
لماذا يدير الأدب ظهره لحرب العراق؟
باستثناء ما سجله بعض الكتاب والفنانين العراقيين، لم تحظ أنهار الدماء العراقية الدفاقة بحبر الأدباء العرب، لا شعراً ولا نثراً. وإن كان كتّاب السياسة قد استفاضوا في التحليل والتدبيج، فإن الأدباء والفنانين، لم يواكبوا هذه المأساة العربية المريعة بما يوازيها إبداعاً، أو يحاول ان يتفاعل معها. البعض يقول ان الأمر التبس عليه، وإنه لا يفهم ما يدور هناك، والبعض الآخر يعتبر السطحية أم العلل، وهناك من يخشى ان يتهم بالتواطؤ مع عهد الديكتاتور إن هو أعلن عن رأيه. تعددت الأسباب والنتيجة واحدة: العراق مطرود من رحمة الأدب. أي سرّ في هذا التفرج السلبي، ومتى تستفيق الأقلام من غيبوبتها؟ ولماذا تحظى حرب 33 يوماً في لبنان بكل الزخم الذي سمعنا ورأينا على المسارح وفي المعارض والكتب، بينما لا يحرك الأشخاص أنفسهم ساكناً رغم مرور 3 سنوات على فواجع يومية عراقية لا نرى لها من آخر؟
من الطبيعي عند قيام أية حرب أن تتعالى أصوات كتاب وفنانين ومثقفين لتدارك الكارثة التي تلحق بالبشر والحضارات، ويحرك كل هؤلاء أملا ما، في أن يعيدوا للبشرية صوابها. ولكن للحرب منطقها الصلف الأبكم! ولا يعدم من ينساق معها ويمجد أبطالها وقادتها، لاسيما في الحروب القومية والعقائدية. وبكل الأحوال، فإن تاريخ الحروب أنتج كوارث ومآس كثيرة، ومن جهة أخرى أنتج في بعض الأحيان ملاحم وأشعاراً وروايات تروي تلك البطولات والمآسيٍ، وذلك منذ فجر التاريخ حتى وقت قريب، كانت الفنون بأنواعها مصدر معرفة لتاريخ هذه الحروب، وفي العصر الحديث ظلت الفنون رافداً ثرياً لنقل صورة الأحداث التي تجري على أرض الواقع، فمن رسوم الكهوف إلى روايات الحرب العالمية الثانية، مروراً بأشعار هوميروس، وأشعار العرب القدامى التي أرخت لنا حروب القبائل العربية، ولولا هذه الأشعار لما كان قد بقي لها ذكر. ولكثرة هذه الأعمال التي رافقت أحداث التاريخ المأساوية قبل الحروب وأثناءها وبعدها، نشأ أدب شامخ في بعض نماذجه، يسمى أدب الحرب، كانت الحرب فيه تشكل الفضاء الزماني والمكاني، ضمن شبكة العلاقات الإنسانية التي تسبق الحرب أو تمهد لها أو تصور مقدماتها أو ما ينتج عنها. والنماذج كثيرة ومتنوعة، ولعل روايات الكاتب الروسي ليون تولستوي: «الحرب والسلم» و«آنا كارنينا» و«البعث» من هذه النماذج العالمية المميزة لأدب الحرب، وتضاف إليها نماذج عديدة كتبت في فترة الحرب العالمية الثانية، منها على سبيل المثال لا الحصر، روايات الكاتب الألماني أريش ماريا ريمارك، صاحب رواية: «للحب وقت وللموت وقت» و«ثلاثة رفاق» و«ليلة لشبونة»...
ولا يتوقف الأمر عند الروايات، بل ينسحب ذلك على الشعر والمسرح وباقي الفنون التي انبثقت في فترات الحروب الكبرى. فالأجيال الثقافية في العالم لا تزال تقرأ أشعار إيلوار وأراغون وريتسوس ونيرودا وغيرهم، ممن ناهضوا بأدبهم ومواقفهم الحرب، وكرسوا حياتهم كدعاة للسلام العالمي، وطالما أن تاريخ الحروب متواصل، فتيار الأدب المناهض للحرب سيبقى.
وفي الأدب العربي القديم والحديث، وبما أن المنطقة عرفت الحروب بشتى أنواعها، وعانت منها الكثير، لم يكن الأدب بعيدا عن التفاعل مع الأحداث التي تجري على الأرض مثلما هو واقع اليوم! فحروب الاستقلال كان لها من عبر عنها، وحرب النكبة عام 1948 كان لها شعراؤها وكتابها، والحروب اللاحقة كلها بما فيها الحرب الأهلية في لبنان وما تبعها من اجتياح اسرائيلي عام 1982 تمت تغطيتها أدبياً وفنياً بشكل مرض، وحتى الحرب الأخيرة على لبنان في يوليو (تموز) 2006 فقد واكبها تفاعل أدبي وفني وتوثيقي لافت، وتم التفاعل معها بجدية، خلافاً لما جرى في العراق! ولكن لماذا يبدو المبدعون العرب وكأنهم يديرون ظهورهم لما يجري في بلاد ما بين النهرين؟!
سوء فهم عربي لما يحدث ما بين النهرين
* الروائي العراقي شاكر الأنباري، يرى أن داخل العراق توجد كتابات كثيرة، لا سيما الشعر والقصة تنشر في الصحافة اليومية، تتحدث عن معاناة المواطنين والهجرة والقتل، ولكنها لا تصل إلى القارئ العربي. وبكل الأحوال هي كتابات سريعة وانفعالية بمجملها، لأن الكاتب هناك، في الداخل، لا يمتلك الظروف الحياتية الملائمة لمواصلة الإبداع. ويعترف الأنباري أنه لم تظهر حتى الآن روايات مهمة تعالج موضوع الحرب في العراق، ربما لم يفت الوقت بعد، لأن الرواية تحتاج إلى وقت أطول مما يحتاجه الشعر. ورداً على سؤال إن كان يرى أن الكتاب العرب مقصرون في التعامل مع الحدث العراقي، قال الأنباري: «إن المثقفين العرب لم يفهموا طبيعة الأحداث التي تجري في العراق، نتيجة التفكير السطحي السائد في عالمنا العربي، فقد تعامل المثقفون العرب بثنائية ساذجة مع ما يدور، باعتبار أن ما يجري مجرد(احتلال/ وشعب) لكن هناك كثيرا من الخيوط المعقدة والاشكالات التاريخية غير المحسومة في المجتمع العراقي، فكان الاحتلال أداة لتفجيرها عن غير قصد، أي أن تفجيرها لم يكن مخططا له من قبل الأميركان، مثل حل الدولة وما تبع ذلك من انهيار أمني، جر إلى كل هذه الإشكالات. والمثقف العربي لا يستطيع أن يحس هذه التفاصيل لأنه بعيد عنها».
وعن تفاعل الكتاب العرب مع الحرب على لبنان أكثر مما هو حاصل مع الحرب في العراق، يرى الشاعر العراقي محمد مظلوم، إن نوع التفاعل يختلف. ففي لبنان تجري حرب بين إسرائيل ومن يدعمها، من جهة، ومقاومة واضحة ولها مسار وسلوك، تدافع عن قضية يكاد يكون عليها إجماع عربي، مع ملاحظة الانقسام الذي ظهر في تقييمها. والتفاعل الذي أظهره الكتاب والفنانون العرب مع حرب لبنان بكل تجلياته كان مجرد انفعالات ومشاعر سريعة، وليس أدباً يدون تجارب إنسانية متميزة في هذا السياق. أما فيما يخص العراق، فالحرب قامت بين (ديكتاتورية وإمبراطورية) والتفاعل النوعي معها يختلف عما هو مع حالة لبنان، فلم يشأ الكتاب أن يكون ثمة خطاب يقوي عزيمة الديكتاتور.
ولا يزال الجدال حول الدم المسفوك مستمرا
* ويرى مظلوم، أنه لا يوجد أدب واضح حتى الآن عالج موضوع الحرب، باستثناءات قليلة أغلبها شعرية، ويذكر بهذا الصدد ديوان الشاعر العراقي سعدي يوسف: «صلاة الوثني». أما على صعيد المسرح، فقد كتبت بعض النصوص، لعل من أبرزها مسرحية «حمام بغدادي» لجواد الأسدي، أما في الرواية فلم تتح الفترة الزمنية الكافية لنقرأ أعمالا روائية تعالج الحرب بشكل جدي ومؤثر.
وعن الكيفية التي تعامل فيها الكتاب العرب مع الحرب في العراق، يقول مظلوم: الكتاب العرب نظروا إلى الحرب نظرة أحادية؛ من جانب إزاحة الديكتاتور، ولم ينظروا من الجانب الأهم، وهو مخاطر الاحتلال والثمن الذي يدفعه الشعب. فقد بدت الحرب لمعظمهم وكأنها خلاصية، ولكنها لم تكن كذلك، لأنها حرب في النهاية! ويرى مظلوم أيضاً أن المثقفين العراقيين عموماً، كانوا ضحايا خديعة «وهم العراق الجديد» القادم بفعل الخيرين من وراء الأطلسي!
ولا يزال الجدل قائماً بين المثقفين حول هذه الحرب التي لا أحد يريدها. ولكن في حمأة هذا الجدل العبثي، ينسى المتجادلون أن هذه الحرب تتجاوز عناوينها ومسبباتها، لتغدو كتلة نار متدحرجة، وكلما تدحرجت تشتد شراسة! فلم يعد الأمر مجرد صورة نراها على الشاشة أو خبر عاجل يتوقف للحظات ثم ينطوي. إنها حرب يومية الكل فيها ضحايا، حتى المشاهدين، وحتى المثقفين الذين لا يعرفون أن يأخذوا منها موقفا!
وأمام هذا الدم المسفوح، والأشلاء المتناثرة يبدو الأدب كأنه يدير ظهره لهذه الحرب التي لم تعد تخص العراقيين وحدهم كما يطيب للبعض أن يقول، بل هي حرب ترخي بوطأتها الثقيلة على المنطقة برمتها وعلى العالم، إنها بحجمها الكارثي وثمنها الفادح على الصعيد الإنساني تضع العالم من جديد أمام مسؤولياته الأخلاقية في إيجاد مخرج عملي ومباشر.
كم هو بعيد هذا الموت عن سورية
* وعن تفاعل الكتاب السوريين مع حرب العراق، يقول الشاعر جودت حسن: للوهلة الأولى بدت لي هذه الحرب كأنها تجري في مكان بعيد، فأنا كنت أسمع بها من الناس، وكانت تبدو لي أنها محدودة، ولكن تبين أنها أكبر من ذلك، أيضا على ضوء ما أسمع. أما عن الكتابة عن الحرب، قال: أنا ضد الحرب وضد الكتابة عن الحرب، وأعتقد أن مجرد ممارسة الكتابة هو عمل مقاوم بشكل أو بآخر، وبصرف النظر عن الموضوع الذي تكتبه، ولكن شريطة أن تكون الكتابة في أوج جمالياتها.
أما الروائي فواز حداد، فيرى أن كل ما يكتب اليوم عن الحرب في العراق أو لبنان على صعيد الرواية، فهو أدب مناسبات لا قيمة له، ويقول إن رأيه هذا لا ينطبق على الفنون الانفعالية كالشعر والقصة القصيرة أو الفنون البصرية، فالرواية تحتاج إلى مساحة من الزمن للتأمل والتبصر.
وتتفق معظم الآراء التي استأنسنا بها على أن للرواية خصوصية تجعلها تحتاج وقتاً أوسع من أجل التعبير عما يجري من أحداث مباشرة. فالشاعر والناقد السوري وفيق خنسة الذي تفاعل مع الحرب على لبنان وكتب قصائد بهذا الخصوص، يرى أن ثمة تقصير فاضح من قبل الشعراء العرب حيال مأساة العراق، ويقول إنه لا يعرف سبباً لهذا التقصير المخزي، على حد قوله، ويرده إلى انحطاط في الضمير والوجدان، وكأن الشاعر العربي يريد أن يقول إنه لن ينشد إلا في البلاط لينال المكافأة! ويذكر أن لخنسة ديوان شعر بعنوان «قصيدة العراق» مهداة إلى بغداد.
لكن الشاعر السوري عابد إسماعيل حاول أن يبحث عن مبررات هذا الجفاء بين الكتاب العرب والحدث العراقي، يقول: بالفعل باستثناء الكتاب العراقيين، لم يهتم أحد! فأنت هنا بين نارين: إذا أدنت الحرب ستتهم من قبل عدد كبير من العراقيين وغيرهم أنك مع الطاغية، وإذا أيدت فستكون مع الاحتلال! الموضوع العراقي ملتبس، خلافاً لما هو عليه في لبنان. فلا يوجد في لبنان ديكتاتور تحاول أميركا أن تزيحه، كما أن هوية المقاومة في لبنان واضحة أكثر من المقاومة العراقية. وعن الكتابة عن الحرب يقول إسماعيل: بالنسبة للعراق لقد مر وقت كاف كان من المفروض أن يكون هناك أدب يواكب هذه الحرب، وليس مجرد أدب مناسبات. فلم نسمع حتى الآن بعمل ترك أثراً خارج العراق، فالكتابات العراقية التي تصلنا والتي تتناول الجانب الإنساني معظمها انفعالية وسياسية، وتفتقد إلى التركيز، وحسب تقديري، لا يوجد نص ارتقى فنياً وترك أثراً لا بالرواية ولا بالشعر.
من المنطقي أن من يعايش الحرب عن قرب أو من يكون في قلب التجربة، هو الأقدر على وصفها ونقل المشاعر والوقائع التي اختبرها، ولهذا فإن لكتابات العراقيين أو غير العراقيين الذين يكتبون من داخل العراق ميزة ما، ولكن ثمة العديد من الكتاب العراقيين الذين يعيشون خارج العراق، ألا يتفاعل هؤلاء مع ما يجري في بلادهم بصدق؟! ثم أن هناك تدفقا لمهاجرين ولاجئين عراقيين فارين من هول الحرب ينقلون تجربتهم ومشاهداتهم، وهل من المنصف احتكار التأثر بما يجري على الذين يعانون مباشرة من الأهوال والحروب. ألا يلغي مثل هذا الادعاء إمكانية التضامن عن بعد بين البشر عموماً والكتاب بشكل خاص، على الرغم من الزعم بأن الحواجز بين البشر في أصقاع الدنيا لم تعد موجودة في عصر العولمة!؟
هوّة بين الإبداع والواقع
* ولكن الحرب لم تنته بعد، هذا ما يقوله الكاتب العراقي حسن مطلق، حول معايشة تجربة الحرب والكتابة عنها، ففي مقال بعنوان «شهادة جمالية عن الحرب» يقول: «إنني أفتح هذا الباب لكم، ومن خلال تجربتي الصغيرة، وتجربة بلدي، أن تدخلوا وتفتحوا ملفاً للحرب، إلى جانب ملفات الديمومة والكينونة والأنطولوجيا.. والوجود في ذاته، وفي ملفات الكتابة والنقد الأدبيين إلى جانب الحبكة والمضمون والأسلوب والثيمة والسوريالية .. وليبتدئ المفهوم الدقيق لأدب وفكرة الحرب من هنا والآن..». ولا تخفى على القارئ هنا لغة الأدب المجازية والتهكمية. ويتابع مطلق في السياق نفسه: «وبعد ذلك فإن القصة التي كتبتها والتي أحلم بها لم تتحقق بعد، بحيث تكون بمستوى التجربة، لأن الحرب لم تنته بالمعنى الفعلي بعد، وقد نبتت في داخلنا..» ويقول هذا الكاتب: «هناك شيء آخر عرفته من خلال تجربة الحرب، عرفت بأننا لسنا جادين أبداً، لا في كتاباتنا ولا في قراءاتنا، ذلك إن ما كتبناه وما قلناه لا يساوي جزءاً يسيراً من هذا الألم الهائل: ألم الصدمة المميتة، المعرية. صدمة الحرب، وجهاً لوجه أمام الموت..». كم تبدو كلمات بليغة في وصف العلاقة بين الكاتب والحرب؟! ويرى الكثير من الكتاب أن الحرب حدث ضاغط نفسياً والكاتب يعبر عن تفاعله معها فيما بعد. فالأدب برأي هؤلاء ليس انعكاساً مباشراً للواقع، أو حالة تقريرية تكتفي بوصف ما يجري والتعليق عليه. الفنان التشكيلي السوري أحمد خليل، يقول: «الكل معنيون بما يجري في العراق، ولا يمكن تحييد المشاعر، ولكن كلا في مجال الإبداع يعبر بطريقته».
نعم ثمة قصائد خطابية تنشر في الصحف الرسمية وشبه الرسمية، تتحدث عن مقاومة الاحتلال، وترى الحرب من جانبها الايديولوجي فقط، من دون النفاذ إلى أبعادها الأخرى الأكثر جوهرية، ولذلك هي كتابات غير فاعلة وغير مؤثرة، وتندرج تحت عنوان الكتابة التعبوية. مع ملاحظة استثناءات قليلة تكون فيها الكتابة موفقة. ونذكر من هذه الاستثناءات قصة الأديبة السورية نادية خوست: «من منطقة الحظر الجوي» تتحدث فيها عن امرأة عراقية، يتعرض بيتها للقصف الجوي وتفقد ابنتها ومنزلها وبعض جيرانها، ومن خلال هذه المرأة، وبسرد شاعري، تنقل لنا القصة جانباً من مأساة العراق.
إن ما يجري هناك، على الأرض التي أنبتت كلكامش، وأبونواس والسياب، والأساطير الأولى الأساسية، تكاد لا تخلو جلسة أو سهرة للمثقفين إلا ويتم فيها الخوض بما يجري! ولكن حتى الآن، لا تزال الكتابات محدودة كماً ونوعاً، وليست على مستوى الأحداث! ما يؤكد أن ثمة هوة كبيرة بين الإبداع والواقع، وبين الذات والموضوع.
عن الشرق الأوسط اللندنية
6/12/2006