الأربعاء ٢١ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم محمد عبد الجليل محمد

حجر في الموج

القصة الفائزة بالقائمة القصيرة في مسابقة ديوان العرب رقم ١١ دورة الصمود، والمقاومة، ٢٠٢٥

كانت سيفان مدينة ترويها الأساطير، أرضًا حيث يمتزج التاريخ بالموج، وتتنفس جدرانها الحكايات التي لا تموت. عند كل شروق شمس، كانت الأسواق تعجّ بأصوات التجار، والأطفال يركضون بين الأزقة الحجرية، بينما يروي الصيادون قصصهم عن البحر، ذلك الكائن الأزلي الذي لا يخاف شيئًا. لكن منذ سنوات، تغير كل شيء.

جاء الغرباء من خلف البحر، على متن سفن سوداء كأنها أطياف العاصفة. لم يأتوا بتجارة، ولا بسفن صيد، بل جاءوا بالنار والحديد، يفرضون حصارهم على المدينة، يطوقونها بأسوار من الخوف، كأنهم أرادوا محوها من الوجود، أو أن يطفئوا جذوتها كما يُطفئ المد نارًا أشعلها أطفال على الشاطئ.

ريمان، شاب في الخامسة والعشرين، كان يعمل في نقش الأحجار، حرفة أجداده التي لم تكن مجرد صنعة، بل رسالة. كان يؤمن أن الحجر ليس مجرد مادة صلبة، بل ذاكرة حية، تحفظ ما لا تستطيع الريح حمله، وتقاوم ما يعجز الناس عن مواجهته. كان يطرق بإزميله فوق الصخور، ينحت كلمات، رموزًا، أشكالًا، كأن يديه تتحدثان عندما يصمت الجميع.
في البداية، حاول أهل سيفان التعايش مع المحتلين كما يفعل البحر مع المد والجزر، لكن شيئًا فشيئًا، صار الهواء أثقل، والجدران أضيق، وتحولت المدينة إلى متاهة من العيون المترقبة. حتى البحر نفسه، الذي كان دومًا صديقهم، صار وكأنه يُراقَب.

وذات مساء، جاءت لينا، أخته الصغرى، وهي تحمل حجرًا صغيرًا بين يديها. نظرت إليه بعيون واسعة وقالت:

"أخي، هل تستطيع أن تنقش لي عليه شيئًا؟"

ابتسم ريمان ومسح على رأسها.

"ماذا تريدين أن أكتب؟"

ترددت قليلًا، ثم قالت:

"اكتب أن البحر لا يخاف الموج."

نظر إليها بدهشة، كأنه يسمع الجملة لأول مرة، رغم أنها كانت كلماته هو. كيف التقطت أخته الصغيرة هذا المعنى؟ كيف فهمت أن كل ما يحدث يشبه موجة، والموج لا يُغرق البحر، بل يجعله حيًّا؟

أخذ الحجر منها وبدأ ينحت ببطء، يهمس لنفسه:

"نعم، البحر لا يخاف الموج... ونحن لا نخاف العاصفة."

لكن العاصفة كانت تقترب.

في تلك الليلة، دوّت المدافع في الأفق، اهتزت الجدران القديمة، وأصبحت الأزقة ضيقة أكثر مما مضى. تصاعد الدخان في السماء، امتزج بصوت الأقدام الثقيلة وهي تجوب المدينة، كأنها تبحث عن شيء ما، شيء لم يكن مرئيًّا.

في الصباح، وقف ريمان أمام ورشته، ينظر إلى المدينة التي أحبها، فرأى رجالًا ونساءً يخرجون من بيوتهم، لكن لم يكن في أيديهم أسلحة، بل شيء آخر...

الأحجار.

كانوا يجمعونها، كما لو أنهم يجمعون شظايا الذاكرة، وكأنهم يعيدون تشكيل الماضي ليصنعوا به مستقبلًا جديدًا.

كان بينهم شيخ طاعن في السن، عكازه من خشب البحر، وحوله أطفال يحملون حجارة صغيرة بأيديهم الرقيقة. لم يكونوا خائفين، بل كأنهم فهموا أن هذا ليس مجرد صراع، بل لحظة اختبار.

جاء أحد الجنود الغرباء، كان يحمل نظرة ساخرة، كأنه لم يفهم ما يحدث. انحنى والتقط حجرًا من الأرض، ثم قال لـ ريمان بصوت مستهزئ:

"ما فائدة هذا الحجر في الحرب؟"

نظر إليه ريمان بثبات، ثم أجاب، كأنه يهمس بحكمة نقشها في الصخر منذ زمن:

"الحجر لا يحتاج إلى فائدة... بل يحتاج إلى مكانه الصحيح."

لم يفهم الجندي، لكنه لم يكن بحاجة إلى الفهم.

لأنه حين جاءت الليلة التالية، كان الحجر في مكانه الصحيح تمامًا... في يد ريمان، وفي يد كل من يرفض أن تُمحى مدينته.
وفي الفجر، حين تسلل الضوء الأول عبر الأزقة، كان هناك نقش جديد على الجدران السوداء، نقش لم يستطع أحد مسحه:

"البحر لا يخاف الموج، ونحن لا نخاف العاصفة."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى