الأربعاء ٢١ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم ‎⁨عمرو البدالي

صمت قاتل

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

في فجرٍ متوهجٍ باللهب، بدأ الاجتياح البري.

الدبابات الإسرائيلية زحفت كوحوش معدنية تلتهم الإسفلت، الجنود تقدّموا بخطوات ثقيلة، والسماء امتلأت بدخان الغارات.
الخبر الرسمي: "عملية عسكرية لتدمير أوكار الإرهاب."

الواقع: غزة تُمحى، بيتًا بيتًا.

داخل مستشفى الشفاء، حيث الأمل آخر ما يُفقد، جلست نورا بجانب أمها، ممسكةً يدها التي كانت باردة أكثر مما ينبغي.

"ماما؟"

ابتسمت الأم، رغم الألم الذي كان يفتت صدرها.

"هل سنموت؟" همست نورا، وهي تشعر بأن العالم ينهار حولها.

مرّرت الأم أصابعها المرتعشة في شعر نورا، وقالت بصوتٍ بالكاد يسمع:

"لا، يا ابنتي... الحق لا يموت أبد الدهر."

لم تفهم نورا معنى الكلمات، لكنها شعرت أن شيئًا ما قد انكسر داخلها.

ثم دوّى انفجارٌ رهيب...

حين فتحت نورا عينيها، وجدت نفسها محاصرةً تحت الأنقاض.

الهواء كان مليئًا بالغبار، والدماء رسمت خيوطًا حمراء على الجدران المهدمة. حاولت أن تتحرك، لكن جسدها كان مثقلًا بالحطام...

ثم أدركت أنها ما زالت تمسك يد أمها. لكن اليد كانت بلا نبض.

بلا حياة.

في تلك اللحظة، لم يعد هناك أي صوت. لا صراخ. لا انفجارات. لا بكاء.

فقط... صمتٌ ثقيل، خانق، كأن العالم ابتلع أنفاسه.

الجنود انتشروا في الساحة الرئيسية، مستعدين لإنهاء المهمة.

"أطلقوا النار عند الإشارة."

لكن قبل أن تتحرك أصابعهم على الزناد...

صرخت نورا.لكنها لم تكن صرخةً بشرية. كانت زلزالًا.

انفجرت في الهواء كسيلٍ جارفٍ من الألم، من الغضب، من التاريخ الملطّخ بالدماء.

الجنود تجمّدوا في أماكنهم. شعروا بأرواحهم تُنتزع للحظة، كأن كل جريمة ارتكبوها تنعكس أمامهم في مرآة الصرخة.
ثم... بدأت المدينة تتغير.

في البداية، ظنّ الجنود أن الأمر انتهى. لكنّ الصرخة لم تكن مجرد صوت.

لقد أيقظت شيئًا.أيقظت غزة. من تحت الأنقاض، من بين الدمار، خرج الأطفال.

آلاف منهم.

وجوههم كانت مغطاة بالغبار، ملابسهم ممزقة، لكن أعينهم... أعينهم كانت تحترق بشيءٍ لم يفهمه الجنود.

كانوا يسيرون ببطء، لا يتكلمون، لا يصرخون، لا يحملون حجارةً أو سلاحًا.

كلما اقتربوا، تراجع الجنود. في البداية، خطوة. ثم أخرى. ثم بدأوا يركضون.

لأنهم لم يعودوا يرون أطفالًا...بل أشباحًا.

أشباح كل من قُتلوا.

كانوا هناك، صامتين، لا يهاجمون، فقط ينظرون.. نظرات أقوى من قذائفهم النجسة.

كل نظرة كانت تثقل أرواح الجنود، تسحقهم تحت وزن ذنوبهم، تحت آلاف الأرواح التي أُزهقت بلا رحمة. وبدون إطلاق رصاصةٍ واحدة...

انهزم الجيش.

حين حلّ الليل، كانت غزة لا تزال مدمرة.

لكنها لم تسقط.

وقف الناس فوق الأنقاض، ينظرون إلى سماءٍ لم تعد تمطر قنابل.

في الشارع الرئيسي، بين الجثث والدبابات المحترقة، سارت نورا. لم تكن تبكي.

لم تكن تتكلم. لكنها علمت أن صوتها هو الحق... هو غزة.

غزة نفسها لن تموت أبد الدهر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى