السبت ١ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٢٥
بقلم هديل نوفل

علّمني الغياب شكلَ الحضور

علّمتني الغيمةُ أن أرى وجهي في المطر،
وأن أصدّقَ ظلّي حينَ يمرُّ خفيفًا على حجارةِ الطريق.
قالت: لا تسألِ الريحَ إلى أينَ تمضي،
فكلُّ الجهاتِ إذا مشيتَ، تصيرُ بيتًا مؤقّتًا.

علّمني أبي أن أزرعَ الوقتَ في يدَيَّ،
وأن أتركَ للندى وصيّتَهُ على الزهر.
قال: لا تركضْ خلفَ الأفق،
فالأفقُ كذبةٌ تتكرّرُ في عيونِ المسافرين.

علّمتني أمّي أن أُصغيَ إلى الحنين،
كأنّهُ طائرٌ فقد جناحَهُ،
يبحثُ عن نغمةٍ تُعيدُ لهُ هواءَ الطفولة.
كانت تقول: إذا ضاقَ القلبُ،
افتحْ لهُ نافذةً على البحر،
وسمِّ الأمواجَ بأسماءِ الراحلين.

وفي الليلِ، حينَ تُطفئُ القرى مصابيحها،
أسمعُ جدّي يعدُّ ثانيةً أخرى من الصبر،
ويقول: الوقتُ لا يشيخ،
لكنّنا نحنُ الذين نهرمُ في الانتظار.

علّمتني البلادُ أن أكتبَ بالتراب،
فإن مُنِعتُ من الكلام،
تتكفّلُ العصافيرُ بترجمةِ ما سقطَ من فمي.
وأن أُحبَّ الأرضَ كما يحبُّها الغريبُ،
حينَ يكتشفُ أنَّ الغيابَ ليسَ سوى طريقةٍ أخرى للبقاء.

علّمني البحرُ أن أقولَ اسمي وأصغيَ لصَداه،
فلا أنا من يعودُ، ولا الصدى هو أنا،
بل بينَنا ممرٌّ من ملحٍ،
تمشي عليهِ القصيدةُ كي لا تغرق.

علّمني الليلُ أن أرى في الظلمة وجهي،
لا كما تراه المرايا،
بل كما تراهُ العيونُ التي غابتْ عني،
وتركتْ في الذاكرةِ خيطَ ضوءٍ لا ينطفئ.

علّمني أن أُحادثَ وحدتي كصديقٍ قديم،
وأن أعتذرَ للنجمةِ إن لمحتُ حزنها،
فربما سقطتْ من سمائها لتدلَّنا على الطريق.

علّمتني الأيامُ أن الجرحَ لا يُشفى بالكلام،
لكنّه يزهرُ أحيانًا،
إذا مرّتْ عليه ريحُ المحبّةِ بهدوء.

قالت لي الأرضُ:
ليس كلُّ من يمشي عليّ يعرفُني،
ولا كلُّ من يسكنُني ينتمي إليّ.
ففهمتُ أن الانتماءَ شجرةٌ من الداخل،
تسقيها الذكرياتُ لا المطر.

علّمني الوقتُ أن أُحبَّ الأشياءَ الناقصة،
لأنّ الكمالَ موتٌ صامت،
وأن أرى في الغيابِ نوعًا آخر من الحضور،
وفي الصمتِ نوعًا آخر من الشعر.

وحينَ مرَّتِ الريحُ على وجهي،
عرفتُ أن العمرَ مثل قصيدةٍ غير مكتملة،
كلّ بيتٍ فيها محاولةُ نجاةٍ،
وكلّ فاصلةٍ استراحةُ قلبٍ من المعنى.

علّمني الغيابُ شكلَ الحضور،
فما من شيءٍ يرحلُ تمامًا،
بل يتركُ أثرَهُ في اللغة،
وفي نبضةٍ خفيّةٍ تحتَ الصدر.

قالت لي القصيدةُ:
لا تكتبني لتنجو،
اكتبني لأنّ في النجاةِ قيدًا،
وفي الكلمةِ حريّةُ مَن يُولدُ من الرماد.

علّمني الموتُ أن الحياةَ ليست ضدَّه،
بل ظلُّهُ الذي يمشي إلى جوارنا،
نخافهُ لأننا نعرفُهُ فينا،
ونعرفُ أننا حين نغيب،
نُصبحُ أكثر وضوحًا في ذاكرةِ الذين أحبّونا بصمت.

علّمني الحبُّ أن يربّي في قلبي طيرًا لا يشيخ،
يطيرُ كلّما ضاقتِ الأرضُ،
ويعودُ كلّما ناداهُ اسمٌ من طفولتي.

علّمتني القصيدةُ أن أضعَ يدي في يدِ العالم،
ولو احترقَ العالمُ بالنار،
أن أُصدّقَ أن الجمالَ مقاومة،
وأن الحنينَ طريقٌ آخرُ نحوَ المستقبل.

وفي آخرِ الحلم،
وقفتُ أمامَ نفسي كما يقفُ الغريبُ أمامَ بيتهِ الأول،
قلتُ: شكرًا لكلّ ما مضى،
فقد علّمني كيفَ أكونُ،
ولو لمرّةٍ واحدة،
إنسانًا يشبهُ المعنى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى