متى تستحق الفكرة أن تُحكى؟
في شروط التحوّل من المعنى إلى الأدب
لا تولد الفكرة وهي تطلب أن تُحكى بالضرورة، ولا يأتي الحدث إلى اللغة مستحقًا أن يتحول إلى قصة أو رواية لمجرد أنه وقع. ثمة خلط شائع بين قابلية الشيء للحكي وصلاحيته الأدبية، كأن كل ما يمكن قوله يصلح لأن يُكتب. غير أن الكتابة الحكائية، بوصفها فعلًا جماليًا ومعرفيًا، لا تستجيب لكل فكرة، ولا تمنح كل حدث قيمته، ولا تنقذ كل شخصية من عزلتها. فما يجعل الفكرة مادة أدبية ليس قوتها المجردة، بل قدرتها على الاحتمال، أي قابليتها لأن تتحول إلى تجربة لغوية لا تستهلك معناها دفعة واحدة.
الفكرة التي تصلح لأن تتحول إلى نص ليست تلك التي تملك جوابًا واضحًا، بل التي تحمل سؤالًا مفتوحًا. فالأدب لا يزدهر في المناطق المحسومة، بل في مساحات التردد والالتباس والتناقض. الفكرة المغلقة، مهما بدت جذابة أو صادمة، غالبًا ما تُستنفد بسرعة، لأنها لا تمنح النص سوى إعادة صياغة ما هو معروف سلفًا. أما الفكرة التي تحتوي على فراغ داخلي، على ما لم يُفهم بعد أو ما لا يمكن قوله مباشرة، فهي التي تستدعي الحكي بوصفه أداة كشف لا أداة شرح. هنا يصبح النص محاولة للفهم لا إعلانًا للحقيقة، وبحثًا مفتوحًا لا تقريرًا نهائيًا.
وينطبق الأمر ذاته على الحدث. فليس كل حدث مادة قصصية، ولا كل واقعة قابلة لأن تتسع وتغدو رواية، حتى وإن كانت كبيرة أو مأساوية أو استثنائية في الواقع. الحدث الذي يكتمل معناه في لحظة وقوعه غالبًا ما يقاوم التحويل الأدبي، لأنه لا يترك للغة سوى تسجيل نتائجه. في المقابل، الحدث الذي يتشعب معناه، ويولّد أسئلة أكثر مما يقدم إجابات، هو الذي يملك قابلية أن يُروى. فالأدب لا يعيش على الضخامة، بل على الأثر؛ لا على ما جرى بقدر ما على ما أحدثه في الوعي، في الذاكرة، وفي العلاقات الإنسانية المتداخلة. عندها لا يعود الحدث مركز النص، بل ذريعته، نقطة انطلاق يتكاثر منها المعنى.
أما الشخصية، فهي أكثر العناصر عرضة للوهم. ليس كل شخص شخصية، وليس كل شخصية بطلة محتملة لقصة أو رواية. الشخصية القابلة للتحوّل الأدبي ليست تلك التي تمتلك سيرة حافلة بالأحداث، بل تلك التي تحمل توترًا داخليًا، صراعًا غير محسوم بين ما هي عليه وما ترغب في أن تكونه. الشخصية المكتملة نفسيًا، الواضحة الدوافع، غالبًا ما تُغلق النص بدل أن تفتحه، لأنها لا تترك مجالًا للتحول. والكتابة الحكائية لا تؤرّخ للأشخاص، بل تختبر تصدعاتهم، وانكساراتهم، وسوء فهمهم لأنفسهم داخل اللغة.
ومن هنا يبرز سؤال الملاءمة: متى يكون هذا الشكل من الكتابة هو الخيار الأنسب؟ يكون ذلك حين تعجز الفكرة عن أن تُقال مباشرة، وحين يفشل الحدث في أن يُفهم بمعزل عن أثره، وحين ترفض الشخصية أن تُختزل في وصف أو تحليل نفسي. هذا النوع من الكتابة لا يُستخدم عندما تكون اللغة المباشرة كافية، بل حين تصبح غير كافية. فالمقال الفكري، والخطاب الفلسفي، والتحليل الاجتماعي، لكل منها مجاله وحدوده، ولا ينبغي للأدب أن يحل محلها إلا حين يكون المعنى مراوغًا، عصيًا على القبض، محتاجًا إلى زمن لغوي كي يتكشف.
وليست الرواية شكلًا أكبر من القصة القصيرة بالضرورة، ولا القصة أقل شأنًا منها، بل كل منهما استجابة مختلفة لدرجة الضغط الذي تمارسه الفكرة على اللغة. فكرة واحدة قد تحتمل نصًا قصيرًا إذا كان توترها مكثفًا ومركزيًا، وقد تحتاج إلى عمل طويل إذا كانت تتشعب عبر الزمن، والشخصيات، والطبقات الاجتماعية. المعيار هنا ليس الطول، بل القدرة على الاستمرار دون ترهل، وعلى التعمق دون تكرار. فعندما يبدأ النص في إعادة قول ما قيل، أو في افتعال أحداث لا تنبع من ضرورة داخلية، يكون قد تجاوز حدوده وفقد مبرره الجمالي.
إن أخطر ما يواجه الكتابة الأدبية هو الاعتقاد بأن كل ما يستحق الاهتمام يستحق أن يُحكى. فالأدب لا يُقاس بصدق موضوعه، بل بصدقه الفني. قد تكون الفكرة نبيلة، والحدث مؤلمًا، والشخصية مثيرة للتعاطف، ومع ذلك يفشل النص إذا لم يكن الشكل قادرًا على حمل هذا الثقل وتحويله إلى تجربة. الكتابة هنا ليست فعل إنقاذ، بل فعل اختيار، يميّز ما يمكن أن يتحول إلى معنى مفتوح عمّا ينبغي أن يبقى في حدود الخبر أو الرأي.
فلا تصبح الفكرة قصة لأنها مهمة، ولا يتحول الحدث إلى رواية لأنه كبير، ولا تغدو الشخصية بطلًا لأنها حقيقية. ما يجعل كل ذلك صالحًا للأدب هو وجود فجوة بين الواقع ومعناه، بين الفكرة وصيغتها، بين الشخص وحقيقته. في هذه الفجوة تحديدًا يولد الأدب، ويتدخل الحكي لا ليملأها نهائيًا، بل ليُبقيها مفتوحة، بوصفها شرطًا لاستمرار القراءة وبقاء النص حيًا.
