السبت ١٩ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥
بقلم عارف محمد نجدت شهيد

حلم مفزع

هدرت حنجرته بصرخة مدوية وانتفض من فراشه فزعاً، ثم أمسك رأسه بيديه المرتعشتين وقال بصوت مرتجف: "اللعنة عليك! ألا تأخذك سِنة أو نوم فتُريح وتستريح؟"

أغمض عينيه محاولاً التخلص من تلك المشاهد المخيفة ولكنها كانت ماثلة أمامه أينما ولى وجهه وكأنها التصقت بعينيه.
تفقد سريره بحثاً عن الولاعة التي تشعل له لفافات التبغ وتنير له الطريق في منزل لا يدخله إنس ولا جنّ ولا تيار كهربائي، اللهم إلا بصيصاً من أشعة الشمس في بعض ساعات النهار. توجه نحو المطبخ بخطوات سريعة لتحضير القهوة، فمحاولة أخرى للنوم تعني كابوساً جديداً!

باستسلام غير مشروط كاستسلام برلين في الحرب العالمية الثانية، جلس بهدوء أمام طاولة المطبخ المتهالكة، يشرب القهوة ويدخن بشراهة منتظراً طلوع الفجر!

وبعد ساعتين ونصف، وضع علبة السجائر في جيبه وأمسك ولاعته ثم خرج من المنزل متوجهاً نحو مسجد الحي.

وقف بعيداً عن باب المسجد في مكان يرى منه ولا يراه أحد، وانتظر حتى خروج آخر المصلين ثم توجه بخطوات سريعة إلى المسجد، رفع رأسه لينظر بإجلال إلى المأذنة وأضوائها الخضراء ثم خفض رأسه وخلع نعليه ودخل.

في محراب المسجد، يجلس بوقار شيخ جليل في العقد السابع من العمر، ذو لحية بيضاء كثيفة، كأن وجهه كالقمر ليلة البدر. رفع الشيخ رأسه وتمتم ببعض الأدعية وقال مبتسماً: "اقترب يا راجي".

جلس راجي بين يدي الشيخ ولم ينطق بكلمة، ثم أطرق رأسه متأملاً صفحات المصحف الذي يفصل بينه وبين الشيخ.
طوى الشيخ مصحفه وقبّله ثلاثاً ثم وضعه جانباً وقال: "ما جاء بك الساعة؟"

تنهد راجي وقال: "رأيت حلماً مفزعاً يا شيخ!"

ابتسم الشيخ وقال: "خيراً رأيت وشراً كفيت، فحدثني"

اعتدل راجي في جلسته وشرع في سرد تفاصيل ذلك الحلم.

 رأيتني في أرض قاحلة يحيطها سور يقطر دماً، وجموع من الأطفال يحاولون القفز من السور، وما إن يتسلقوا السور حتى تستقر السهام في صدورهم ونحورهم فتوقعهم جثثاً هامدة!

وهل نجح أحدهم في القفز من السور؟

 لا، كأني أرى جثث الأطفال الصرعى وهي ملقاة أمام السور، والجحافل التي تتدافع أمام السور المنيع لتحطيمه!

ماذا ترى من حولك؟

 قبور متناثرة، وشجرتان يابستان سكبت على جذعيهما المتهالكين ما تبقى من الماء في فخارة أحملها، لا أدري لم أقدمت على هذا الفعل وآثرت هاتين الشجرتين، فقد نال العطش مني! سقطت الفخارة من يدي وتملكني الذعر من هول المشهد. رفعت نظري إلى السماء فوجدتها متلبدة بالغيوم، وكأن الأرض قد ضاقت ثم صرخت صرخة مدوية، فأرعدت السماء وبرقت ثم هطل مطر غزير فانسحبت الجحافل و...

حسبك!

 ألا تود بمعرفة تتمة الحلم؟

أما الأرض القاحلة فهي حياتك، وأما الأطفال الذين لقوا حتفهم على السور فهم أمنياتك التي عجزت عن تحقيقها، وأما الشجرتان فهما والديك، وأما الفخارة فهي القليل الذي تملكه من المال.

 والقبور؟

علاقات سابقة انتهت بخيبات عظيمة، ولا عجب في أن يتحول قلب المرء إلى مقبرة لذكرى كل من أحبه في يوم من الأيام!

تنهد راجي ثم قال بصوت خافت: "لكل حلم رسالة يحملها إلى صاحبه، فما رسالة هذا الحلم؟ إنه مجرد تصوير لحياتي بلغة الأحلام؛ الرموز التي تمثل كل ركن فيها!"

ابتسم الشيخ وقال: "هل كانت صرختك في الحلم صرخة غضب أم استغاثة؟"

أجاب راجي: "بل استغاثة، لقد نظرت إلى السماء وصرخت مستجدياً الغوث من هول هذا الموقف العصيب".

أمسك الشيخ بيد راجي ثم قال: "هطلت الأمطار فغسلت السور، وصدت هذه الجحافل وأجبرتها على الانسحاب، وروت الشجرتان اليابستان، لقد أصلحت هذه الأمطار كل ما كان فاسداً في حياتك، هل وعيت الرسالة؟".

هطلت دموع راجي بغزارة ولم ينطق بكلمة، ثم ضغط الشيخ بيده على راحة يد راجي وقال بصوت دافئ: "لقد ابتلى الله أنبيائه ابتلاءً عظيماً، فإبراهيم قد قُذف في النار، ويوسف قد سُجن سبع سنوات، وموسى كان بين البحر وجنود فرعون، ولم تُرفع عن الأنبياء هذه الابتلاءات إلا بعد أن التجأوا بصدق إلى الله. يقول الله عز وجل في محكم تنزيله عن نبيه نوح:

"وَلَقَدۡ نَادَىٰنَا نُوحٞ فَلَنِعۡمَ ٱلۡمُجِيبُونَ * وَنَجَّيۡنَٰهُ وَأَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلۡكَرۡبِ ٱلۡعَظِيمِ * وَجَعَلۡنَا ذُرِّيَّتَهُۥ هُمُ ٱلۡبَاقِينَ * وَتَرَكۡنَا عَلَيۡهِ فِي ٱلۡأٓخِرِينَ * سَلَٰمٌ عَلَىٰ نُوحٖ فِي ٱلۡعَٰلَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ"

يا بني، كلما عصفت بك الشدائد، تذكر أنه ليس لها من دون الله كاشفة، فلا ملجأ للمرء إلا الله!".


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى