

مقاوم بلا بندقية
القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥
في وقت متأخر من الليل، يجلس عقيل أمام شاشة التلفاز متسمراً واجماً، يشاهد خبر قصف أحد مستشفيات في غزة وموت نزلائه حرقاً، وتقف أمه عند باب الغرفة تنظر إليه بإشفاق، وبيدها كأس عصير البرتقال.
تجمدت عينا عقيل على الشاشة ثم التفت ببطء إلى يمينه وربت على كتف طفل يجلس بجانبه وهمس في أذنه: "تالله لأحُرقنّهم فلا تجزع".
تنهدت أم عقيل بحسرة، وعيناها تراقبان الكرسي الفارغ إلى يمين عقيل. وضعت بخفة قرصاً دوائياً في الكأس وأخفت علبة الدواء في جيبها، ثم اقتربت منه لتقدم له كأس فأخذه وشربه دفعة واحدة دون أن يرفع نظره عن الشاشة. اقتربت الأم وهمست في أذنه: "يجب أن تخلد إلى النوم استعداداً للسفر". ناولها الكأس الفارغة ثم توجه بخطوات ثقيلة إلى سريره.
الساعة الثانية ظهراً، يتفقد عقيل محتويات حقيبة السفر المفتوحة فوق السرير استعداداً للسفر إلى نيروبي، عاصمة كينيا.
ينظر إلى الحقيبة المكتظة بالملابس والتي تعلوها صورة امرأة وطفل في عامه السادس يبتسم ببراءة، ويمرر أصابعه على الصورة ويقول بنبرة حانية: "حمزة، اشتقت إليك!".
"لا تسافر يا أبتِ، فأصدقائي الجدد يريدون لقائك"
يلتفت عقيل بسرعة نحو الصوت، ليجد حمزة خلفه، ارتجف جسده النحيل وجحظت عيناه ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة شاحبة وأردف قائلاً: "حمزة، لا يمكنك أن تصحبني في هذه الرحلة". يركض الطفل في أنحاء الغرفة ويصيح غاضباً: "لقد عاهدتني ألا تفارقني أبداً"، ثم يقفز على السرير ليجلس فوق حقيبة السفر ويقول ضاحكاً: "أغلق الحقيبة الآن وخذني معك"، ضحك عقيل بصوت مرتفع وهو يتأمل حمزة بنظراته العطوفة.
"عقيل، بني". تردد الصوت الدافئ من خلفه. التفت عقيل بسرعة نحو الباب، حيث كانت أمه تقف مترددة، تنظر إليه بعطف. سكنت ضحكته فجأة، وانطفأت الابتسامة في وجهه، وكأنه قد استيقظ من حلم طويل. أدار نظره إلى السرير، فلم يجد حمزة.
تقدمت الأم بخطوات بطيئة إلى داخل الغرفة، وضعت يدها برفق على كتفه وقالت: "بني، أعلم كم تفتقده... لكن حمزة رحل، ولم يعد هنا".
تجمد عقيل للحظة، يحدق في السرير الفارغ بعينين غارقتين في الدموع. ربتت الأم على كتفه بلطف ثم أشارت إلى الحقيبة وقالت بابتسامة خافتة: "كل شيء جاهز، لا تتأخر".
أغلقت الأم الباب وراءه ونظرت بحزن إلى الصورة المعلقة على الحائط؛ صورة لعقيل وابنه حمزة يبتسمان على شاطئ البحر قبل سنتين.
"السيدات والسادة، الكابتن جاك يتحدث. يسعدني أن أبلغكم أننا قد وصلنا بسلام إلى مطار جومو كينياتا الدولي. الساعة الآن الثامنة مساءً، ودرجة الحرارة الخارجية تبلغ حوالي 18 درجة مئوية. نرجو منكم البقاء في مقاعدكم وربط أحزمة الأمان حتى تتوقف الطائرة تمامًا".
استقرت الطائرة، ونزل عقيل بخطوات ثابتة منها متوجهاً إلى قسم الجوازات. تفحص الضابط جواز السفر ويقرأ المعلومات بغمغمة: "عقيل، رجل أعمال عربي، تولد سنة 1987م" ثم توقف عن القراءة وسأله بالإنجليزية: "ما الغرض من زيارتك؟". ابتسم عقيل ابتسامة عريضة وأجاب بإنجليزية طليقة: "لدي اجتماع مع شركاء تجاريين في نيروبي، وأخطط لاستكشاف بعض الفرص الاستثمارية."
هز الضابط رأسه ثم ختم الجواز وقال مبتسماً: "حللت أهلاً في نيروبي، أتمنى لك إقامة طيبة". كانت سيارة الأجرة تنتظره أمام بوابة المطار. اقترب السائق من عقيل، ورفع يده للتحية فقال عقيل: "إلى فندق ساروفا من فضلك".
بينما كانت السيارة تشق طريقها في زحام نيروبي، كان عقيل يتأمل المدينة بشرود، وعقله يراجع تفاصيل الخطة التي استغرقت منه شهوراً لتحضيرها. وصل إلى الفندق ثم توجه إلى قسم الاستقبال لإتمام إجراءات الحجز. دخل غرفته وأغلق الباب خلفه وأخذ نفسًا عميقًا، ثم جلس على السرير وأغمض عينيه.
"الحمد لله على سلامتك يا أبي".
انتفض عقيل من سريره ونظر خلفه ثم قال بصوت متحشرج: "حمزة! كيف جئت؟ ومن هؤلاء؟"
"هذا عليّ، وهذه سعاد، من الوافدين الجدد إلى مدرستنا. نستقبل كل يوم عشرات الأطفال الفلسطينيين بحفاوة، نمسح الدماء عن وجوههم وأجسادهم، ثم نرافقهم إلى حديقة المدرسة لنلعب سوية ونقضي وقتاً ممتعاً".
أخذ عقيل حقيبته الصغيرة بيد مرتعشة ليبحث فيها عن الدواء، فاقترب منه حمزة وأمسك بيده ثم قال: "قد لا تراني إذا تناولت الدواء، أما أصدقائي فلن يغادروا الغرفة ولو ابتلعت كل محتويات الحقيبة، فضعها جانباً يا أبي وابدأ بتنفيذ خطتك".
نهض عقيل من فراشه وفتح حقيبته ليخرج الكمبيوتر المحمول، وضعه على الطاولة وبدأت أصابعه الرشيقة تتحرك على لوحة المفاتيح بهدوء وثقة.
وبعد ثلاث ساعات من العمل المتواصل، أطلق عقيل زفيراً طويلاً وتلفت حوله فوجد طفلاً رابعاً يقف مع حمزة ورفيقيه. اقترب عقيل من الطفل وسأله بنبرة حانية: "ما اسمك يا صغيري؟" فأجاب الطفل: "عدنان، لقد غادرنا فلسطين أنا وعائلتي منذ نصف ساعة، وجاء بي حمزة إليك إذ أخبرني أنك جئت إلى نيروبي لتقتص ممن قتلنا".
تنهد عقيل وقال بحسرة: "وددت لو أن لي ألف نفس فأهلكها نفساً نفساً فداء لكم! ولكن، ما باليد حيلة!"
اقترب حمزة من عقيل ومسح دموع أبيه بيديه الصغيرتين وقال مواسياً: "هوّن عليك يا أبي، يجب أن نغادر الآن لاستقبال الوافدين الجدد، اعتن بنفسك" ثم عانقه وغادروا الغرفة.
في الثلث الأخير من الليل، استمرت أصابع عقيل النحيلة في النقر على لوحة مفاتيح الكمبيوتر المحمول وبدا كأنه نيرون الذي كان منغمساً بالعزف على أصوات الأطفال والنساء في محرقة روما الشهيرة. وبعد ساعة ونصف من العمل المتواصل، ارتسمت على وجهه ابتسامة النصر ثم أطفئ الكمبيوتر المحمول وفك غطائه الخلفي وأخرج علبة من حقيبته ثم سكب محتواها على الدارات الداخلية للحاسوب، ووضعه في الحقيبة وغادر الفندق مسرعاً.
وما هي إلا دقائق حتى وصل إلى الجسر الذي يطل على نهر نيروبي، تلفت حوله ثم ألقى الكمبيوتر المحمول ليسقط في النهر، أشعل لفافة تبغ ونفث دخانها وهو يتأمل تدفق مياه النهر حتى بزوغ الشمس ثم عاد إلى غرفته في الفندق لحزم أمتعته استعداداً للرحيل.
بينما كان عقيل يجمع أغراضه، ظهر حمزة فجأة، جالسًا على طرف السرير بابتسامة مشرقة وقال لأبيه: "أفطر معنا اليوم يا أبتِ". نظر إليه عقيل بعينين تملؤهما الحيرة، ثم تقدم أحد رفاق حمزة نحوه وقال: "ستفطر معنا يا عماه، لقد أخبرني أبي بقدومك إلينا اليوم" أجاب عقيل وهو يحاول أن يخفي توتره: "أفعل إن شاء الله."
كانت يده ترتجف وهو يحزم الحقيبة وجبينه يتصبب عرقاً، وكأن شيئاً في داخله يخبره بأنها النهاية!
حمل عقيل حقيبته متوجهاً نحو باب الغرفة ثم سمع صوت سيارات الشرطة وقوات الأمن، ركض باتجاه النافذة ليجد قوات الأمن تطوق المبنى. كان عقيل يدرك جيداً أن جسده النحيل لن يحتمل ألوان العذاب، فإذا قبضوا عليه حياً سيعرض رفاقه للخطر! ولذلك، كان مستعداً لهذه اللحظة. سقطت حقيبته من يده المرتجفة، شغل التلفاز ثم جلس على الكرسي بهدوء ينتظر النهاية.
اقتحمت قوات الأمن غرفته ووجهت البنادق نحوه وصاح الضابط: "انهض وضع يديك فوق رأسك، الآن!".
"لا تخف يا أبي، نحن ننتظر قدومك فأعجل إلينا!" التفت عقيل إلى يمينه ونظر إلى حمزة ورفاقه وقال مبتسماً: "إني قادم إليكم".
تلفت الضابط حوله ثم صاح بنبرة مرتعدة: "كف عن المراوغة أيها الرجل. سلم نفسك الآن".
رد عقيل بنبرة ساخرة: "أجئت بكل هؤلاء الرجال لحمل جثة من الفندق إلى مشفى المدينة؟" نظر الضابط إليه بحيرة ولم يفهم قصده، ثم تراجع إلى الخلف وقال محذراً: "إنني مخول باستعمال القوة إن لزم الأمر، فلا تهلك نفسك". صدر صوت موسيقى الخبر العاجل من التلفاز فالتفت عقيل إلى الشاشة ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة ونظر في عيني الضابط وقال: "نفس هالكة منذ خُلقت ولن تخيفني بموت تتوق نفسي إليه" وأخرج من جيبه عبوة دواء وأفرغها في فمه وابتلعها فتشنج جسده للحظات ثم فاضت روحه!
دخلت قوات الأمن لتفتيش الغرفة بينما وقف الضابط أمام جثة عقيل على الكرسي. اقترب أحد العناصر من الضابط وقال: "وجدنا هذا الدواء في حقيبته، هل نرسله إلى مخبر التحليل الجنائي؟" تفحصه الضابط ثم أجاب بالنفي وقال: "لا حاجة لذلك فأنا أعرف هذا الدواء جيداً، إنه دواء لمعالجة أعراض الفصام الحاد، ولكن، خذوا العبوة التي تناولها إلى المخبر لمعرفة نوع السم القاتل فيها".
نظر الضابط إلى شاشة التلفاز ثم اتسعت حدقتاه من الدهشة حين قرأ الخبر العاجل:
"سلسلة هجمات سيبرانية تستهدف منشآت حيوية في دولة إسرائيل". وبدأ التقرير الإخباري في الكشف عن تفاصيل الهجمات!
"تعرضت أنظمة الطاقة الوطنية لهجوم سيبراني تسبب في انقطاع التيار الكهربائي عن مناطق واسعة، بما في ذلك المدن الكبرى والمناطق الصناعية. وقد أثر ذلك بشكل كبير على المستشفيات، والمرافق الأمنية، ومحطات تحلية المياه. كما تعطلت أنظمة إدارة حركة المرور، مما تسبب في ازدحامات خانقة وشلل تام في بعض الطرق الرئيسية."
بينما كانت قوات الأمن مستغرقة في تفتيش الغرفة بدقة، كان عقل الضابط منشغلاً بأخبار الهجمات السيبرانية التي عرضها التلفاز. لم يدرك أحد الرابط المباشر بين هذه الهجمات وعقيل، باستثناء الضابط الذي كانت ملامح وجهه توحي بأنه استشعر شيئاً أعمق، وكأنه يقترب من معرفة الأسباب التي حملت القيادة العليا على توجيههم بسرعة إلى الفندق لاعتقال هذا الرجل الخطير.
اقترب أحد العناصر قائلاً: "سيدي، لقد وجدنا أيضاً هذا الدفتر في حقيبته".
فتح الضابط الدفتر بحذر، فوجد داخله رسالة مكتوبة بالإنجليزية بخط يد دقيق:
"لعلك تقرأ كلماتي وأنت تنظر إلى جثتي، فاعلم إذاً أن موتي هو البداية؛ بداية حياتي الأبدية، وبداية الطوفان السيبراني الأكبر الذي يقوده رفاقي الآن ليكملوا ما قد بدأت به، فأنا لست إلا جندياً صغيراً في المعركة الكبرى؛ معركة القصاص لأطفال فلسطين من العالم الذي صمّ آذانه عن صرخاتهم!".
تجمد الضابط في مكانه وارتجفت يده وهو يقرأ رسالة عقيل، إذ أدرك أن هذا الرجل النحيل ليس رجل أعمال وإنما كان العقل المدبر لهجوم سيبراني معقد.
"سيدي، لقد انتهينا من تفتيش الغرفة"
أومأ الضابط برأسه دون أن ينطق بكلمة ثم أشار بيده إلى جثة عقيل لنقلها إلى المشفى.
أُغلق ملف عقيل رسمياً بموته، ولكن ظل اسمه لغزاً يثير الحيرة في أروقة التحقيقات العميقة. لقد أعد عقيل مسرحه بعناية، وأطلق الشرارة الأولى للحرب السيبرانية قبل أن يودع العالم دون أن يترك وراءه ما يكشف قصته؛ قصة مقاوم قاتل الاحتلال دون أن يدخل أرض فلسطين!