

انعكاس الظل
في ليلةٍ كساها السواد، بين الأزقة الضيقة في المدينة المحتلة، كنت أختبئ خلف جدارٍ متهالك، أراقب العسكر الذين يجوبون الشوارع بعجرفة السطوة.
أرهقني الجوع، لكنّي كنت أعلم يقينا أن الجوع لم يكن أقسى من ثقل الانتظار.
وكنت أعلم أيضا أني لم أكن وحدي. في داخلي، كان هناك "هو" الآخر. ذلك الصوت الذي يهمس لي دومًا:
– لماذا تختبئ؟ ألسنا سكان الأرض؟ ألسنا أصحاب قضية؟
فأجيبه بصوتٍ مسكون بالحذر:
– الأرض تتطلب التضحية، والتضحية تأتي من الإيمان بالقضية.
تذكرت ما أحمله في جيبي ...
كانت هناك منشورات مقاومة، كُتب عليها: "لا تُطفئوا النور!". كانت مهمتي إيصالها إلى الأحياء المحاصرة، حيث الكلمات سلاحٌ خفيّ. لكنّي كنت أعلم أن الكلمات قد تقتلني أيضا.
وفي لحظة خاطفة، وجدت نفسي في زمن آخر، كأنه انعكاس على سطح ماءٍ راكد. في المكان نفسه، لكنّ الأزقة بدت مختلفة. لا جنود، لا جدران محطمة، ولا خوف ولا جوع.
رأيت شابًا يشبهني، يحمل كتبًا بدل المنشورات، يسير بحرية تحت ضوء الشمس. تساءلت إن كان ذلك الشاب هو أنا، لكن في عالم آخر، حيث لم تكن هناك حرب؟
قبل أن أستوعب الأمر، عاد كل شيء إلى واقعه. صوت الطائرات، روائح البارود، وقع الخطى الثقيلة.
والإحساس بالجوع والخوف...
رغم ذلك، لم أعد متأكدًا إن كنت أنا أنا أم ذلك الشاب في العالم الآخر. أو ربما، كنت كلاهما معًا؟
همس الصوت في داخلي من جديد:
– أرأيتَ كيف يمكن أن يكون الأمر مختلفًا؟ أنتَ لست وحدك، بل كلّ أولئك الذين جاءوا قبلك، والذين سيأتون بعدك.
فشعرت وكأن جسدي يتمزق بين هويتين، بين أن يكون الفرد الذي يهرب، أو الجماعة التي تصمد.
أمسكت بالمنشورات بقوة. وعلمت بأن هذا لم يعد خيارًا فرديًا، بل إرثا عليً أن أحمله.
ومع كل خطوة، بدأت الجدران تذوب. لم تعد المدينة مدينة، بل متاهة من الأحلام والكوابيس. كنت أرى ظلي يركض أمامي كأنه شخصٌ منفصل.
وعلى حين غفلة توقّف الظل، استدار نحوي، وقال بصوت يشبه صوتي:
– ماذا لو كنتَ أنا؟ ماذا لو كنتَ الخوف نفسه؟
تجمّدت في مكاني. منذ متى يمكن للظلال أن تتكلم؟ ومن منا كان الحقيقي؟
لكني لم أسمح لنفسي بالتردد. ركضت نحو الأمام، تاركًا الظل خلفي. كان عليً أن أكمل المهمة، أن أُوزّع الكلمات التي قد تُشعل النور.
وصلت إلى الزقاق الأخير، دسست المنشورات في الأبواب والنوافذ، ثم توقفت للحظة.
لم أعد متأكدًا إن كان حلما، أم أنّه انعكاسي على زجاج إحدى النوافذ.
أمعنت النظر تلو النظر.
لكنه لم يكن انعكاسًا، بل شابًا يشبهني، في عالم آخر، ربما في زمن آخر، يحمل كتابًا بدل المنشور، ويمشي في شارعٍ حرّ.
ابتسمت، ثم اختفى في الظل.