الثلاثاء ١٣ أيار (مايو) ٢٠٢٥
بقلم أيمن عبد الحميد الوريدات

استقالة من الحياة رقم «2»

حدّثني صديقي فقال: ثلاثة أيام ولياليها وأعلن استقالتي المؤقتّة من حياتي المسمّاة (حياة رقم 2)، حياة العزوبيّة الّتي أجبرتني الظّروف على عقد قراني عليها، حيث أعيش في علبة كبريت من الحجم الكبير، أخرج منها صباحًا إلى عملي، حيثُ أقضي جلّ نهاري مستمتعًا بما أؤدّيه من رسالة، أناقش، وأحاور، وأفاكه، وأطلق التّعليقات السّاخنة والباردة، المضحكة والمغضبة في وجه أعزّائي الطلاب، وأخرج عتّالاً يحمل الكراسات ليخربّش عليها بالأحمر، خرابيش تسرّ وأخرى لا تسرّ، ثمّ أتفنّن في وضع أسئلة الدّمار الشّامل في وجه بعض الطلاب، وما أن يرنّ منقذي الجرس حتّى أسارع إلى المطعم لأتناول ما طبخه الفنّان التّركي (نشأت)، وأعود إلى علبتي لآخذ أقساطًا من الرّاحة من قيلولتي العزيزة، وأفيق على رائحة تدغدغ حواسي كلّها؛ قهوة تنادي هيّا اصنعني فأفعل، ثمّ ألجأ إلى حاسوبي أبثّه ما فيّ ولا يبثني اللئيم شيئًا، ثمّ أزوروأزارأو أخرج لأنظر سيل السّيارات العارم في المدينة الّتي لا ترى فيها مترجّلا أو مترجّلة، فالنّاس يخافون النّاس، وأتأمّل أضواء المدينة وأسواقها الفارهة الخالية من وجوه نعرفها ومن بعض ملامح الحياة، ثمّ يحكم عليَّ الليلُ بالنّوم حكمًا غيرقابل للطّعن.

إذن هي ثلاثة ,أستقيل من هذه الحياة مدّة شهرين لأعود إلى حياتي الأمّ حياة رقم 1 في أحضان أحبّائي؛ يحيطون بي، يعيدون سردَ ما أوجزوه لي في شهرين ابتعدت فيهما عنهم، سردًا بالتّفصيل المملل، أو كما يطيب لحبيبة روحي أن تقول: استمع لنشرة الأخبار من كلّ منهم بالتّفصيل،فهذا حصل في الاختبار على... وهذه حصلت على... وهذا ضربه أخوه الكبير و... أعود لأجدّ ما لذّ وطاب من أكلاتنا الّتي تطهوهها خبيرة في أسرار معدتي حبيبة إلى قلبي، فهذه ملوخيّة وتلك بامية و...، وما يجود به الصيف من فاكهة فهذا بطيخٌ أحمر عالسّكين ومشمش وصبر وتين و...، وما تتفنّن فيه أنامل غاليتي من حلويات ما زال طعمها تحتّ أضراسي، هذا الحياة الّتي اشتقتُ إلى كلّ تفاصيلها؛ إلى طرح السّلام على بقّال وخبّاز وصاحب مطعم أعرفهم ويعرفونني،أرى فيها سيّارات تعرفني وأعرفها فهي تسير مزهوّة، إلى حياة أصحوفيها مبكّرًا لأشتمّ رائحة النّشاط في الوجوه الّتي تألفني، الحياة الّتي أجلس فيها مع والدي تحت تينة نعرفها وتعرفنا، أسرارنا في كلّ ورقة منها، ظلّها يألفنا ونألفه، لنرتشف القهوة على أنغام قصص وحكايات لا تنته. حقًّا إنّها حياة حياة حياة! لا منغّص فيها إلاّ تذكّري لقول ابن زيدون في خالدته:

ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلاّ وَأَزعَجَهُ
رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتـحلٍ
مُوَكَّلٍ بِفَـــضاءِ اللَهِ يَـذرَعُـهُ


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى