

الصورة الجميلة
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
ملأتُ عينيّ وقلبي بملامحِ يوسف، منحتُه ابتسامةً هادئة لعلها تملأ قلبه طمأنينة قبل أن أُحكم إغلاقَ البابِ خلفي، وجهه قمريّ، شعره أصفر، كيرلي، ابتسامته البريئة تزرع قلبي بالأمل، طلب مني أن أصنع له البندورة المقلية التي يحبها، أخبرته أننا لا نملك بندورة منذ ثلاثة أيام، أن والده لم يعد من المستشفى منذ أسبوع، فقال بغضب وردي: كيف يترك والدي المصابين ويأتي ليُحضر لنا البندورة؟ سأخرج أنا لشراء البندورة.
قلت: ألا تخشى من الضرب؟!
فقال ببراءة: كيف أخاف من الضرب وأنا دمي فلسطيني؟
احتضنْتُه ودرتُ به في الصالة هاتفة: عاش بطلي عاش.
فقال: البطل يشتاق للبندورة.
زرعتْ كلماتُه المرارةَ في قلبي، لعنتُ العدوَّ الذي منع زوجي من الوفاء بمتطلباتنا، حرمنا من احتياجاتنا الأساسية، قلت بحسرة: لن أترك اليهود يحرمونك مما تحب.
قررتُ الخروج لشراء البندورة والعودة سريعًا، تركت له مجموعة من اللعب التي يحبها ليتسلّى بها، أوصدتُ الباب لكنّ صورة يوسف لم تفارقني، لم يعد بالمنطقة سوق، أسرعتُ إلى المحل الموجود في الشارع السابق لشارعنا، عيناي تلتهمان المباني بحثا عنه، وعندما اقتربتُ من مكانه فوجئت بانهيار المنزل بأكمله، أصبحتُ مطالبة بالبحث عن البندورة في شارع آخر، خطواتي السريعة تسبق تفكيري، هالني حجم الدمار الذي جثم على المنازل، حمدت الله على نجاة هذا المحل من القصف، أسرعت إليه، لم أجد البندورة، فكرت في العودة، لكنني قررت مواصلة البحث من أجل يوسف، ابتعدت أكثر وأكثر، فجأة داهمنا فحيح طائرات المحتل، شاهدت القذائف تنهمر على المنطقة، لم يحاول أحد الموجودين الاختباء، بل تسابقت أقدامهم في الجري تجاه المباني التي قُذفت، طائرة العدو هي التي أسرعت بالهرب بعدما فعلت فعلتها، وعندما قفزت صورة يوسف أمام عينيّ وجدتني أجري كالمجنونة، كيف تركته وحده؟ هل من الممكن أن تمتد يدُ القصف إلى طفل في مثل سنه، في مثل جماله، براءته، إنه وحيد في المنزل، صغير، غير قادر على إيذاء أحد.
حاول عقلي إلجامَ الخوفِ الذي تسلل إلى قلبي، إقناعي أنهم سيتركون منزلنا لأنه صغير، يقبع هادئا وسط مجموعة من العمارات المرتفعة، سيتركون يوسف لأنه وحيدنا، قمرنا، ماذا سيجنون إن أصابوه؟ نهبت قدماي الطريق، وعندما دخلت شارعنا بدأ الخوف يطرق أبواب قلبي بعنف، تغيرت معالم الشارع، انهارت مجموعة من المباني، اشتعلت النيران في معظمها، وتصاعد الدخان حتى غامت الرؤية في عينيّ، امتلأ الشارع بالمتطوعين للمساعدة، وعندما مرت سيارة إسعاف بجواري، أخذتْ قلبي معها، فأسرعتُ أدسُّ نظراتي بين الموجودين، أخترق الزحام والدخان الأسود لألقي نظرة تطمئنُني على منزلنا، على يوسف، فعادت إليّ نظراتي بالفزع، لقد امتدت يد العدو إلى المنزل، قتلتْ هدوءه وجماله، هدمته، ورغم المسافة التي تفصلني عنه إلا أنني أحسست برائحة الدخان المنبعثة منه تختلط برائحة يوسف، وجدتني أصرخ بكل قوتي: يوسف
وفجأة وجدت رعشة قوية تضرب قلبي وعقلي وقدمي، لم تقو قدماي على حملي، سقطتُ على الأرض، لم أفقد وعيي، لكنّ شيئا ما اعتصر قلبي عندما تخيلتُ يوسف الجميل غارقا في دمائه، استجمعتُ قوتي وقمت مسرعة وأنا أرسل نظري ناحية البيت، أفتش عن يوسف بين الموجودين، هل أراه واقفا على قدميه؟ أضمه إلى صدري مرة أخرى؟ أسرعت للبحث عنه بين أنقاض البيت، أواسي الأنقاض وتواسيني، هدم القصف الحلم الذي بنيته مع زوجي يوما بيوم...
احتضن بيت عائلته في حي الزيتون فرحة زواجنا، وهناك نبت حلم حياتنا، منزلٌ صغير هادئ يضمنا، وأربعةُ أبناء، حفرنا حلمنا في صخرة الحياة الصعبة، تحدينا الفقرَ، التكدسَ في منزل مكتظ بالأبناء والأحفاد، ضرباتِ العدو التي لا تنقطع، الحصارَ المفروضَ علينا، أصبح زوجي أحدَ الأطباء المشهورين في غزة، وأصبحتُ إحدى المعلمات المشهورات، امتلكنا المنزلَ الصغير في حي الشجاعية، لكنّ النصف الثاني من الحلم عانَدَنا، لم ننجب طوال خمسة عشر عاما حتى عَوّضَنا الله بيوسف منذ سبعة أعوام، امتلك يوسفُ من الجمال والذكاء والرقة وخفة الروح ما أغنانا عن الأبناء الذين حُرِمْنا إياهم.
الآن انقضّ الصهاينة على حياتنا، هدموا المدرسة، المستشفى، المنزل، وأدوا فرحتَنا بالولد، تجرعتُ المرارةَ وأنا أشاهد أنقاضَ أحلامي، واستجمعتُ شجاعتي لأسأل الشبان الذين يساعدون في رفع الأنقاض: هل رأى أحدكم يوسف؟
وعندما لم يرد أحدهم قلت: يوسف الجميل، شعره كيرلي.
أحاطت جارتي أم مازن كتفي بذراعها وهي تقول: إن شاء الله نجده سليما.
فوجئت بوجودها بجواري، تأملتها وأنا أقول: أنت تعرفين يوسف، شعره جميل، أصفر، كيرلي.
قالت بحروف باكية: حبيب قلبي، أعرفه.
وقبل أن أنطق فوجئت بأحد الرجال يسرع إليّ قائلا: أخرَجْنا يوسف من تحت الأنقاض وأرسلناه في الإسعاف إلى مستشفى الشفاء.
رفرف قلبي بين جنبيّ، أمسكت ذراع الرجل بقوة، قلت بضراعة: هل كان حيا؟
قال بحزن: كان ينزف.
تشبثتُ ببقايا الأمل وأنا أهتف: يا رب احفظه.
طرتُ خلف قلبي الذي سبقني إلى مستشفى الشفاء، رجوتُ الله أن يحفظ لي يوسف، تذكرت والده الذي انتقل إلى المستشفى نفسِها بعد قصف المستشفى المعمداني، كيف أصرّ على البقاء مع المصابين، أكد أن الحالات الحرجة تزداد كل دقيقة، أن غيابه عن المستشفى ساعة للراحة قد يتسبب في وفاة بعض الحالات، استغل الصهاينة غيابه عن المنزل وقصفوه، أصابوا يوسف الجميل الرقيق الذي لا يؤذي أحدا، تخيلت صدمته إذا فوجئ بيوسف مصابا، دعوت الله أن يحميه من هذه الصدمة.
وفي المستشفى كان الزحام شديدا، سألت كلَّ من قابلتُه عن يوسف، أخبرتهم أن وجهه أجمل من القمر، شعرَه أصفر، كيرلي، لم يشاهده أحد، تمنيت أن يكون والده قد وجده، أن تكون إصابته بسيطة، سألت عن سيارة الإسعاف التي جاءت من حي الشجاعية، أخبروني أن الحالات كثيرة وتأتي من أماكنَ متعددةٍ، سألت عن زوجي، أخبروني أنه في كل مكان بالمستشفى، دخلت الحجرات، سألت الموجودين عن طفل صغير وجميل، شعره أصفر كيرلي، لم يدلَّني أحدٌ على مكانه، بحثت في كل مكان، ناجيت وجوه المرضى والمصابين أن ترشدني إليه، رجوت الأَسِرّةَ والطرقاتِ المكتظةَ أن تداوي نظرتي المتلهفة عليه، لم يبق إلا حجرة العمليات، و.. ، و.. المشرحة.
انتابتني مشاعرُ متشابكةٌ، خوفٌ أن أجده بالمشرحة، وأملٌ أن يكون في حجرة العمليات، حزنٌ على ما أصاب طفلي الرقيق الجميل وغيبه عني حتى الآن، وجعل أكبر أمنياتي أن أجده في حجرة العمليات، وقلقٌ على مصيره ومستقبله، لم أقو على الذهاب إلى المشرحة، فقررت انتظار الأمل أمام حجرة العمليات، سألت المنتظرين عن يوسف، أخبرتهم أن شعره أصفر، كيرلي، أخبروني أن عددا من الأشخاص تُجْرَى لهم عملياتٌ صعبةٌ وليس أمامي إلا الانتظار، تعلقت بأثواب الأمل، وانتظرت خروج يوسف، تثاقلت الثواني في المرور، وبعد دقائقَ مرت كأنها أعوامٌ خرج زوجي من حجرة العمليات، الدهشة التي احتلت ملامحه عندما رآني عصفت بقلبي، تساؤله عن سبب حضوري زاد أوجاعي، أزال السدودَ أمام دموعي فتسابقتْ تُغرق خديّ، احتواني بين ذراعيه، غالبتُ دموعي وآلامَ قلبي واستجبت للهفته في معرفة ما حدث، أمسكني من يدي وأسرع، بصعوبة لاحقت خطواتِه العجلى، سأل بعضَ الموظفين والممرضين واطّلَع على بعض الكشوف، وأخيرا قرر الذهاب إلى المشرحة، وطلب مني الانتظار، أخذتْ الثواني تطعن قلبي وهي تتلكأ في العبور، وبعد دهر عاد زوجي صامدًا، وطلب مني أن أظل محتفظة بصورة يوسف الجميلة.
تمت