

صوت الحكمة
غابة كثيفة واسعة الأطراف، اسمها " غابة النفق المجهول"، تقع في وسط المدينة، وتحيطها من أربع جهات المناطق التي استوطنها الناس وعمّروها، وأصبحت الغابة لهم مصدرًا رئيسيًا للرزق والتكسب، وحقولهم ستموت جفافًا لو لم تكن الغابة احتضنت أشجارًا مورقة غنّاء وطويلة العنق، لأنّ بينها وبين السحابة السوداء صلة حميمة، وعلاقة عاطفيّة، الأشجار معشوقة تعشقها السحابة السوداء إلى حد التفاني، والأشجار ليست أقلّ حنينًا إليها، تصبح فرّاشة في حب السحابة، كلمّا تتراقص خصورها الهزيلة وتهتز لممها الجاذبة تبرز السحابة السوداء وتأتي إليها سابحة وتذوب حبًّا لها حتى ينزل منها الماء الغزير الذي يسقي الحرث والحقل.
خرجت كل فئة من الغنم والثور والقرد والأرنب والفأر إلى قصر زعمائهم، وترفع نعرات مختلفة: هلك الكلب، وخزي لزعمائنا وممثلينا، لن نقبل هذه المرة الأسد كملك علينا، نفدي أنفسنا بالحرية، وأصبحت نعراتهم تدّوي الغابة كلّها حتى تجاوزتها إلى الأنهار والبحار المجاورة.
تتقدّم شاحنة مصونة من الطين والآجر نحو الغابة، وتحملها أربعة ثيران على أعناقها، ويتدفق فيها الماء، فاندهش الجميع، وهرولت الحشود إلى مناطقها وملاجئها خوفًا من مكيدة يكيدها ضدّهم الملك الأسد بين حين لآخر.
نفخ ثور في البوق نفخا هلعت منه قلوب جميع الحيوانات، وصرخ قائلًا: لا داعي للقلق، اجتمعوا في مكان بعيدين من قصور زعمائكم، لقد نزل عليكم ضيف ذكيّ من النهر المجاور، وهو متخصص في علم السياسة وعلم النفس، وبارع في علم الأنساب التي ينتمون إليها، لا يوجد أذكى منها في دنيا الحيوانات، فطبتم وطابت حياتكم، لشرّفكم اليوم الضيف الشرف بقدومه من النهر المجاور.
وأخذوا يتهامسون بشكل مستمرّ دفعةً واحدةً مما خلق صوتًا كأزيز المرجل، فصرخ الضيف صراخًا فيه الهيبة الوقار وقال : يا أحبّائي وأعزّتي، اسكتوا ، واتركوا الهمس فيما بينكم، حضرت إليكم لكي أحادثكم، وأساعد كم في حل مشكلة وقعتهم فيها، ولا أعلم ما مشكلتكم؟ فليتقدم أحد منكم يمثّل الجميع.
ارتفع الصوت من جديد، وأخذوا يتناقشون حتى اختاروا في النهاية أرنبًا معروفًا بدهائه فيما بينهم، واسمه "مسعر".
أهلًا وسهلًا ومرحبًا بك حضرة الضيف الكريم، سعدنا بقدومك.
شكرًا لك، ما الذي حلّ بكم؟ لماذا تصرخون منذ الصباح صرخة متواصلة ؟ لماذا ترفعون شعارات مدوّيةً أزعجت المناطق المجاورة والقاطنين فيها؟
يا سيّدي المحترم، الحريّة مع الفقر أحب إلينا من العبودية مع الثروة.
لا تفلسف كثيرًا، ولا تضيّع وقتنا في حلّ لغزة تأتي بها، صارحني بما يزعجكم بدون اللجوء إلى اللغز.
منذ عدة قرون تسكن في " غابة النفق المجهول" خمس فئات من الغنم والثور والقرد والأرنب والفأر، ونحن نعمرها ونحافظ عليها منذ قديم الزمان، يحكم علينا ممثّل منّا نيابة عن الملك الأسد. ونحن نعتبر الأسد ملكًا أملًا في أن يكون لنا سندًا، ويحافظ علينا، ويصون أرضنا ومنطقتنا، ويدافع عن غابتنا، ولكنّه خيّب آمالنا عندما آوى فئة في منطقتنا الكلب الضاري الذي طرده الناس من المدينة، لأنه نهش كثيرًا من الناس، وسمح بالاستيطان في منطقتنا، وخصّص له منطقة قريبة من منطقة الغنم، ضيّق الحياة على الغنم بظلمه الذي يصّبه على الغنم، وضاقت الأغنام منها، حتى آل الأمر إلى أنّ الكلاب بدأت تهجم بين فينة وأخرى على الأغنام وتقتل صغارها ونسائها وتأكلها، وتجرح كبارها بأنيابها الحادة، ويجري كل ذلك بمرأئ ومسمع من الملك الأسد، و قدمّنا الشكاوي أكثر من مرة إلى الملك لكي يمنعها من الظلم على الأغنام، ولكن لم تحرّك تنهداتنا فيه ساكنًا، لأن الكلاب توفر للملك اللحوم الطازجة كل يوم، فطمعًا في المصلحة الذاتية لا يطبّق عليها القانون، لأنّ " غابة النفق المجهول" لها دستور جهّزته "مجموعة الحيوانات المتحدة"، وينصّ الدستور الخامس على أن الملك لا يسمح لأحد بالاستعداء على أحد، ولكن القانون كشبكة ينسجها عنكبوت، فتكون جدارًا هائلًا للحيوانات الضعيفة مثل القمل لا ستطيع أن يتجاوزها، ولكن القويّ يتجاوزها بدون أي تعب. فلذا قررنا جميعًا أن نخلع في هذه المرّة الملك الأسد من كُرسي الرئاسة، ونحلّ محلّه أحدًا منّا يحمي أرواحنا ويدافع عن حقوقنا. ولكنّ زعمائنا المحليين لم يكترث لنا، ومنعنا بالقوة من تنفيذ الأمر، وقبل زعيم كل فئة سيادة الأسد كملك، وخان شعبه. أليس هو منّا؟ ألا يجري في عروقهم دمُنا؟ كيف لهم أن يحتملوا الظلم الذي أصيبت به الأغنام، هل مات ضميرهم؟ أو فقدوا قلبًا يخفق بين جونحهم؟ هل فقدوا الأعراف التي ورثناها كابرًا عن كابرً؟ هل نسوا أسلافنا الذين أصبحوا نماذج للعدل، ولم يخضعوا رؤوسهم أمام الظالم، ولم يمنعهم عائق من قول كلمة حق عند سلطان جائر.
بينما يسترسل مسعر في الحديث ويطيل الكلام إذ قطع الضيف كلامه، وبدأ يضحك ضحكةً أدهشته، ثم قال: كم أنت غِرّ كريم وساذج يا مسعر، تغيّر الزمان، تتحدث عن الأعراف في زمان انهارت عمد الأعراف! وأصبحت قوائم التقاليد الاجتماعية واهنة.
ثم خاطب الضيف الجميع بصوت رفيع: أيها القوم، لا تنخدعوا بأن دمائكم ودماء ممثليكم واحد، ولا يغرّنكم أن ممثليكم ينحدرون من فئاتكم، ولا يخدعنّكم أن ممثلكيم يتديّنون بدياناتكم، ويتظاهرون بالالتزام بتقاليدكم، الملوك مهما اختلفوا في الديانة والعرق والنسب ملة واحدة، تجمعهم الشراكة في الظلم والاستعداء على الناس لأجل الحكومة والتمتع بما توفرلهم السيادة من الثروة الوفيرة. فسيروا على درب العاقل، واتركوا التيه في بوتقة السفاهة والحماقة، وتقبّل الواقع خير من الاسترسال في السفاهة.
فصاح الجميع مجتمعين وسألواه، ما اسمك أيها الضيف الكريم.
أنا الدولفين الحكيم.