
قبل الشعر واللغة... احتمال وجود مضيء:
في الشعر لا بد من استجلاء الوجود، واستجلاء الوجود لا يكون إلا بتحفيز العدم والزمان، لكأن احتمال الشعر، هو احتمال الكائن وتحولاته في الجسد والروح، في الزمان والمكان، هذا ما تتبعه اللغة كمؤشّر ودليل في هذه المتاهة الأرضية والسماوية معاً. كذلك البوصلة القلبية التي يمكن استشعارها بتدوين الشعر الذي يرصد الحياة، أو يتقصدها، لكأن الحياة نقيض الشعر. أبعد منه أو أقرب، حتى نصل إلى عبور الحالات والمقاومات، والمفارقات والمقابسات التي تعتري الروح الشعري الذي يتجون ويتجوى في الحدوثات والتفاصيل التي تحضر أو تغيب، تتوحد وتنعدم، تتقدم وتفوت، وكأن الجسد المكان والمكان الذي يتداخل ويتخارج إلى أماكن وأزمان، وإلى كائنات. تتشقق وتتصدع وهي تحاول الحفاظ على الشوق، أو تمارس الرحيل والهجرات والأسفار، لكأن القول في هذه الشؤون والشجون عبارة عن صحو ومحو، بل كان استذكار النسيان هو الأساس، في بث هذه العطور الخفيفة الرهيفة والشفيفة. عبر رهافة اللغة والشعر المحمول الاحتمالي فيها، الممكن والمستحيل، لأنه يضرب في المستحيل، حين يمارس هذا الترجيع الدرامي، لحدث جلل ذائب في الرؤى والخيالات، في الأطياف والأشباح التي تتوالى وتتواتر. وتصيب النفس ببالغ الأثر، وظلال الجراح المتخلّفة عن انهيار الشوق، وحلول الفصال والهجران، وكأن وحول الساعات، وميلان الوقت والبيت، والمحطة، والمدينة، والمساء، والموسيقى، والمزهريات، النوافذ الأبواب الحدائق الأفق، الفضاء، السماوات، الأرض السهوب، الأشجار، الفتيات الشمس، الليل، الفواكه، الكؤوس، الغرف، وكل ما يكسو الجسد من حياة حيوان صور، وموسيقى فيفالدي، وبيكاسو، رامبو، وجريدة لوموند، الانتظار في المحطة، طيف (أ) الرجل الغائب الغامض، قبله معه، بعده. ومستند القول للذهاب إلى بداية النهايات، أو نهاية البدايات، ربما وكأن ما تفعله الشاعرة صباح الخراط زوين في مجموعتها الجديدة "في محاولةٍ مني" الصادرة عن دار نلسن السويد – بيروت، محاولة حثيثة، مقروءة بامتياز روح الشعر الذي يتحوّل إلى إشراقات لا حصر لها، تذهب الشاعرة فيها. وإليها، وكذلك بواسطتها إلى شرفات الجسد والروح، كذلك إلى شرفات اللغة التي تتشكل وتتشاكل في هذه المقاطع – المشهديات التي بنت عليها عالمها الشعري، أو كينونتها التي تمارس الفيض والبحران الداخلي، لاحتوائها على حياةٍ غاربة مائلة، وعلى حياة واقفة قائمة ممكنة، محلومة، وقد تتحقق... وقد لا...!
لا تكتب صباح الحب، إنها تكتب ما قبله أو بعد أن ينقضي، وهي ربما تحتفظ به وكأنه سر أسرارها، أو إنها لا تريد أن تنتهكه، أو تتهتك في مغاوره، ربما لأنه لم يكن على مقدار توقها، وسوية رغباتها وطموحاتها فيه، أو أنها تفضّله كحلم مضرج بشبهات كابوس الفراق، أو أنها تنظره كالحريق، وكما نظرهنري باربوس في الجحيم، حيث رأى ذلك الخيط الضوئي الفاصل بين الجسدين. ولم يلمح بين اثنين منفصلين غير الانفصال. إنها تكتب الانفصال الاتصال – أو آثار الإتصال، أو ما تبقّى من أصداء ذلك، من صور وروائح، وأصوات، وأحوال، وأشياء مشتركة كانت ترى من قبل اثنين. والآن تراها هي، على غير ما كنت. الكؤوس، الفواكه، الأزهار، حتى رؤية العالم بحيثياته. رؤية الحياة، تغيّرت. لكنها ما زالت تضمر الصورة المشتركة التي كانت، لكن الحلم ومرئياته وترجماته يزيّن ويزيا برؤية صباح الجمالية الشعرية، الموسيقية، وحتى بالميلان الذي اعترى هذه الرؤيا بعد انقضاء توريات وإيحاءات الحياة القديمة التي دائماً تغدو كجريدة البارحة التي تصير أعتق شيء ضمن متحف الحياة المتحرك. القطار، ومرئياته اللمعية البرقية السرابية، المحطة وثبات مرئياتها، الغرفة، وثبات مرئيات النافذة...!
الشاعرة صباح الخراط زوين، في متحف الحياة البشرية، إنها تنقب وتنجم في أثاث حياتها الشخصية التي تشترك فيها، والتي تنفرد أيضاً، وهي تنفرد أكثر في تأثيث هذه الحياة. لسببٍ ما، سبب الميلان، والإنشقاق والتصدّع، وسبب ميلان المنزل والمساء، والظلال التي بين يديها، لكنها ببانوراميةٍ صورية سينمائية شاعرة تتحقق هذه المشهديات، تتخايلها، تحفرها وتحقبها، وتتعقّب آثارها وحفرياتها. كذلك تتغوّل وتتغوّر فيها، كما لو أنها تسبرها بالكلمات، بأصوات الكلمات، وأضوائها، بأصدائها وظلالها كذلك، كما بصمتها الضاج المصطرخ الذي لا يصمت، وهي تتحاصد الهمهمات، والغمغمات، والدمدمات. والهمس، والبوح، والإعتراف. كذلك تتحاصد في طريقها. دراما الوجود، الحياة والموت، الإيمان وعدمه، وبدل الفناء في العشق. ونقيضه الفناء في الهجران، تتكاشف جسدها وروحها، وتستبصرهما بأنوارٍ خافتة، وإشراقية مشرقة معاً، ولديها الروائح في الذكريات، والألوان، والحركة، وهي تتجوّن داخل حياتها، سلباً وإيجاباً، لكنها تعترف بالخسارات، وقد كانت لديها مرابح الحب والعلاقة الإنسانية. والآن انقضت، انقضى الزمان والمكان. وأفلت الحياة. لكن الشعر هو الذي يحفز الأفول، ويسطع فيه ومن خلاله...!
وفيما الأسئلة عينها تدور من جديدٍ، واحتمال الأجوبة التي كانت، كأن لم يكن، تتقدّم الشاعرة في معتركها الأرضي والسماوي معاً. وتحاول دون التأكد من الحصول على نتيجةٍ، خاصةً وأن الإحتراب والاشتجار مع الزمن. مصيره الخسران لمن يفترض المعركة. خاصةً معركة الحب التي دائماً ناتجها الخسارة، والحب رهان خسارة باستمرارٍ، خاصةً للكينونة التي يتسرّبها العدم بسرعة حين تمارس الاشتقاق والاستهلاك، وللنواة الذاتية حين تفتت وتتفكّك. وحين تنحطم، أو يعار نصفها للآخر في الاعتناق الحميم. ودوي الأنفاس التي تتلاهث وتتزافر، تتشاهق، وتصاعد أبخرة إلى السماء، فتنقص الطاقة والنور، ولا تعوّضها أبداً. وهي لا تعول على الشعر في تعويض ذلك، إنما في تأجيل الخسارة والنقصان...!
من خراب الدورة الدموية، إلى خراب الدورة العشقية تهتز الحياة، وتصطرع وتميل، ويميل الشعر ذلك الميلان الحميم الجميل. كذلك تميل اللغة الشاعرة على جراحها الطعينة. إنما تتماسك وتشتد، ولا تتهافت أو تنحلّ في الأحوال والمقامات، والمقابسات، ولا في الإسراءات التي تجري في الجسد، والمعارج التي تلتبس في الروح. إنما تجيء في تواريها، وتبزغ من الضباب والدخان والظلال، معمّدة بالشفافية والرهافة، والحساسية والغوايات والصبابات، تتناولها الشاعرة، وتمارس تعميدها ومناولاتها، حال ولاداتها، وتناسلاتها، واستنساخاتها القادمة من الحياة، أو من ماضي الأيام الآتية. والماضي دائماً أمامنا، ووراءنا النسيان دائماً، وهي في محاولةٍ منها لتدوين النسيان، ورؤية الماضي من المستقبل. إنها صباح، وكأنها في فجرٍ شعريّ جديد متجدّد، حتى لو كان مائلاً، ما همّها، طالما هي في محاولةٍ منها، ولا تنتظر محاولة من الآخر، حيث العبث والميلان ناظم المحاولة، والمرايا مراياها، لكن الشعر ذهب الحقيقة التي تحاولها، والاحتمال الذي تتماضى فيه...!
"اللواء"، بتاريخ 27-01-2007،