أنفاقنا وأنفاقهم
في مشهد تاريخي عز مثيله بين قادة العالم اليوم، يرفض الخليفة عمر بن الخطاب أن يصلي في كنيسة القيامة عندما دخل مدينة القدس فاتحا، خوفا من أن يتخذها المسلمون من بعده مسجدا، وبذلك ضمن للمسيحيين حقهم الديني في هذه الكنيسة التي لازالت حتى اللحظة محجا للمسيحيين من كل بقاع الأرض.
ولم تذكر كتب التاريخ أيضا، وفي الحادثة نفسها، أن الخليفة قد صادر أو صلى في كنيس يهودي في المدينة المقدسة، وذلك لسبب بسيط هو أنه لم يكن مثل ذلك الكنيس موجودا أصلا. وتقول الرواية التاريخية أيضا أن الخليفة اختار مكانا يبعد أمتارا معدودة عن كنيسة القيامة، وأمر بأن تزال الأردام الموجودة عليه، وتنظيفه ومن ثم بناء مسجد لايزال قائما يحمل اسمه حتى اللحظة. وبهذا الصنيع أسس هذا الخليفة الفذ مبدأ التسامح والتعايش مع المسيحيين، وضمن حرية الاعتقاد لكل من سكن هذه المدينة فيما يعرف تاريخيا " بالعهدة العمرية".
هذا ما يخبرنا به التاريخ حول بداية الحضور التاريخي للمسلمين في هذه المدينة المقدسة، ولننتقل إلى مشهد آخر لحظة دخول العصابات الصهيونية أو الجيش الإسرائيلي، فليس هناك فرق وإن اختلفت التسميات، إذ شرعت القوات الإسرائيلية بتدمير حي المغاربة، وطرد سكانه بشكل كامل، ثم شرعت بتأسيس وجود دائم لليهود في ذلك الحي لتثبيت حق موهوم في حائط البراق فضلا على سياسات الطرد وتفريغ السكان العرب من أحياء المدينة الأخرى، ومن بقي منهم أصبح عرضة للتضييق والتمييز العنصري .
كانت تلك البداية فقط للقضاء على الآخر بصرف النظر عن ديانته أكان مسلما أو مسيحيا؛ فكلاهما لا يساوي شيئا بالمقارنة بتفوق الدم اليهودي كما تنص عليه توراتهم منذ آلاف السنين.
ونتيجة لصمود المقدسيين في التمسك بحقهم الديني والطبيعي لجأ الصهاينة، بعد أن استنفذت القوة العسكرية المباشرة فاعليتها، إلى أساليب مراوغة تمثلت في تزوير الحقائق التاريخية و خدمة لسياسة التهويد واستئصال الآخر.
وعندما فشلت هذه الأساليب في تحقيق أهدافها الموضوعة لها أمام المنهج التاريخي المنصف، عمد الصهاينة من ضمن ما لجأوا إليه، إلى علم الآثار كي يجدوا ضالتهم، فقاموا بحفريات طالت المدينة بأكملها وعبر عشرات السنين تحت ذرائع مختلفة اتخذت أشكال كثيرة؛ منها ما كان علنيا بحجة التطوير والتحديث، وأغلبها اتخذ طابعا سريا يهدف إلى هدم الأماكن المقدسة بحثا عن تابوت سليمان تارة، وعن بناء الهيكل تارة أخرى.
حتى اللحظة لم تسفر هذه الحفريات عن اكتشاف أي دليل أثري لوجود ما يدعونه فضلا على وجود أي دليل للوجود اليهودي أصلا في تلك البقعة من المدينة المقدسة.
ولكن هذه النتائج لم تكن كافية للتوقف عن مثل هذه الأنشطة، فعمدت بعض الأحزاب الدينية المتشددة وبغطاء حكومي إلى حفر أنفاق بعضها معروف وكثير منها سري، والغاية منها هدم ما هو قائم من الأماكن المقدسة، ومن ثم بناء الهيكل لتصبح المدينة يهودية الطابع.
وآخر منجزات هذه الحفريات، ما تناهى إلى مسامعنا، عبر وسائل الإعلام المختلفة، انهيار مدرسة تابعة للأمم المتحدة في المدينة المقدسة، أدى إلى إصابة العشرات من تلاميذ المدرسة. قد يكون الخبر عابرا عند البعض، ولكنه في الحقيقة، يكشف العنجهية الإسرائيلية، وعدم مبالاتها ليس فقط بأرواح الأبرياء، وإنما يمثل صفعة أخرى للأمم المتحدة، ولكل دعوات حوار الأديان والتعايش.
تقوم بحفر هذه الأنفاق، كما قلت، أحزاب دينية ظلامية لا تؤمن بالتعايش واحترام الآخر، بل تسعى جاهدة إلى استئصاله من جذوره، وغاية هذه الجماعات المتطرفة هو إثبات شيء غير موجود على أنقاض حق رسخته الحقائق التاريخية والأثرية والدينية عبر مئات بل آلاف السنين.
تلاقي هذه الحفريات مباركة ودعما مباشرا من كل القوى داخل الحكومات الإسرائيلية المتتابعة منذ تأسيس اسرائيل، ولا نعدم تأييدا لهذه الأنشطة من بعض الدول الكبرى. ولا أفهم طبيعة المنطق الذي تستخدمه هذه الدول في نهجها هذا، وهي التي تفاخر بمبادئها القائمة على حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد والتعددية...
في المقابل، تتحول الكلمة ذاتها "الأنفاق" وتحمل المعنى نفسه، ممرات مفرغة تحت الأرض، واضطر الفلسطينيون إليها نتيجة الحصار الطويل الذي حولهم إلى رهائن تنتظر الموت في أية لحظة، تتحول إلى نشاطات إرهابية يجب تدميرها، وتشن حرب شعواء تتسلح بأعتى أنواع الأسلحة وأحدثها لتنفيذ تلك الغاية، فيقتل من يقتل ويشرد من يشرد.
إذا كانت أنفاق غزة رعشة الحياة في مواجهة الموت، فإن أنفاق المدينة المقدسة غدر الموت في كبد الحياة الأصيلة، وعلى كل صاحب ضمير حي على وجه هذه المعمورة أن يحسم موقفه ويتخذ مكانا يناسبه في معارك الأنفاق هذه.