سنوات عبر سوراشترا، بهدف توثيق تراثها الشفهي قبل أن تلتهمه قوى الاستعمار والتصنيع والتحضّر والنزعة القومية السابقة للاستقلال.

وقد فرض غياب الطرق المعبدة أو خطوط السكك الحديدية آنذاك على ميجاني السفر عبر تضاريس صعبة على ظهور الخيل أو الجمال أو في عربات يجرها الثيران، ليصل إلى القرى ويلتقي بالفلاحين والمتمرّدين والخارجين عن القانون.

تأتي هذه القصة، "العروس المتوهّجة" (العنوان الأصلي: "Parnetar")، من الجزء الثاني ضمن مجموعة مكوّنة من خمسة مجلدات بعنوان "جوهـر سوراشترا"، نُشرت بين عامي 1923 و1927.

تدور أحداث القصة في بلدة رانافاف، وهي موقع تتداخل فيه الأساطير المستمدة من ملحمة الرامايانا الهندية القديمة.

في مقدمة "جوهـر سوراشترا"، يؤكّد ميجاني على تصوير شخصياته التاريخية ببساطة وصدق، من دون أي تزويق. وكأيّ راوي فلكلوري بارع، كان يُدرك أن الحكاية الشعبية ما هي إلا "إثنوغرافيا ذاتية" – أي أن الثقافة تحكي عن نفسها، لا كما يصفها الآخرون من الخارج.

وتهدف ترجمتي، كما تقول جيني بهات، إلى الحفاظ على الخصوصيات الثقافية – من الوجبات والملابس وتفاصيل الحياة اليومية، وصولًا إلى الرؤية الكونية الهندوسية التي تُجسَّد في الفصول الأخيرة – مع تقديم قصة يجد فيها القارئ بُعدًا إنسانيًا عالميًا عن الحب والبراءة والحوادث التي قد تشكّل مسار حياتنا.

 جيني بهات( المترجمة)
العروس المتوهّجة
بقلم: جهـﭭـرتشند ميجاني
ترجمة: جيني بهات
ترجمها إلى العربية: د. محمد عبدالحليم غنيم

على الحدود الغربية من إقليم سوراث، تقع قرية تُدعى رانافاف، سُمّيت تيمّنًا ببئرٍ محليّ شهير.في زمنٍ مضى، كانت المزارع في تلك المنطقة تزدهر كما تزهر الأزهار الدائمة. وكما يتسلّق الرضيع جسد أمّه ليصل إلى ثدييها المانحين للحياة، كذلك تسلّقت عائلات مجتمع "كانبي" الزراعيّ التلال، واستقرّت في حضن الأرض الأم، لزراعة الحبوب وكسب لقمة العيش. هذه قصة عن ذلك الزمان.

كان كيتو باتِل أحد ملاّك الأراضي من طائفة "كانبي" في تلك الأنحاء.وكان له ابنةٌ بلغت من الجمال حدًّا جعلهم يطلقون عليها اسم أجوالي، أي "المُتوهِّجة" – لكنهم كانوا ينادونها ببساطة: أنجو. وحين كانت أنجو تبتسم ابتسامةً خفيفة، كان النور، للحظة، ينتشر من حولها كالأشعة.

منذ ساعات الصباح الأولى، كانت أنجو تُعدّ من عشر إلى اثنتي عشرة رغيفًا من الخبز المُسطّح الغنيّ لتقدّمه لوالدها. ثم تنظّف الزرائب التي تُؤوي ثيرانهم الأربعة، وتكنس ساحة الدار حتى تبدو كأنها حديقة نظيفة هادئة. وبعدها، تحلب الجاموستين، تمسك بأضرعها الغليظة – السميكة مثل عضد رجل – وتجذبها بمهارة بين قبضتيها حتى تنهمر منها جداول دافئة من الحليب الكثيف. ثم تخضّ هذا الحليب الطازج بسرعة لتُحضّر أكبر قدر ممكن من اللبن الرائب.

كان الكثير من الخُطّاب يتوافدون لطلب يد "أنجو" الفاتنة الموهوبة، لكنّ "كيتو" كان يردّهم بلطف قائلاً: " ما تزال ابنتي صغيرة على الزواج."

في يومٍ من الأيام، زار شابٌ من قبيلة الكانبي منزل كيتو باتيل. كان يرتدي ثياباً بالية بالكاد تستر جسده النحيل، ووجهه الشاحب يكسوه لونٌ باهت. لكن في عينيه نظرةٌ أثارت الشفقة. فقرر كيتو باتيل تشغيله كعامل في الحقل، مقابل ثلاث وجبات يومياً، وثوبين، وزوجٍ من الأحذية، وحين يحين موعد الحصاد، يحصل الشاب على قدر ما يستطيع حصده بنفسه من سنابل القمح. وهكذا بدأ الشاب الذي يدعى ميبو عمله على الفور.

كانت أنجو نفسها تتولى مهمة إحضار غداء ميبو يومياً إلى الحقل. كانت تنتظر هذه اللحظة بشوقٍ بالغ، حتى أنها كانت تنهي جميع أعمالها المنزلية قبل الظهيرة بوقتٍ طويل. رغيفان من الخبز السميك تعلوهما قطعة كبيرة من الزبدة، وسيقان الكوليوس المخللة بالليمون التي كانت تعدها خصيصاً له، وإبريقٌ فخاري مملوء باللبن الرائب الغليظ - حين تجمع أنجو هذه الأطعمة وتتوجه بها إلى الحقل، كان وجهها يكتسب جمالاً يفوق أي وقتٍ آخر من النهار.

كانت أنجو تجلس بجانب ميبو تطعمه بيدها، مازحةً إياه بتهديداتٍ عابرة:

 إن لم تأكل، فستموت أمك!"
فيردّ وهو يبتسم:
 ليس لي أمٌّ حتى أموتَ عليها .
فتضيف وهي تضغط على كتفيه:
 إذن سيموت أبوك!
فيقول وهو يهزّ رأسه:
 ولا أبَ لي أيضاً.
فتغمز بعينيها وتقول:
 زوجتك إذن ستموت!
فيجيب ببراءة الرّحل:
 لعلّ أمها ما تزال تربي تلك الفتاة - زوجتي المستقبلية - في مكانٍ ما من هذا العالم.
فتميل نحوه وتقول بصوتٍ حنونٍ قاطع:
 إذن.. سيموت أحبّ الناس إلى قلبك!
عندما يسمع ذلك التهديد الأخير، يعود الفتى إلى طعامه بشهيةٍ متقدة. يومًا بعد يوم، كان سعده يزداد بلا حدود. في أحد الأيام، سأل الفتى:
 لماذا تُظهرين لي كل هذا اللطف؟

فأجابت ببساطة:
لأنك يتيم.. لا أمَ لك ولا أب.

وفي مرة أخرى، بينما كان صوت عجلة الساقية يتردد "كينشوك-كينشوك" لتروي الحقل، سألت أنجو:
 ميبو، ما الذي تتحدث عنه العجلة والمحور؟ ماذا يقولان لبعضهما؟
فأجاب ميبو بابتسامة خجولة:
 تذكّره بحياته الماضية. تقول للمحور: ’أيتها السيدة المحور! في تلك الحياة السابقة، كنتِ ابنة ملاك الأراضي باتل، وأنا كنتُ مجرد عامل فقير...

قالت أنجو ضاحكةً في حياء:
 يا له من بطل شجاع! هل نطقتَ أخيرًا بما في قلبك؟ لقد أصبحتَ جريئًا أكثر مما ينبغي، أيها القرد الخجول! انتظر فقط حتى أخبر أبي!
هكذا كانا يتبادلان ألعاب الغزل البريئة.
هكذا مر الصيف في ظل هذه اللحظات السعيدة. كان ميبو قد عمل بجدٍ لا يكل لحرث الأرض حتى أصبحت ناعمة كفراشٍ وثير. لم يترك حتى عشبةً ضالةً قائمة، فما بالك بالأعشاب الضارة. تغطت يداه بالجروح من قلع السيقان اليابسة المتشابكة. وكانت أنجو تأتي لتنفث نسماتها الباردة الناعمة على تلك الجروح، وتنزع الأشواك من قدميه برقةٍ تشبه دبيب النمل على الرمال.

وعندما هطلت أمطار الموسم، كان الحظ السعيد يغمر ميبو كما تغمر الأمطار الأرض العطشى. نبتت سيقان الذرة الرفيعة والدخن بضخامة حتى لم يعد بمقدوره أن يمسك واحدة منها بقبضة يده. وفي ظهيرة أحد الأيام، بينما كان ميبو يحدق بلا رمش في المحصول الشامخ، سألته أنجو:
فيما تحدق هكذا؟
فأجاب وهو يبتسم:
 أحاول أن أعرف إذا ما كان هذا المحصول كافياً لإقناع امرأة بالزواج مني هذا العام.
فتقول أنجو بخبث:
 وماذا لو لم تكن بحاجة إلى أيّ من هذا المحصول لتحصل على زوجة؟
فيجيب ميبو ببراءة:
 عندها سيُقال عني إنني يتيمٌ معدم، لا يملك شيئًا ليقدّمه لعروسه!

تم تحديد موعد يوم الحصاد الكبير. وخلال الأيام التي سبقت الموعد، كان ميبو يقطع ربطة من الحشيش الأخضر كل يوم ويهديها إلى الحداد في القرية. كانا قد صارا صديقين مقرّبين، وقد صنع له الحداد منجلًا صغيرًا. وبعد أن صيغَ المنجل المعدني، تم تنظيفه وشحذه بماء بئر رانافاف. لقد أصبح ذا شفر حادّ للغاية، كالسيف، لو اقترب من جسدٍ لقطع أطرافه بضربة واحدة.
وفي صبيحة يوم الحصاد المنتظر، حمل ميبو منجله الجديد وبدأ يقطع سنابل المحصول ببراعة. بحلول الظهيرة، كان قد حصد ثلاثة أرباع الحقل! جاء كيتو باتِل ليتفقد الأرض، ثم عاد إلى بيته مذهولًا، وعيناه جاحظتان. قال لزوجته:

 يا باتلاني، لقد خسرنا! بحلول الليل، سيكون ذلك الفتى قد حصد كل ما في أرضنا. وبحسب الاتفاق، كل ما يحصده سيكون ملكًا له. فماذا سنأكل بقية العام؟
سمعت أنجو كلام أبيها، فبدأت تتزين بأفضل ما لديها: ارتدت تنورة أرجوانية فاخرة مطرزة بقطع المرايا لجلب الحظ، وشالاً قرمزيًا كعروس لتغطية رأسها. سرحت شعرها وضفرته بطريقة العرائس، وملأت فراق رأسها الـسيندور الأحمر القاني، مثل العرائس الجُدد.

في هذا اليوم الخاص، خرجت أنجو مبكرًا كالمعتاد ومعها وجبة ميبو، لكنها أعدت له مفاجأة: حلوى "لابسي" شهية، صنعتها من دقيق القمح المحمص، وسكر الجاجري، والحليب الكريمي، والمكسرات، والفواكه المجففة.

جلس ميبو ليأكل، لكن قلبه كان مضطربًا اليوم. راحت أنجو تثرثر في مواضيع شتى لإبقاء الأجواء مرِحة، لكنه لم يُبدِ أيّ اهتمام. أسرع بحشو فمه ببضع لُقيمات، ثم غسل يديه إشارةً إلى أنه انتهى من الأكل. قدمت له أنجو حبة الهيل المعطرة التي كانت مربوطة بطرف شالها - وهي عادة بعد الأكل - لكنه رفض حتى هذه الهدية النفيسة اليوم. نهض ميبو فجأة...
 اجلس الآن، هيا! لن تبقى بلا زوجة إن فوّتَّ حصاد سنبلتين فقط.
لكن ميبو لم يرضخ لها. ولم يبتسم حتى لمزحتها. قالت:
 اليوم، رؤوس الحَبّ أعزّ عليك من أنجو، أليس كذلك؟
لكن قلب ميبو لم يَلِن. قالت تتوسّل:
 حسنًا، سأزوّجك بعروسك المستقبلية مجانًا! اجلس معي قليلًا فقط… انظر إليّ، على الأقل!
لكن ميبو أدار وجهه إلى الجهة المعاكسة، ومضى نحو سيقان الزرع الناضجة. قالت وهي تهرع إليه:
 انتظر… لماذا لا تستمع إليّ؟
كان مقبض المنجل قد ثُبّت في حزام قميص ميبو،

وكان نصله المُقوّس يتدلّى بتراخٍ حول عنقه — كما هي العادة بين عمّال الحقول حين يتوقفون عن الحصاد لأخذ قسط من الراحة. وفي اندفاعها البريء المليء بالحبّ، أمسكت أنجو بمقبض المنجل وجذبته نحوها قائلة:
 لن تتوقف، أليس كذلك؟

فتوقّف ميبو. توقّف إلى الأبد.بمجرد سحبة صغيرة،غاص ذلك المنجل المشحوذ بماء رانافاف عميقًا في عنقه.وقبل أن ترفع أنجو ذراعها للإمساك بالمقبض، كان ميبو قد ابتسم لها ابتسامة صغيرة، خفيفة. وظلّت تلك الابتسامة — مثل الضحكة المجمدة — عالقة على وجهه إلى الأبد.

في تلك اللحظات الأخيرة، تحققت أمنية ميبو بالزواج. نعم، تزوج ميبو. بذات الثياب الفاخرة التي لبستها يوم الحصاد - ذلك التنّور الأرجواني الداكن المطرّز بقطع المرايا الصغيرة لجلب الحظ، وذلك الرداء القرمزي الطويل الذي تتهادى خيوطه الذهبية - تمدّدت أنجو إلى جانب جثمان حبيبها ميبو على محرقة جنائزية . باركهما إله النار "أجني" بسريرٍ زفافيّ من الجمر المتوهّج، بلون الورود الحمراء.

ومنذ ذلك الحين، يُردّد الناس هذه الأبيات تخليداً لذكرى العاشقين:
منجلٌ حادّ وقوي،
يحصد الأرواح ويكدّسها عالياً.
عذراءٌ في رانافاف، وادعة العين،
تصعدُ إلى فراشٍ مشتعل لتموت طائعة.

ومنذ ذلك الحين، ظلّ بئر رانافاف الشهير مُغلقًا ومدفونًا تحت الأرض ، مدفوناً في أحضان النسيان. واليوم، يقوم نُصُب تذكاري كبير في الموقع الذي كان فيه البئر ذات يوم. لم يعد هناك أي أثر مرئي للبئر نفسه، سوى الأبيات الشعرية المنقوشة التي تحكي قصته، كشاهد وحيد على ما كان.

ملاحظة المؤلف: لقد مُنحت الشخصيات في هذه القصة أسماءً خيالية، حيث تعذّر التأكد من الأسماء الحقيقية. والقصة مُترجمة عن اللغة الغوجاراتية بواسطة جيني بهات، وهي مأخوذة من كتاب:جوهر سوراشترا: حكايات شعبية من غوجارات"، المجلد الثاني.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى