
حدث فى الجنوب
تنهار جزيئاته.. تتساقط داخله.. يرن صدى الخطاب المسجون فى درج المكتب مع رفاقه (العمل لا يرقى إلى المستوى المطلوب نأسف لعدم إمكاننا النشر... المجلس الثقافى)
يكوم جزيئاته المنهارة فى جوال بدنه , يتمدد على الفراش يدير المسجل.. تنساب موسيقى عذبه _ دوما تنساب وهى دوما عذبه أيضا _ تغسل أحزانه يجول بصره على أرفف مكتبه حجرة النوم الواقفة بجوار صوان الثياب.. كثيرا ما امتدت يده تنفض عنها غبار الصمت أو لتسحب كتابا , يتسلل إليه هربا من طاحونة العمل , تدوى جملة أليس التى يحويها الخطاب مره أخرى داخل عقله, يشرد زمنا, يرتدى ثيابه متعجلا.. يغادر المنزل دون أن يجيب على سؤال زوجته..
إلى أين
هو نفسه لا يعلم فبعد الانهزامات المتلاحقة ودورانه فى الحياة العملية مصفدا بقيود لا تنتهى لقواعد النشر الحكومى.. حاول كسر القيد مرة أخرى دون فائدة..
يجلس على حافة النهر , يدخن سيجاره.. يتأمل انعكاس الأضواء على صفحته.. يفكر فى قضيته التى استغرقت منه ما يربو عن أربع شهور دون حل..
يعود
رنين الهاتف يتخلل دقات منتصف الليل.. يخبره ناقد ادبى بترشيحه للفوز بجائزة رفيعة المستوى _ كل الجوائز لابد أن تكون رفيعة ولا اعلم لماذا _ يسأله عن ماذا سيفعل بآلاف الجنيهات , يثرثر فرحا, فى الموعد المحدد كان الفائز شخصا آخر... وها هو المجلس الثقافى يعلن الآن أن العمل دون المستوى المطلوب.. يعلو صوته "ولم لا" يضحك.. يلتفت إليه بعض المارة.. يتوقف عن الضحك. ابتسامه تعلو وجهه.. تزداد الفكرة رونقا وبهاء.. يستقل سيارة أجره هامسا لذاته "احتاج لشخص واحد فقط.. ترى من يكون؟"
يهبط فى إشارة مرور.. يدفع الأجرة تاركا السائق فى دهشة.. يواصل السير حتى أسدلت المحلات أبوابها.. غابت الأقدام عن الشارع إلا النزر اليسير يخرج السيجارة الأخيرة مفكرا فى ذلك الرجل النحيف الذى يصارع مرض السرطان يزعق (عم الصامت) يهرع إلى المستشفى العام كان قدميه تسابقان عقارب الساعة يبرز بطاقته يفسحون له الطريق.. يسير فى الممرات ناعسة الضوء يتوقف عن قسم السرطان _ رجال _ المرضى يغطون بأناتهم فى النوم يراه يقرأ على ضوء خافت.. يقعد على حافة الفراش
شعر به.."لقد ازدادت نحافتك يا عم الصامت"
رآه ضيق العينين , جاف الوجه , بسط يده مصافحا له , ترك الكتاب قائلا " زيارة محقق بعد منتصف الليل.. لابد أن الأمر جد خطير.. هل هناك أمر ما يشغلك
يخبره بجذوة النار التى فى رأسه
يرجع والليل يلفظ أنفاسه الأخيرة. النوم جذب زوجته إلى كهفه بعيد.. ينظر إلى صورته فى المرآة ثم يبتسم..
يغرق فى بحر من التوتر.. أياما متتالية, لا يكف عن تصفح الجرائد, تتابعه زوجته متسائلة عن سر توتره ولماذا كف عن الكتابة؟ تزفر فى ضيق إذ امتنع عن إجابتها, تابعت الإرسال التليفزيونى مؤجلة الأمر فى إعادة سؤالها إلى الصباح , توقظه بقبله طويلة أسفل أذنه.. تمسح وجهها فى رقبته.. ترتدى ثياب العمل يفرك عينيه وهو يسمعها تقول:
الإفطار والجرائد على السفرة.. لن أغيب
ترسل قبله فى الهواء كفراشه تتمايل فى طريقها إلى خده.. على صوت الباب يتحرك فى ضجر إلى مائدة الطعام.. يتصفح الجرائد.. يتوقف عند عنوان (حدث فى الجنوب)
ويقرأ
"على نفقتى الخاصة انشر الفصل الأول من مذكراتى لأكشف لكم حقيقة يخجل منها الآخرون,أعلم ما سوف يحدث لى لكن ليس لمدى أن أخاف من النشر"
الصفحة الأولى
يقف القطار فى المحطة الأخيرة بعد قيامه بواجب دغدغة العظام ونشر أشكال الوجع فى كل أجزاء جسدى, احمل حقيبتى على كتفى, الشمس ترسل جبروتها الحرارى على بدنى, بينى وبين الطريق ثلاثة خطوط للقطار , أهرول إلى النفق المؤدى إلى الخارج, تصدمنى رائحة النشادر وأطنان الذباب وأكوام القمامة, الصحراء تبلع كل ما حولى, أظلل وجهى بكف يدى لأرى بوضوح, يتناثر القادمون, يذوبون فى الرمال, صبى اسمر يرفل فى جلباب ابيض, عمامة بيضاء تزين رأسه الصغير, أحسها ثقيلة عليه, يوكز حماره, يتجه صوبى, يجر خلفه حمارين.. يتأملنى:
حضرتك الدكتور
ابتسمت
_
نعم؟
إلى أين إن شاء الله
_قرية (خير).. هل تعرفها؟
يلف بحماريه لفه نصف دائرية يلتفت:
اركب.
امتطى حمارا بعد وضع أمتعتى على الحمار الثانى.. يسير الركب بضع خطوات, يخرج من جراب معلق على جانبى الحمار مظلة.. يمدها إلى
خد يا دكتور
_طب وأنت
شمس الصيف أحد من السيف.. وأهل البندر لا يحتملون شمس الجنوب.. بالمناسبة بأى فرع فى الطب تمتهن
النسا والولادة
نقطع طول المسافة بالحديث, بين فترة وأخرى.. ارفع زجاجة مية بلاستيكيه محاطة بخيش مبلل ارتشف منها قليلا, لا شئ من حولى إلا الصحراء , نقترب من الجبلين نسير فى جوار احدهما كأننا صخرتين متحركتان من مكانهما, نخرج من ضيق الوادى إلى طريق ترابى عرضه لا يقل عن عشرة أمتار أوله المستوصف الذى سأعمل فيه حتما ثم المدرسة وأمامها مسجد بالطوب الأحمر وخلف هذا كله مساحه شاسعة من الأفدنة توقفنا أمام باب المستوصف,
التفت الصغير
حمد الله على السلامة يا دكتور
اهبط حاملا حقيبتى.. أسير وسط الفناء أقف أمام احد الغرف فى الطابق الأرضى الذى وقفنا فيه كان هناك رجلا بدينا ابيض الشعر مستدير الوجه يبدو فى منتصف العقد الخامس من عمره أشار إلى بالاقتراب ففعلت.
أهلا بيك يا دكتور دول بقية زمايلك تقريبا فى كل التخصصات ما عدا تخصص حضرتك.
ثم التفت إلى المجموعة موجها حديثه إلينا جميعا.
كما تعلمون أننى رئيس الوحدة الطبية والمسئول عن كل كبيره وصغيره قضيت فى وزارة الصحة ثلاثين عاما كطبيب وكإدارى أيضا لا اسمح بالتقصير أيا يكن المقصر ولا أسامح فيه أيضا لكم أن تتخذونى قدوه وتتخذوا أفعالى مقياسا للنجاح.
لم يبد لى مغرورا رغم تكرار حديثه عن نفسه على كل حال فقد أخذت كلماته فى الاعتبار صباحا شهدت الوحدة الطبية إقبالا غير مشهود فهى حملة تطعيم استدعونى من اجلها خصيصا ولا اعلم لماذا لكنى كنت كأى شاب آخر اسعى للعمل الحكومى فى أى مكان خرجت بعدما تناولت إفطارا كانت حرارة الشمس تسلب سوائل جسدنا لكن ما سلب جسدى سوائله كان شيئا لا يمت إلى أشعة الشمس بصله.
ينتهى من كوب الشاى مع آخر كلمات الفصل الأول وينفجر ضاحكا.. يرتدى ثيابه على عجل يستقل سيارته إلى مقر اتحاد كتاب الجنوب.. رنين الهاتف صوت المدعى العام
على مكتبك تحقيق حدث فى قرية (خير) أرجو قراءته بدقه اقرأ
اندس اللحم فى فوهة الباب الحديدى الموجود على الوحدة لحم من كل شكل ولون لكن ما استرعى انتباهى شكل البشر.. مختلفا جدا _ لا اقصد التكوين البيولوجى _ فهم مثلنا تماما لكن الوجوه مصفرة كدره كليمونه سألت:
ضد أى شئ يأخذون التطعيم
انه مصل وقائى
يقى من ماذا
يقى من أى شئ لقد دفعوا من اجله الكثير
دفعوا!!!
لا تشغل بالك
انتهى اليوم بعناء شديد كانت مهمتى وللأٍسف تسجيل أسماء من دفع من لم يدفع _ اعتقد أن هذا ليس له علاقة بأمراض النساء.
جن الليل وحان ميعاد النوم وكانت تلك مشكلتى فى أى مكان سوف أنام.. أشار على عم (الصامت) أن أبيت ليلتى فى مخزن الإسعافات الأولية وذهبت إليه فوجدته مخزنا للأثاث القديم المتهالك فلم يكن أمامى حل إلا أن أبيت الليلة فى احدى غرف العيادات
مجبر لا بطل أنام فى احد غرف العيادات عرفت شمس _ ليست شمس الدنيا التى تجعل الجو حارا _ لكنها احدى الممرضات لكن طريقة حديثها دلت على أنها لا تفهم أى شئ عن التمريض..
قادتنى شمس إلى زميلتى فى العمل الدكتورة (دنانير) وهى رفيقه فى قسم النساء جميله رشيقة يعيبها شئ واحد أنها تحب المال كثيرا. أخبرتنى ذات يوم عن مشكلة ما سوف تعارضها فى السفر لإحدى الدول الأخرى التى يكثر فيها العمل وهى مشكلة الزواج وذات ليلة عرضت على أمرا لم أكن أتوقعه
انتهى المحقق من عمله الروتينى واستجواب من لهم صلة بتسريب هذا الفضائح التى تخص وزارة من أهم وزارات الدولة وكان فى عجب كيف يفضح هذا الطبيب سره وسر مهنته أمام البشر بل وينشره فى احدى الصحف وكيف وافقت الصحيفة
هل أنت موافق على هذا العرض
نظرت إليها مندهشا ما كنت أتوقع أن اسمع منها مثل هذا الكلام لكنها بادرت بالكلام قائلة
اعرف كم الأسئلة التى تدور فى رأسك الآن أتمنى أن تسمعنى أولا قبل أن تطلب منى الاجابه عنها أنا بنت ككل البنات أتمنى الزواج فى كل لحظة عندما عملت هنا مضطرة مثلك تماما وجدت أن تحقيق هذا الأمر صعب خصوصا أننى يستحيل أن أتزوج من هذه البلدة أنت تعرف رجالها جيدا وعندما جئت إلى هنا أخبرتنى شمس انك إنسان أصيل وجنتلمان وعندما ذهبت إلى سفارة (خير) أخبرونى أن العائق الوحيد أمام سفرى أننى آنسه فعرضت عليك هذا الأمر كى نسافر سويا أنت أيضا تحلم نفس الحلم أليس كذلك؟
أنت ناجحة تماما تعرفين ماذا تريدين وكيف تحصلين عليه
تمت إجراءات الزواج فى سرية تامة
فى صباح اليوم التالى كانت هناك حملة مرور من وزارة الصحة وتم إعداد كل شئ لنجاح مرور هذه الحملة ومر كل شئ فى أمان ما أدهشنى نظرات شمس الممرضة لى كان هناك شئ ما تخفيه شمس عنى شئ أراه واضحا فى عينيها لكنها تحبسه وتأبى التصريح به عندما غربت الشمس كان هناك احتفالا بمناسبة تجديد الوحدة حضره كبار رجال (خير) كان الحفل مهيبا أكثر من مرة تقع عيناى على شمس أحس أنها تنظر لى وعندما تلتقى العينان تهرب مسرعة وجدت أن المبادرة بالهجوم خير وسيلة للمعرفة اقتربت منها مناولا إياها كوب من العصير جرعت من جرعه ثم قالت لى:
كيف تمضى بك الأيام هنا
مثل الأيام التى سبقتها
ألا تلاحظ شيئا غريبا
لا ما هو
المدير مهتم جدا بالدكتورة (دنانير)
تميزت غيظا أحسست أن (شمس) تعرف شيئا وتخفيه لكنى تجاهلت هذا النداء من عقلى عائدا به للواقع اقتربت من شمس أكثر وقلت لها:
لهجتك ليست مثلهم أنت لست من هنا أليس كذلك
نعم أنا أعيش وحدى هنا اعتمد على راتبى فقط ولا أحب أن يتدخل احد فى خصوصياتى
أتعرفين
اعرف ماذا
أنا و (دنانير) متزوجان
سقط الكوب من يدها غابت عن عينى لم التق بها مجددا فى الحفل
لقد قابلت السيد المدعى العام الموكل برفع قضية التشهير على هذا الطبيب وكتبت التقرير الذى سوف يتسلمه وسوف أسلمه بنفسى يا سيدى
سافرنا أنا و (دنانير) إلى دولة (حلم) وفى أول أيامى فيها
الدكتور (فلان)
نعم
تفضل معنا
عصابة سوداء تخفى عنى ملامح الكون بقيت بهذه العصابة ثلاثة أيام حتى عند تناول الطعام كنت آكل ما كان يقدم لى بلا مناقشه
لماذا تعاملوننى هكذا لماذا لا تحققون معى أريد سفير دولتى.
لا تسكتنى إلا لطمة على وجهى.. بعد يومان آخران أغادر السجن إلى شقتى دون أن تزال العصابة
الحمد لله على سلامتك يا زوجى
أنت طالق
العن الغربة وما جلبت على من وجع القلب وتعب الأعصاب كفانى وجه محقق النيابة وهو يحقق معي فى شئ أنا لا أذكر أننى فعلته فى هذه البلد.
_أتعرف معنى ما حدث له هناك
اختطاف مثلا
كيف ولمصلحة من
وزارة الصحة هناك مثلا فما أورده من تقارير تكفى لتحريقه حيا
إليك خبرا طازجا يكفى لشغل الرأى العام بدلا من هذا الخبر
_لا أريد سوف انهى هذا التحقيق أقرا آخر صفحه
ذهبت مع شمس إلى بلاد (نور) فوجت فندق المغتربين مملوءا عن آخره فلم يكن لنا مكان إلا افتراش الأرض اتجهت إلى مدير الفندق حيث انه كان لى حجزا قديما فوجدتها سيدة تقاربنى العمر انطلق صوتها.
اجلس يا دكتور (فلان)
كيف عرفتى اســ.. من (دنانير)
نيابة عن اتحاد كتاب (خير) يعلن رئيس الاتحاد ضم حكايا الدكتور إلى كتاب حكايا جدتى
ورقة
(دعم الأعمال الشبابية مرفوض)
خبر
(المجلس الأعلى للفنون والثقافة: العمل لا يرقى للمستوى المطلوب)
دعوة
(ترشيح للفوز بجائزة رفيعة المستوى)
يغلق الملف
عنوان
(حدث فى الجنوب)