الثلاثاء ٢٢ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥
بقلم عبد الله بن أحمد الفيفي

في الحِوار والشِّعر!

الجِدال جِدالان: جِدالٌ بالتي هي أحسن، وجِدالٌ بالتي هي أخشن. جِدالٌ حِواري، باحث عن الحقيقة، وجِدال مكابرة، ومغالبة، هادفٌ إلى الانتصار للذات والجماعة، بحقٍّ أو بباطل. ومعظم خطابنا الثقافي العَرَبي اليوم وبالأمس من هذا النوع الأخير. وأكبر كَسْب الإعلام العَرَبي- المادِّي والمعنوي- من هذه العقليَّة العُربانيَّة، ذات الحميَّة الجاهليَّة.

يُسوَّق ذلك تحت شعارات مُدَّعاة، مثل «الرأي والرأي الآخَر»، و«الحِوار»، و«حقِّ الاختلاف». ولا ريب أن الحِوار سبيل إلى كشف الحقائق، عبر المنهاج التداولي الديالكتيكي، الذي يحفِّز الأذهان في تلاقحها على الوعي المعرفي، وإدراك الأبعاد الفكريَّة وزوايا النظر المختلفة. وهو أمرٌ أعلى شأنه الفلاسفة الإغريق في حِواراتهم المشهورة؛ لما أيقنوا به من جدواه. لكنك إذا تأمَّلت المسرحيَّة العَرَبيَّة، أدركتَ أن لا «رأي ولا رأي آخَر»، بل هو رأيٌ واحدٌ مبيَّت، يعلو ولا يُعلَى عليه، ولا «حِوار» هنالك، بل خُوار، وهِراش، ونِفار، ولا إيمان بـ«حقِّ الاختلاف»، بل إيمان بحقِّ الاختطاف، لادِّعاء الحقيقة المطلقة، التي يعتقد كلُّ طرفٍ أنها تسري منه مسرى الدم! أمَّا آداب الحِوار، فحدِّث ولا حرج! وخير نموذج عليه مراقبة أداء المذيعين العَرَب، ما شاء الله تبارك الله!

هكذا هجم (ذو القُروح) ذات مساءٍ على ضيوفه! قلت له:

ـ أما وقد فتحتَ علينا باب النار هكذا، فدعنا نحاورك أنت!
ـ تفضَّل!
ـ أما لِلإشكال الذي تشير إليه جذورٌ ثقافيَّة؟
ـ ذكر (المسعودي)(1)، أنه كان من الأُمم المخلوقة قبل (آدم)، «أُمَّةٌ طوال، خفاف، زُرق، ذات أجنحة، كلامها فرقعة.» فلعلَّ هؤلاء من نسل أولئك!
ـ وإنْ كان للفرقعة عند أولئك معنى، ما دامت لُغة، وليست فرقعة فارغة، كبعض ما تسمع من أصحابنا!
ـ المذيع العَرَبي يُلَقْلِق غالبًا أكثر من الضيف، بل لا يترك للضيف أن يُكمل جملةً مفيدة؛ لأنه لا يفرِّق بين الحِوار على قناة تلفازيَّة والحِوار في الشارع، أو الردح في المقهَى؛ لينتهي الأمر إلى ضوضاء فظيعة، ترفع ضغط المتابع دون أن يخرج بفائدة. إنَّ المذيع في عالمنا العَرَبي لا يسمع ما يقال أصلًا، ولا يفهم ما يقوله الطَّرَف الآخَر، ولا يعنيه في شيء، وإنما جاء ليثرثر بما أعدَّه سَلَفًا أو أُعِدَّ له، حتى إذا أفرغ ما في جعبته، قال: «شكرًا»، فجأة، «داهمنا الوقت»!
ـ كأنك تقول: المذيع العَرَبي، غالبًا، لسانه متبرئٌ منه، وتلك اليوم مهارته الوحيدة للعمل في الإعلام!
ـ لا تدري كم نسبة المؤهَّلين منهم ليعملوا في الإعلام من الأساس؟ ومن جهة أخرى، فإنَّ ضيف الحِوار العَرَبي، إذا سُئل سؤالًا، يُفترض أن يجيب عنه في دقيقة، فَغَرَ فاه إلى أجلٍ غير مسمَّى، ولن يقفله، حتى يَشْرَق، أو ينقطع صوته، أو تصيبه أزمة قلبيَّة، أو ينقطع خطُّ الاتصال إذا كان عن بُعد، أو يفقد المذيع عقله، أو تنتهي الحلقة- لأنَّ الوقت دائمًا يداهم المذيع- وبالجملة حتى تحدث كارثة كونيَّة تُلجِمه نهائيًّا!
ـ يعجبني الإنصاف!
ـ يحدث هذا في إعلامنا، ومن ظنَّ أنَّني أبالغ، فما عليه سِوَى أن يقارن الحِوارات في وسائل الإعلام العَرَبيَّة وغيرها من الوسائل في العالم. وتلك ثقافةٌ قديمة؛ فلسان العَرَب المحيط ولا كُلُّ الألسنة! حتى في ساحات الجدال المذهبي الدِّيني بين المسلمين. مع أنَّ الجِدال منهيٌّ عنه، حتى مع غير المسلمين، إلَّا بالتي هي أحسن. لكنك راءٍ أقبح أساليب الجدال في هذا الميدان بخاصَّة. حتى لينتهي كثيرًا إلى التكفير، والتفسيق، والتبديع، والتشريك، والاستعداء، والاستقواء، ومن ثَمَّ هدر الدِّماء، تصريحًا أو تضمينًا.
ـ إِلامَ الخُـلْـفُ بَـيـنَـهُـمُ إِلامـا؟ ::: وهَذِي الضجَّةُ الكُبرَى عَلاما؟
ـ لأنَّ لوثة العصبيَّة لا شِفاء لها، عادةً، إلَّا بالكَيِّ من خلال القوانين التربويَّة والمدنيَّة. وغياب ثقافة الحِوار هو من عوامل غياب فنِّ المسرح في تراثنا العَرَبي.(2)
ـ «فَعَدِّ عَمَّا تَرَى إِذْ لا ارْتِجاعَ لَهُ»، وأفتني في أمري حول بعض ما يَشيع على شبكة «الإنترنت» من شِعر الشعراء المحدثين، ممَّا قد يكون أعجب ممَّا تجده من شِعر القدماء.
ـ ما الأمر؟
ـ أمور، منها قصيدة منسوبة إلى (الجواهري)، تبدو على ركاكة نظمها- قياسًا إلى شِعر الجواهري على الأقل- مضطربة الوزن. ولقد كنتُ أشكُّ أنها له، حتى وجدتُها في ديوانه «المحقَّق». وعنوانها «حَبَبْتُ الناس»، مؤرَّخة في 12/ 11/ 1965، (بُراغ).
ـ أوَّلًا، استعمال عبارة «حَبَبْتُ» كَرِهَ بعضُ اللُّغويِّين القدماء التعبير بها، وأنكروا أنْ يكونَ استعمالها لفَصيح، مثل قول (غَيلان بن شُجاع النَّهْشلي):
أُحِبُّ أَبَا مَرْوَانَ مِنْ أَجْلِ تَمْرِهِ ::: وأَعْـلَمُ أَنَّ الجَـارَ بالجَـارِ أَرْفَـقُ
فَأُقْسـمُ لَوْلاَ تَمْـرُهُ مَا حَبَـبْـتُـهُ ::: ولاَ كَانَ أَدْنَى مِنْ عُبَيْدٍ ومُشْرِقِ
ـ « أَرْفَقُ» و«مُشرقِ»؟ كيف يستقيم؟
ـ وكان (المبرِّدُ) يَرْوِي الشطر الأخير:
وكَانَ عِيَاضٌ منهُ أَدْنَى ومُشرِقُ
وعَلَى هذه الرِّوَاية لا يكون فيه إقْوَاءٌ. وحكى (سيبويه): حَبَبْتُهُ وأَحْبَبْتُه بِمَعْنًى.(3) وقد قال (المتنبِّي)، وإنْ لم يكن حُجَّةً في العَرَبيَّة:
حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأَى ::: وقَد كانَ غَدَّارًا فَكُن أَنتَ وافِيا
ـ ليس هذا موضع الشاهد في نصِّ (الجواهري)، غير أنه يمضي فيه هكذا:
حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:
والدنيا التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ للناسْ
حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:
في الطِّفل الذي لا ينسُبُ الناسَ لأعراقٍ وأجناسْ
إلى أن يقول:
حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:
في «الزنجيةِ» الحُلوةِ مَنْ لُفَّتْ وأهلوها بأكياسْ
حَبَبْتُ الناسَ والأجناسَ:
مَنْ شَبَّ، ومَنْ شابَ، ومَنْ أظلمَ كالفحمِ، ومَنْ أشرقَ كالماسْ
والنصُّ في ديوان الشاعر(4)، بلا تعليق من جامعي ديوانه ومحقِّقيه والمشرفين على طبعه، وهم فريقٌ من أربعة أساتذة، سبق أن توقَّفنا عند تقصيرهم في تدقيق نشرهم لديوان (الجواهري) في وقفةٍ سالفة! لم يكلِّفوا أنفسهم بسِوى تصدير النصِّ بالقول إنها «القصيدة التي تصدَّرت «ديوان الغُربة»، وبها إهداء إلى: مَن أحبَّ من الناس. نُشِرت في «بريد الغُربة»، وط67 ج1و2.»
ـ يا سلام! ما قصَّروا! ماذا تريد أكثر من هذا البيان؟!
ـ ولقد نشروا النصَّ بتنسيقٍ يوحي بأنه موشَّحة أو شِبه موشَّحة.
ـ هو في الحقيقة ليس بقصيدةٍ تناظريَّة، ولا بموشحة، ولا حتى بقصيدة تفعيلة، ما لم يجر عليه بعض التعديل. وإنَّما أُعجِبَ الناس بمعناه، وببعض أنفاسه الشيوعيَّة، فنشروه على عُجره وبُجره وأذاعوه، دون التفاتٍ إلى مبناه. ذلك أنَّنا إذا عددناه أهزوجة من (بحر الهزج)، لم يستقم؛ لأنَّ الهزج لا يأتي إلَّا مجزوءًا. وقد جاءت بعض أبياته على سبع تفعيلات، وبعضها على ثماني تفعيلات! وإذا عُدَّ من (البحر الوافر) المعصوب الحشو، لم يستقم كذلك، لا من حيث عدد التفعيلات، ولا من حيث دخول زحاف (الكَفِّ) في الحشو، وهذا لا يدخل إلَّا في حشو الهزج. ولو عُدَّ من قصيدة التفعيلة، لوجب أن تقام فيها التفعيلة الأخيرة في بعض نهايات أسطره، لتكون على هذا المنوال:
...التي يسمو على لذَّاتها الحبُّ لكلِّ الناسْ
...الذي لا يَنسُبُ الناسَ لأعراقٍ ولا أجناسْ
...ومَن أظلمَ كالفحمِ ومَن أشرقَ مثلَ الماسْ
ويبدو أنَّ تقييد جامعي ديوانه للقوافي هو عِلَّة هذا الخلل في الإيقاع. ذلك أنَّهم- كما يبدو- لاحظوا أنَّ القوافي لا تستقيم نحويًّا؛ فالشاعر واقع في الإقواء، بحيث يكسر قافيةً ويرفع أخرى، فقيَّدوا القوافي، تلافيًا لذلك العيب، واستراحوا. لكنهم بذلك أوقعوا النصَّ في عيوبٍ إيقاعيَّةٍ أشد. ولو أنهم أَمَرُّوا النصَّ بكسر الرَّوِيِّ لاستقامت تفعيلاته. غير أنهم سيواجهون (الإقواء).
ـ ماذا تعني؟
ـ سآتيك بالمعنى في المساق المقبل، بعون الله!

() (د.ت)، أخبار الزَّمان، تحقيق: عبدالله الصاوي، (بيروت: دار الأندلس)، 32.

(2) وفي المقابل، فإنك تلحظ الثقافة المسرحيَّة طاغية على الثقافة الغربيَّة الجماهيريَّة. حتى إن الجماهير ليصفِّق، ويصفِّر، ويتصايح، في التعبير عن الإعجاب، وإنْ كان في محاضرةٍ أكاديميَّةٍ جادَّةٍ يفترض فيها الوقار والهدوء! يفعلون هذا وكأنهم يشاهدون عرضًا مسرحيًّا أو غنائيًّا، لاعتيادهم على هذه الأجواء. وهو ما نستغربه نحن العَرَب في مقام كهذا ونستسخفه جِدًّا! ولذا فنحن لا ندري كيف كان العَرَب يتفاعلون مع قصيدةٍ تلقى في سوق عكاظٍ، مثلًا، أو في المربد، أو غيرهما؟ أكانوا يصفِّقون؟! نستبعد ذلك، ولم تَرِد به إشارة، على حدِّ علمنا. ذلك لأنَّ التصفيق، أو التصفيح- كما كان يُسمِّيه العَرَب- أو التَّصْدِيَة، إنما ارتبط ببعض الطقوس الدِّينيَّة، كما كان العَرَب يفعلون في طوافهم بالبيت، وارتبط في غير ذلك بالنساء، كما في التنبيه على السهو في الصلاة. ولم يَرِد في روايةٍ أنَّ العَرَب- لا قبل الإسلام ولا بعده- كانوا يحيُّون الشعراء والخطباء بالتصفيق. وأغلب الظنِّ أنها بدعة غربيَّة جاءت إلى العَرَب حديثًا. غير أنه يُستنتج من بعض الإشارات، أنهم كانوا يعبِّرون عن الإعجاب ببعض العبارات، مثل: إيه، أحسنت، لا فُضَّ فوك، ونحوها. وذاك مبحثٌ آخر، ساقنا إليه التأمُّل في ثقافتين، ثقافة مسرحيَّة وأخرى غير مسرحيَّة، تتبدَّى آثارها في أساليب الحِوار والتفاعل الجماهيري.

(3) يُنظَر: ابن سيده، المُحكَم والمحيط الأعظم، (حب)؛ ابن منظور، لسان العَرَب، (حبب).

(4) (1975)، جمعَه وحققَه وأشرفَ على طبعه: إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي وعلي جواد الطاهر ورشيد بكتاش، (العراق: وزارة الإعلام)، 5: 243- 244.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى