هموم صغيرة
أي الهموم أشكو إليك ربي وأيها أستهون !؟
الورقة التي قدمتني للعمل بشهادة أفنيت فيها ثمانية عشر من غضاض أعوامي أغفت كسِيدة تحت أكوام التراب مستأنسة صحبة الآلاف من الأوراق والملفات المنسية المتزايدة باطّراد حتى لفظت غرفة الأرشيف أكداسا منها إلى الممرات المجاورة ..البيت الذي أفني في تنظيفه وترتيبه الساعات الطوال حتى يخيم الليل ، يطلع عليه الصبح وقد انقلب كيانه ، وكأن إعصارا اجتاحه، أو جُرّبت بين أركانه بعض أسلحة الدمار الشامل . لا ..هذا تشبيه بعيد ؛ بل ثمة من يلغم نفسه كل يوم ناسفا كل ما حوله .. ويا ليت أشلاءه في عداد ما يتفجر ! إرهابينا ينجو بنفسه آمنا من كل سوء متخذا لمجلسه قرب التلفاز كرسيا وثرا يلف عليه ساقا فوق ساق وقدم أعلاهما يهتز بحركة دائبة خافقة تتشنج لها أوردة رأسي ، ويتخذ لزجاجات طلاء أظفاره _ الأظفار التي كانت تقضم بهمجية حتى شهور قريبة _ إلى جانب " الرسيفر" موقعا لا يتغير ؛ ليتم تغيير اللون مرات عدة في اليوم الواحد أثناء مشاهدة أغان لا ينتهي بثها ، وهو أو هي بالأحرى تلغ في قنينة المشروب الغازي أو في إناء شراب الفاكهة المجففة الذي أعده بنفسي بعناية فائقة!
توجهتُ نحو فناء الدار قاصدة مضخة الماء أبغي تشغيلها ، فاعترضني جسم متلفع بالسواد من أقصى هامته العليّة حتى الأمتار البعيدة المحاذية لقدميه الغليظتين حاجبا عني ضياء الشمس وهواء خالقها .. إنها أم رحيم ! أي رحمة ترجى في لقائها صباحا
– آه يا رجليّ.. وجعهما يقتلني ..
" اللهم اكفنا همّ من أدخل علينا همه !"
صباح الخير يا دنيا .. ما لي أراك حزينة !؟..
– الأطباق أكداس تملأ المطبخ .. والماء في ضعف إصبعي هذا ! " وأبرزت لها خنصري "
– الماء جار في كل مرفق من البيت وتتكاسلن !.. حسرة على عمر أفنيناه في ملء للماء وجلب للحطب .. أين أمك ؟
– في الداخل ..
وعكفت على المضخة أحاول تدويرها فتأبى الدوران بعناد ليس بالجديد .
– ما أقل الماء إلا هذه المضخات ، وما أتلف الدنيا إلا هذه البدع التي يطلعون بها علينا كل حين ؛ مرة المضخة !..ومرة الطبق !.. وهذا الذي يسهرون عليه حتى الصباح .. العنترنت! .. هه!
– نعم .. عنتر زماننا الذي لا يقهر .." دون أن أضحك بالطبع ؛ فالمضخة قد تحتاج إلى صيانة لا أقوى عليها بنفسي . ثم إني لا أذكر مرة ضحكت فيها بوجود هذه المرأة !"
دخلتْ ولبثت أنا في محاولاتي الخائبة ، حتى خمنتُ انقطاع التيار الكهربائي، فدخلتُ لأسمع :
– مت .. مت وانتهيت .. حتى جاءوا لي بالدكتور هذا ابن يونس .. هكذا أنا في كل يوم لي ميتة .. شغل الأولاد لا يسد الخلة .. والبنت لا يستقيم لها نصيب .. والسيارة تأخذ منا ضعف ما ننفق مجتمعين .. أليس في كل ذلك ما يميت !؟
" أمي لم تنبس ببنت شفة ؛ ليس من فرصة للكلام حتى لو أرادت !"
ميتات ، وليس ميتة واحدة ..
" والتفتت نحوي التفاتة شيقة ، كانت لتنقلب مريعة لو أنها سمعت هتافي في سري : موتي بعيدا عنا !"
دنيا مثل ابنتي ؛ تحزن لضعف الماء أو لانقطاع الكهرباء .. إذن لو رأيتما ما في قلبي من همّ وغم !.." التفتت إلى أمي مجددا " نزل علينا بالأمس ضيوف جاءوا من البصرة، ولم أجد في الثلاجة ما يبيض الوجه . فندبت أباهم وبكيت حتى أشرفت على العمى " وأمي مقطّبة ؛ لعلها تقرأ في سرها تعويذة لحياة أبي !" دنيا ما كنت لتفعلي لو كنت مكاني !؟.." مبتسمة ويا للعجب !"
– خالة أنت مريضة ، والكلام الكثير يؤذيك .
عبستْ بالطبع ثم قالت :
– أي والله مريضة .. ألا تقولوا لتلك أن تخفض صوت التلفزيون ! بتنا لا نجد الراحة إلا بانقطاع التيار ..
" فبهتّ .. أهناك من يجد الراحة بانقطاع الطاقة الكهربائية !؟ وأنا المتعجبة لانصراف الناس عن التظاهر من أجل تقليص ساعات القطع .. المترقبة لمثل هذا النشاط .. المتأهبة للمشاركة فيه ! لعلي سأشهد قريبا تظاهرة تطالب بتقليص ساعات "الوصل"..! ولن يكون أمامي عندئذ إلا استلاب خرطوم الماء من يد الشرطي _ على فرض أنهم سيفرقون الجمع برشق المياه _ وإذن لأفرخت التظاهرة تظاهرة جديدة للتزود بالماء من خرطوم الضغط العالي _ولصببت جام غضبي وسيل العرم من يدي على .. مسكينة أم رحيم !"
جلبة وضوضاء وعطلة بتسمّر البنات أمام الشاشات هذه ..
"هنا انقطع التيار بالفعل ! وكان ارتفاع الشمس في السماء قد بلغ حدا أرسلتْ منه أسواطاً تسلق كل ذي ظل .. واستمرت المذيعة الشاكية بقراءة نشرتها النكدة لكن بفواصل ترفع فيها المنديل لتجفيف العرق الذي اتخذ له على تضاريس وجهها الذاوي سبلا متعرجة ، حتى احتقنت بشرتها وأمسكت عن الكلام لاهثة . ثم قالت بمشقة كبيرة :
– أريد أن أخبرك أخية بأن الأولاد قد جلبوا مولدة كهرباء كبيرة .. فإن رغبتم في الاشتراك ..
قاطعتها متعجبة :
– ألتتسمر البنات على الشاشة !.. جلبة وضوضاء وعطلة ..!
فزجرتني أمي بنظرة أضاعت متعة التربص بالجارة الشكسة . ثم بدت المرأة فاقدة قدرتها على النطق ، وساءت حالتها لدرجة أندمتني على كلماتي الأخيرة . ورأيتها تنظر إلي رافعة يدها قليلا عاقدة أصابعها ثم مرخيتها في حركة ضعيفة متواترة ،فعلمت ما تريد قبل أن تنطق أمي :
– البخاخ .. اذهبي ونادي أنعام .
وعدتُ بالبخاخ ، وأنعام تجدّ في إثري ناقلة_ بصعوبة جمة _ قواما عرضه مساو لطوله تقريبا، بأقدام دمية لا تجد لانتعالها شيئا إلا من محال الأطفال رغم بلوغها الرابعة والعشرين ! ووجدنا المرأة ممددة دون حراك ، وأمي تروح لها الهواء بتحريك كاغد سميك بخفة أبدت قلقها البالغ .
قالت أنعام من بين لهاثها وكأنها توشك أن تتمدد إلى جانب أمها بلا حراك هي الأخرى :
– لا ينفع البخاخ في حالتها هذه . علينا إحضار جهاز التوسيع . وأنا لا أقوى على الرجوع لإحضاره !..
قلت لها :
– وهل ينفع الجهاز هذا بلا كهرباء !
قالت بفمها المدور _ككل شيء فيها_ بسرعة تستعجل إنقاذ أمها :
– علينا إذن إحضار الجهاز ومعه سيار يمد الكهرباء من بيتنا .
قالت أمي تستحثني :
– ماذا تنتظرين !
وجريت نحو بابهم يتبعني صوت أنعام اللاهث يصف لي مكان الجهاز في الخزانة والسيار في المطبخ . لم أسأل عن مفتاح بالطبع لعلمي أن كل باب ، صغير أو كبير ، في بيتهم لا يعرف الإقفال . توجهت على الوصف إلى الخزانة لأجد الجهاز محاطا بعلب فارغة مما تباع فيها المصوغات الذهبية . وهممت بالرجوع لإبلاغ البنت عن احتمال تعرضهم للسرقة ، غير أني عدت فقلت في نفسي : حياة المرأة عندهم أغلى من الذهب دون شك . فأخذتُ الجهاز وعرجتُ على السيار ألتقطه من بين أكوام الأغراض المختلط جديدها بالقديم ونظيفها بالقذر في فوضى عهدي بها عمرا أفنته الأم نادبة لا تعرف السلوان وقضته البنت عاشقة لا يثبت لها حبيب !
– بهذا السلك لن يتعدى الجهاز المدخل !
قالت أمي :
– علينا نقل المرأة إذن إلى المدخل .
نقل المرأة !؟.. لعل جبابرة من عفاريت الجان يقوون على ذلك . أما أمي ..! أنا ! .. أم كرة الطين هذه ! والحق أنه طين اصطناعي ملوّن ذاك الذي صنعتْ منه هذه الدمية المكوّرة ؛ إذ أنها جميلة الوجه مورّدته مما يرغّب الشباب فيها ويجعلها في حالة حب لا تنتهي تضاعف باستمرارها فيه وزنا لم يعرف غير الزيادة منذ سنين ؛ وكأنها بعاطفتها الجياشة تفلق خلاياها وجدا ، أو تلمّ مما تأكل _ تحسبا لتعب الحب ومكابداته _ احتياطيا يفيض على سبع عاشقات مسهّدات ذاويات عازفات عن كل هنيء ما عرفن من أي طعام ذواقا !
وجدنا الحل في سحب البساط والمريضة ممددة عليه ، رغم ما في هذه الطريقة من تأخير في إسعافها ومخاطرة بسلامة أوصال جسمها الهامدة . فريق الإنقاذ المتواضع برئاسة أمي أقرّ بأنها الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها انتشال أم رحيم من أزمتها .
ومرق البساط على بلاط زلق سائحا في رحلة موفقة طافت بجبل السواد أرجاء المنزل ، وسفوح الطود المختفر تموج في ارتجاج عظيم دون أن تنزلق تضاريسه الشمّاء عن المركب الهائر ، فيما تسحب الركوبة المتلوية _كحزمة من الثعابين كافحت مجهودنا بعناد دحض _ من إحدى جوانبها قبضتين صغيرتين مزخرفتين تتدحرج صاحبتهما بين يدي تطوافنا المضني بهمة عالية حتى اصطدمت بضلع جدار ناتئ فأرخت أصابعها القصيرة المنتفخة لتهوي أمها على كتف وتعود لتنكفئ على وجه انتفض رغم إغمائه لافّة بانقلابها قدمي في دوامة التردي المرجفة حاشرة بانكفائها ساقي البريئة المحسنة بين الأرض وبين طنّيْن وأكثر من اللحم شبه الميت .
صرختُ وصرخت أنعام معي ليس خوفا على أمها ولا إشفاقا على ساقي من الأطنان الملقاة عليها برخاوة تضاعف وزنها وتزيد من وطأتها ؛ صرخت لأنها باصطدامها بالجدار فقدت توازنها وبإفلاتها طرف البساط ألقتْ على الأرض ردفين أحسب أن فسيفساء البلاط تحتهما صار ترابا !
الناجية الوحيدة من تلك المعمعة كانت أمي ، غير أنها لم تحرك ساكنا لانتشال قدمي من تحت حجر الرحى ؛ لم تفعل شيئا سوى الاستغراق في ضحك شاركتها فيه رغم تألمي وسفحت أنعام فيه أيضا دموعا غزيرة وهي تنهض نفسها وتتحسس مواضع الألم في العجز الرضيض .
أدنينا المريضة من الجهاز المدور في المدخل فأدى وظيفته بنجاح ، فانتظم تنفسها بعد دقائق ناقلا لون الدم إلى الشفة البيضاء المتيبسة وإلى الوجنة السمينة المتهدلة .
وجاءتني أنعام عصرا تعودني وتسأل :
– ألم تري شيئا من الذهب قرب الجهاز ..؟
تذكرت بسؤالها العلب الفارغة ، وكانت قد انمحت من تفكيري حتى سألتني عنها .
_ هل تفقدون شيئا منه ؟.. " سكتت " أنا رأيت علبا فارغة ، ولم يكن الوقت مناسبا
لإخبارك ..
ولقيتني أفكر في إثبات براءتي بيأس وجزع ؛ إذ لم أهتد إلى طريقة تمكنني من ذلك . ثوان هائلة مرت حتى صرّحت البالونة الرقراقة :
– أنا أعلم أنك لم تري شيئا .
– لم تسأليني إذن !؟
– لا أعرف ماذا أقول .. غدا عندنا مناسبة ، والمفروض أن أضع ذهبي كله على اعتياد النساء من أقاربي ..
– وأين مضيت بذهبك !؟ " وقد حدثني قلبي بأنها أدفت به جيب عاشق لها أعلم فقره كما أعلم صفاقته "
– زهير يمر بضائقة .. ولم أجد غير ذهبي معينا له .
– كلّه !؟
– وهل كان يزن الكيلوات كلّه !.. إن هو إلا قلادة وسوارين وخاتمين .. والأقراط ها هي ذي في أذني . المهم .. أنا معتمدة على الله وعليك في حل مشكلتي هذه .
– أنا !.. كيف !؟
– سوارك الذي يشبه سواري .
– لا أعتقد أن أمي ستوافق .
– بل تعطيني إياه دون علمها ودون علم أمي أيضا . أتوسل إليك .. وغدا مساءا سيكون عندك دون أن يشعر أحد بشيء .
فكرت قليلا ، ثم أجبتها :
– غدا قبل خروجك مباشرة تأتين لأخذه .
وأرسلتُ في طلب صديقة لي تعمل في النحاس المسحوب ، كنت أحيانا أطلب إليها سحب نماذج من الشبه لقطع يكفي أن تراها ولو لمحا أثناء جولة لي معها على واجهات الصاغة . أفهمتها ما أريد فأبدعت القطعة المطلوبة غير الكاذبة تماما _ فقد طلتها بطبقة رقيقة من الذهب _ وأودعتها يدي بعد أربع ساعات قضيتها مفكرة في إقدامي على مد يد العون إلى هذه المتيمة أبدا بأحد الأراذل . إنها ليست المرة الأولى .. كما إنها لم تكن أهلا لمواقف الإيثار في أي مرة .
وعلى الموعد المضروب لإرجاع الحلية أتت :
– أهكذا تضحكين علي !
قلت وأنا ادرأ ضحكة :
– كيف ؟
– السوار الذي أعطيتني .. لم يكن من الذهب .
– وهل أخذته لتتزيني به وتحلي مشكلتك ، أم لتثمنيه !؟
– عرف الجميع أنه تقليد .. على كل هي ليست غلطتك !
– كيف يعرف الجميع وأمي التي اشترت أخاه بنفسها لم تتبين تزييفه !
" سكتت والحزن يظلل وجهها ويتنافر مع تدويره المرح "
لم تخطئي إلا بقولك أنك تريدينه للتزين ؛ كان عليك أن تقولي : ليمضي به زهير إلى أحد الصاغة فيلحقه بما صرف من ذهبك .. لأعمل حسابي !
وانصرفت تتقلب ،ككرات تتدحرج على بعضها بتمهل مخذولة حائرة تنتزع التعاطف من قلبي رغم تفاهتها .
وأتت أمها في اليوم التالي تنشد من الباب أرجوزة التشكي . وقالت بعد فاصل باك منها :
– أصبت في قدمك يا دنيا !.." بلهجة كأنها اعتذار "
– دنياكم من يومها عرجاء .. ماذا لو عرجت دنيا سليم أسبوعا
– أمك في الداخل ؟
– لا .. وهي لن تعود قريبا !
أدارت وجها تعكّر وقفلتْ راجعة ، وصوت أمي يهدر في الداخل يطالب إرهابينا بالتحرك لترتيب البيت الذي بات له بحاوية النفايات شبه بإصابة مسؤولة النظافة فيه !
مشاركة منتدى
5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2014, 13:57, بقلم بتول العمري
في يوم من اليام كانت فتات حزينه يتيمه تعيش في منزل صغير احبة شاب جميل كان يعيش في منزل كبير واسع وهي جميله فا ذهبة اليه وهي تحمل زهور موبتسمه وصلة الا بيته فا نضرت اليه فا خرج اليها ونضراليه ك