السبت ٢٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٢٥

من ادب الرحلات

بدل رفو

حين تقودك الخطوات إلى الضوء: رحلة في قلب إعدادية باعدري

إعدادية باعدري… حيث تتعلّم المدن كيف تبقى حيّة

كل عام، أبدأ رحلتي من غراتس، مدينة الأوراق الخضراء والأنهار الهادئة، وأنا أحمل بين يدي ذكريات وأفكارًا تنتظر أن تُشارك. الرحلة ليست مجرد مسافة جغرافية، بل مسار يربط قلبي بمكان يعرفني منذ طفولتي، ويعرفه كل طالب يتوق لسماع كلمة تضيء طريقه.

كأن خطواتي في ذلك الصباح كانت تعرف طريقها قبل أن أعرفه أنا. مضيتُ في دروب باعدري بهدوءٍ يشبه الطمأنينة الأولى، حتى وجدتني أمام إعداديّتها، تلك المدرسة التي بدت لي كقلبٍ صغيرٍ يخفق في صدر المدينة الإيزيدية، ينبض بالمعرفة كما تنبض الأشجار بالربيع بعد شتاء طويل.

لم تكن بنايةً من حجرٍ وإسمنت فحسب، بل مساحة حيّة للذاكرة والأمل. ما إن وطئتُ عتبتها حتى انفتحت أمامي وجوه الطلاب كزهورٍ تستقبل أول ضوء، يكسوها الفضول، وتلمع في أعينها أسئلة مؤجَّلة تبحث عمّن يصغي إليها.
كان في استقبالي مدير المدرسة، الشيخ خلات باعدري، صديقي القديم، الذي ما زالت ابتسامته تحتفظ برائحة الأيام التي جمعتنا. صافحني بطمأنينة العِشرة الطويلة، فشعرتُ كأن الزمن نفسه يمدّ يده ليُحيّي صداقتنا من جديد. في تلك المصافحة كان تاريخٌ مشترك، وذاكرة لا تشيخ، وإيمانٌ صامت بأن المدرسة ليست وظيفة، بل رسالة.
في أروقة الإعدادية، كان الضجيج مختلفًا، ضجيج حياة لا فوضى، وحركة تشبه جريان الماء في ساقية جبلية. دخلتُ قاعة المحاضرة، فوجدت نفسي أمام جيلٍ يشبه الينابيع: صافٍ، متوثّب، لا يعرف السكون. جيلٌ يحمل في ملامحه مزيج البراءة والوعي المبكر، وكأنه كُتب عليه أن يكبر قبل أوانه، دون أن يفقد دهشته.
بدأت الأسئلة تتوالى. لم تكن عابرة ولا محفوظة، بل جاءت كخيوط نور تتسلل إلى عمق المكان، تكشف عن فهمٍ راسخ لتاريخهم، واعتزازٍ واضح بهويتهم. كان كل سؤال نافذة، وكل إجابة محاولة لترتيب العالم. شعرتُ للحظة أن نور لالش يسافر معي، يمرّ عبرهم واحدًا واحدًا، فينثر ضياءه على أكتافهم الصغيرة التي تحمل همًّا أكبر من أعمارها، وعلى مدينتهم التي تحفظ الذاكرة كما يُحفظ كتابٌ مقدّس.

بين سؤالٍ وآخر، خُيّل إليّ أن كل طالب شمعة تشقّ عتمة الطريق، وأن كل كلمة تخرج من أفواههم تُشبه حجرًا يُضاف إلى بناء تاريخ جديد، تاريخ لا يطلب الشفقة، بل يستحق الاعتراف. تاريخ يحمل في صفحاته كرامة من قاوموا النسيان، وتمسّكوا بالهوية كمن يتمسّك بالنجاة.

رأيتُ نفسي بينهم. رأيتُ ملامح بداياتي الأولى، وشغف ذلك الطفل الذي كنته يومًا، وهو يحاول أن يفهم العالم من خلال دفاتر المدرسة، ويبحث عن ذاته بين سطرٍ وسطر. أدركتُ أن المسافة بيننا ليست عمرًا، بل تجربة، وأن ما يجمعنا أعمق من الزمن.. لكن القاعة، التي كانت قبل قليل عامرة بالأسئلة والضياء، خيّم عليها صمتٌ ثقيل حين انتقلت الأسئلة إلى منطقة الوجع.

سألتني إحدى الطالبات، بصوتٍ يشبه الرجاء:

ما دمتَ تحب وطنك وبلادك بهذا القدر، فلماذا لا تعود؟

ترددتُ لحظة، لا لأن الجواب غائب، بل لأن الحقيقة أحيانًا أقسى من أن تُقال لطالبة تحمل الوطن في حقيبتها المدرسية. قلت لها بهدوءٍ حاولت أن أجعله أقل إيلامًا:

وهل كل من يعيش على تراب الوطن يعشقه؟

ثم أضفتُ: ليس المكان وحده ما يصنع الانتماء، ولا العودة دائمًا خلاص الغربة.

وسألتني أخرى عن الموت، عن النهاية، عن أين ندفن أحلامنا حين نتعب. فقلتُ، دون مواربة:
لا يهمني أين أموت ولا أين أُدفن. ربما ستتعفّن جثتي في شقةٍ بعيدة في الغربة، لكن اسمي… ونتاجي… سيبقيان يشعّان في سماء كوردستان.

حينها، حزنت القاعة..
لم تبكِ، لكنها انكمشت كقلبٍ صدمته الحقيقة. وحزن الطلبة حين حكيت لهم عن غربتي الطويلة، عن الموت الذي يترقبني في صمت الغربة، فصارت عيونهم مرايا لحزني.
أدركتُ أنني جرحت أحلامهم دون قصد، لكنني كنت صادقًا. والصِّدق، حين يُقال في غير زمنه، يُوجِع
خرجتُ وأنا أحملهم معي
طلبة باعدري
أجمل ذكرى أحملها في غربتي،

وأصدق مرآةٍ رأيت فيها وجهي كما كنت، وكما تمنّيت أن أبقى.

عندما غادرتُ إعدادية باعدري، لم أخرج كما دخلت. خرجتُ محمّلًا بقناعة أكثر رسوخًا: أن المدن لا يرفعها الحجر، بل أبناؤها، ولا يحميها السلاح، بل الوعي. وأن هذه المدينة، ما دامت تضم هؤلاء الفتية، ستبقى مضاءة، ما بقي فيهم نور المعرفة، وما بقي في المدرسة قلبٌ يخفق من أجل المستقبل.
في نهاية كل رحلة، أعود إلى غراتس محمّلًا بنورٍ لا ينطفئ، وبأمل أن كل خطوة نخطوها معًا، مهما بعدت المسافات، تضيء طريق الأجيال القادمة.

بدل رفو

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى