نحن والقوى الهجينة
تقوم سياسات التحكم والسيطرة على الشعوب، ولا أستثني أي شعب هنا، على فرض قوى معينة سياساتها وأهدافها من خلال حضور وقائعها القوية والمباشرة على المجتمع، أي مجتمع. وقد بدأت الإرهاصات الأولى لهذا النهج الذي لا يقيم أي وزن للمعايير الأصيلة للمجتمع الذي تنشط فيه، بدأت منذ ما يعرف بالثورة الصناعية في أوروبا، وشيئا فشيئا خسرت تلك المجتمعات تراثها القيمي كنتيجة حتمية لسياسات جديدة فرضتها تلك القوى الهجينة التي لا تربطها في معظم الحالات أية روابط حقيقية مع تلك المجتمعات؛ فهمّ تلك القوى بالدرجة الأولى التغريب ، ومن ثم التفكيك، وفي النهاية إعادة التركيب.
المرحلة الأولى والثانية أنجزتا بطريقة دراماتيكية تحت شعارات التحضر والتطور بدليل الرفاهية عالية الجودة التي يتمتع بها الأفراد. يفترض في التقدم المادي، لو كانت النيات بريئة، أن ترسخ سعادة الأفراد في المجتمع، وأن يواكب ذلك إعادة بناء قيم المجتمع بطريقة تضمن الحريات والعدالة بين شعوب الأرض، ولكنّ شيئا من هذا لم يحدث، وبهذا فوتت البشرية فرصة ذهبية في إعادة صياغة المجتمعات بطريقة مبنية على العدالة الحقيقية.
في المجتمعات المتقدمة حيث البيئة الخصبة والوسط الحيوي لتلك القوى، وعلى مدار القرن العشرين وحتى اللحظة، دخلت تلك المجتمعات في المرحلة الحاسمة وهي مرحلة إعادة التركيب. لم يجد الأفراد المهمشون المعارضون لتلك التوجهات وسائل فاعلة للوقوف ضد تلك التوجهات؛ فالوقت بات متأخرا جدا لمثل هذه الحركة الارتدادية.
إن الهدف الحقيقي الذي تتطلع إليه تلك القوى الهجينة يتمثل حقيقة في السيطرة، وما المراحل السابقة سوى أدوات تكتيكية للوصول إلى هذه الغاية، لا أقصد بالسيطرة هنا السيطرة المادية، وان كانت متحققة في المرحلتين السابقتين، وإنما أقصد هنا السيطرة على العقول وقوة التفكير في المجتمعات. ونجحت تلك القوى في الوصول إلى العقول والقلوب في تلك المجتمعات، بل أصبحت منطلقات لتسخير كل شعوب الأرض لهذه السياسة الهجينة.
ولإزالة الغموض عن طبيعة تلك القوى يمكن القول بناء على المراحل المتقدمة أنها تتصف بطبيعتين: طبيعة مادية ( ترويجية)، وطبيعة فكرية تدجينية وهي الغاية التي من خلالها يتم تقييم الآخر.
السؤال المطروح هنا: أين يقبع العالم العربي والإسلامي من هذه السياسات التي اتخذت طابعا عالميا استئصاليا؟
في الحقيقة، لم تمر المجتمعات العربية والإسلامية بالظروف ذاتها التي مرت بها الشعوب الغربية، وعليه كان تأثير تلك القوى محدودا؛ فمن ناحية كانت تلك القوى في فترة التأسيس منشغلة في تأمين الوسط الحيوي الذي تنطلق منه، ولأسباب مختلفة كان الخيار على المجتمعات الغربية، ومن هنا لم تتعرض المجتمعات العربية والاسلامية للمرحلتين الأولى والثانية بالتأثير نفسه وبالكيفية نفسها التي مرت بها المجتمعات الغربية. ومن جهة أخرى فقد كانت نظرة تلك القوى للعالمين العربي والإسلامي نظرة استغلالية تقوم على تسخير مواردهما الغنية لتأسيس وتنفيذ رؤيتها في العالم الغربي. وعليه، فقد علِقت الدول العربية والإسلامية ضحية لهذا الدور المفروض عليها من تلك القوى حتى هذه اللحظة.
الشيء الجديد الذي طرأ على الواقع العربي والإسلامي منذ أربعة عقود تقريبا، أن القوى الخفية التي تحرك سياسات العالم نجحت في إحداث اختراق فكري في بعض القيادات المؤثرة لتسويق سياساتها ومخططاتها التي غدت دساتير في العالم الغربي، ومن ثم تطبيقها بالكيفية ذاتها على المجتمعات العربية والإسلامية. ومن هنا يمكن فهم الانتكاسات المتتالية التي تمر بها الدول العربي والاسلامية؛ فالسياسات القائمة هي سياسات هجينة لا تخدم تطلعات المجتمعات في التقدم والتطور الحقيقيين.
وفي تصوري أن هذه المخططات الهجينة مآلها الفشل لسببين: الأول تاريخي يعود إلى أن تلك السياسات لا تجد في العالمين العربي والإسلامي المؤسسات والدوائر ذاتها التي وجدت في الغرب في لحظة النشوء عندما بدأت تلك القوى بتسويق سياساتها، وهذا أفقد تلك القوى البعد الشعبي (المغرر به حتى اللحظة) وهو العامل الأساسي في وجود تلك القوى واستمراريتها. أما السبب الآخر فمرتبط بالعامل الأول، وهو أن انعدام المؤسسات الممثلة لتلك القوى الهجينة في مختلف المجالات في المجتمعات العربية والاسلامية أدى إلى انعدام وجود الرفاه الاجتماعي الذي خدر ولايزال، المجتمعات الغربية. وهذا عامل حاسم في رفض الشعوب تلك السياسات ومقاومتها بطريقة شرسة.
ويعود انعدام تلك المؤسسات أو ضعف تأثيرها في العالمين العربي والاسلامي المرتبطة بتلك القوى الهجينة، إلى أن تلك القوى أغفلت، بحكم ظروف تكوينها في الغرب، المرحلتين الأولى والثانية اللتين تبعتهما في المجتمعات الغربية، بمعنى أن تلك القوى فقدت عنصر الشرعية الذي تتمتع به بين الغربيين. ولما كان من المستحيل العودة بالتاريخ إلى الوراء، ولما تكشفت سياسات تلك القوى للقاصي والداني، فإنني أرجح فشل تلك القوى بتسويق سياساتها في العالمين العربي والاسلامي. أضف إلى ذلك أن العمق التاريخي والمقومات الحضارية للشعوب العربية والاسلامية لم تستنفذ إمكانياتها بعد، وهذا ما يفسر ردة الفعل العكسية القوية، وحتى المتشددة في بعض الأحيان، من الشعوب ضد هذه السياسات والمخططات.
وبناء على ما سبق، فإن العالم اليوم رهين سياسات لقوى مؤسساتية أنانية نجحت في السيطرة على المجتمعات الناشطة فيها، وحولت غالبيتها إلى عبيد ( بالمفهوم العصري)، وتحاول بالإكراه تمرير هذه السياسات على بقية شعوب الأرض تحت قيم لا تراعي انسانية الانسان بالقدر الذي يخدم ويسوغ ويوسع من تأثيرها وسيطرتها. بالمقابل هناك مجتمعات رافضة لتلك السياسات من ضمنها المجتمعات العربية والاسلامية، ولكنها ضعيفة ومغلوبة على أمرها.
يحلو للبعض تسمية هذا الصراع بصراع "حضارات"، ولكن هذا المصطلح مجانب للحقيقة؛ ولتوضيح ذلك لنرجع مرة أخرى لتلك القوى الهجينة التي نشأت في المجتمعات الغربية ذاتها؛ إذ نلاحظ أن من أسُس قيامها قطع الشعوب الغربية عن تراثها وحضارتها، لأن معظم تلك القوى غير غربية بالأساس أو غربية مرتبطة بها. وعليه فإن تداعيات التغييرات التي نشأت في تلك المجتمعات بتأثير تلك القوى، هو إفراز طبيعي لتلك القوى الهجينة. في المقابل فإن المجتمعات الرافضة لتلك القوى استندت في رفضها على عمقها الحضاري والتاريخي الذي لم يستنفد بعد، ولم تنقطع عنه، ولعدم توفر البديل ذاته، لأسباب يمكن تسميتها تاريخية، الذي وُضِعت فيه الشعوب الغربية بالترهيب أحيانا وبالترغيب في أحيان كثيرة. ومن هنا فإن الصراع القائم الآن ليس صراع حضارات، وإنما هو صراع حضاري تمثله الشعوب العربية والاسلامية وشعوب أخرى لها مبرراتها الخاصة لهذا الرفض من جهة، ومن جهة أخرى القوى الهجينة التي لا تمثل الحضارة الغربية بأية شكل من الأشكال، وإنما تمثل نفسها فقط بدليل أن غالبية البسطاء في المجتمعات الغربية تحولت إلى أرقام وآلات جامدة جل ما تتطلع إليه إغراق نفسها أكثر في الرفاهية وإشباع الذات أكثر فأكثر، وأما القرارات المصيرية فمتروكة لتلك القوى الهجينة التي عرفت كيف تروض تلك الشعوب من خلال النفاذ إلى قوة الشهوة التي لا تشبع لديها.
المحصلة النهائية وجود صنف من الشعوب ملتفة حول كيانها الحضاري. ولما كانت هذه الشعوب الوسط الحيوي للقوى الهجينة لإظهار قوتها وتنفذها، نتج عن ذلك عزلة وقهر وفقر وعدم استقرار، وينطبق ذلك على الشعوب العربية والاسلامية وبعض الشعوب الأخرى. الصنف الثاني يتمثل في شعوب أخرى مخدرة برفاهية ما فوق الاشباع وغير قادرة على الفكاك من هذه الدائرة التخديرية ، وينطبق ذلك على معظم الشعوب الغربية بمفهومها الواسع. ومن اللافت أن هذه الشعوب على ما تتمتع به من رفاه واستقرار، إلا أنها لم تصل إلى الاستقرار القيمي الحقيقي الذي يولد الشعور بالسعادة والأمن، وبهذا تتحول هذه الشعوب، بهذا المفهوم، إلى ضحية ولكن على نحو مختلف. وهذه هي النتيجة الحتمية لسياسات القوى الهجينة. الصنف الثالث يتمثل في القوى المسيطرة والمحركة وتتمثل في القوى الحكومية في معظم دول العالم، بما فيها العالمان العربي والإسلامي، مع بعض الاسثناءات هنا وهناك والتي لم تشكل قوة حقيقية فاعلة حتى الان، ابتداء من الرئيس والملك وانتهاء بأصغر موظف في وزارة السياحة. وهؤلاء يتمتعون بتفاوت بين، بالامتيازات السخية التي توفرها لهم القوى الهجينة مقابل تسويق وتسويغ وتطبيق السياسات العامة الهادفة في نهاية المطاف، كما أسلفت، إلى إعادة تركيب وصياغة التفكير لدى الشعوب.
أما الصنف الأخير فيتمثل بتلك القوى الهجينة، وهي اللاعب الأخطر، والمستفيد الأوحد بين كل تلك القوى السابقة، وقد أعطى نفسه صلاحية العقل المفكر والمسيطر من خلال ما يملكه من وقائع مؤثرة في بنيات المجتمع ككل. وقد حقق هذا الطرف حتى الان نجاحات بعيدة المدى ترتقي لما يشبه المعجزات في الاستغلال والسيطرة وتسخير قوى الأرض الفاعلة لمصلحتها. إنها تمارس دور الاله، والمطلوب من البقية العبادة.
من الواضح أن الشعوب العربية والاسلامية هي الخاسر الأكبر في هذه المعادلة، ولا أعتقد أن تجاوز هذه الأوضاع سيكون قريبا؛ لأن القوى الهجينة تقوم في سياستها على الاقتلاع من الجذور ونفي الآخر، ولما كانت، أي القوى الهجينة، تملك الوسائل العملية لتحقيق ذلك، وفقدان العالمين العربي والاسلامي لوسائل المقاومة الفاعلة، فباعتقادي أن الصراع سيطول، والثمن سيزيد. والمطلوب من الشعوب في هذه المرحلة هو حماية الذات والجوهر من خلال بعث القيم الحضارية الفاعلة في هويتنا العربية الاسلامية، وبثها من جديد في أبناء الأمة. فالمرحلة هي مرحلة تأكيد الذات وحمايتها، وليس تصديرها للاخر الذي لا يعترف بكيانها وأسسها الحضارية التي ارتضتها لشعوبها. وكل جهد لا ينحى هذا المنحى هو استنزاف للجهود والطاقات.