

شهادات للبيع وترقيات بالرشوة
في عالم يُفترض أن تُبنى فيه الكفاءة والعلم على الجدارة، وأن تُمنح فيه الشهادات والترقيات بناءً على الجهد والمعرفة، تنخر الرشوة نسيج الثقة، وتُحول المؤسسات التعليمية والإدارية إلى أسواق سوداء يتبادل فيها نفوذ المال مقابل أوراق تحمل أختامًا أكثر مما تحمل محتوى حقيقيًا. لم تَعُد هذه الظاهرة حكرًا على الدول الهشة سياسيًا، بل أصبحت عالمية، تضرب أعمدة التعليم والإدارة حتى في أعرق المؤسسات الجامعية.
لقد شهد العقدان الأخيران تصاعدًا لافتًا في فضائح تتعلق بشراء الشهادات وتزوير المؤهلات والترقيات مقابل المال، مما كشف عن أزمة أخلاقية تضرب في العمق مصداقية الأنظمة التعليمية والإدارية على حد سواء. من الولايات المتحدة إلى نيجيريا، ومن دول الخليج إلى دول البلقان، يتكرّر المشهد: شهادات مزيفة، ترقيات مشبوهة، ووجوه تملأ الشاشات والمناصب بلا كفاءة تُذكر.
في عدد من الدول العربية، طفت على السطح فضائح مدوية تتعلق بتزوير الشهادات العليا وشراء الرسائل الجامعية. وقد أُثيرت قضايا علنية تورّط فيها أساتذة جامعيون وموظفون كبار ساهموا في ترويج شهادات مقابل مبالغ ضخمة، مما حوّل بعض الجامعات الخاصة إلى دكاكين تعليمية. إن الطالب الذي يدفع ما يكفي، يحصل على ما يريد دون كتابة سطر واحد أو اجتياز أي اختبار.
في الجزائر على سبيل المثال، كشفت تقارير صحفية عن استخدام شهادات مزورة للحصول على ترقيات في قطاع التعليم، كما ظهرت شهادات دكتوراه صادرة عن جامعات أجنبية وهمية.
أما في بعض دول الخليج، فقد ظهرت حالات لموظفين في قطاعات حساسة، كالطب والهندسة، يحملون شهادات من جامعات غير معترف بها. ففي إحدى الدول كُشفت شبكة كانت تصدر شهادات علمية مزورة مقابل المال، مما أدى لاحقًا إلى فصل عشرات الموظفين بعد تحقيقات رسمية، في فضيحة هزّت الرأي العام.
في الولايات المتحدة الأمريكية ، كانت إحدى أشهر الفضائح التعليمية سنة 2019، حين تفجرت قضية ما عُرف إعلاميًا بـ"فضيحة القبول الجامعي". وهي شبكة من الأثرياء والمشاهير، من بينهم الممثلتان فيليسيتي هوفمان ولوري لوفلين، دفعوا رشاوى وصلت إلى ملايين الدولارات لتزوير ملفات قبول أبنائهم في جامعات مرموقة مثل ستانفورد وييل. فالامتحانات كانت مزيفة، والمدربون متواطئون، والغاية واحدة: ضمان الوجاهة الاجتماعية باسم العلم.
في باكستان، التي هتزت العالم حين كُشف عن نشاط شركة "إيكزاكت" التي باعت آلاف الشهادات المزورة عبر الإنترنت لأشخاص من أكثر من 130 دولة. الشهادات كانت تحمل أسماء جامعات افتراضية أنيقة، لكنها بلا وجود فعلي. بعض الحاصلين على هذه الشهادات شغلوا مناصب حساسة في الحكومات والشركات، ما جعل الفضيحة أكثر من مجرد قضية تعليمية، بل خطرًا أمنيًا وأخلاقيًا.
في نيجيريا، أيضا فُجّرت فضيحة سياسية بعد اكتشاف أن عددا من كبار المسؤولين يحملون شهادات مشكوك في صحتها، حصلوا عليها إما عبر الرشوة أو من جامعات لا تملك الاعتراف الرسمي. والتحقيقات كشفت حجم التواطؤ بين السياسيين وبعض المؤسسات التعليمية داخل وخارج البلاد، ما دفع الشارع النيجيري إلى التشكيك في شرعية النخبة الحاكمة برمتها.
إن الشخص الذي يحصل على شهادة مزورة أو يترقى بالرشوة لا يسرق فرصة من غيره فحسب، بل يُعرّض أرواحًا ومؤسسات للخطر. تخيلوا طبيبًا بلا تكوين ولا علم، يُجري عمليات تُفضي إلى وفيات، أو مهندسًا مزورًا يُشرف على بناء جسور تنهار بعد سنوات ، أو قاضيًا غير مؤهل يُصدر أحكامًا جائرة. هذا ليس خيالًا، بل واقع تعيشه كثير من دول العالم الثالث في صمت قاتل.
كما أن المؤسسات التي تُدار من طرف "كفاءات مزيفة" تعاني من هدر المال العام، ورداءة الخدمات، وتكريس ثقافة المحسوبية، مما يُفضي إلى إحباط الكفاءات الحقيقية وهجرتها. فالترقية التي تُمنح مقابل رشوة لا تُقصي فقط من يستحق، بل تُكافئ الرداءة وتُعيد إنتاجها.
في ظل ضغط اجتماعي واقتصادي يدفع الأفراد إلى النجاح السريع، ومع ضعف الرقابة المؤسساتية وغياب الإرادة السياسية لمحاربة الفساد، تتحول الرشوة إلى وسيلة مختصرة وفعالة لبلوغ المناصب، دون المرور من بوابة الجهد والاستحقاق. لكن ما يبدو مسلكًا جذابًا هو في الحقيقة طريق نحو تفكك القيم، وانهيار الثقة المجتمعية، وانسحاب العدالة من الفضاء العام.
إن محاربة هذا الوباء الأخلاقي لا تحتاج فقط إلى قوانين زجرية، بل إلى إصلاح جذري لمنظومة التعليم والإدارة، يبدأ من المدرسة، ويُشرف عليه إعلام حر، وقضاء مستقل، ومجتمع مدني يقظ. لا يكفي أن نُدين الرشوة، بل علينا أن نُعرّي بنيتها الثقافية التي تُشرعنها، ونسائل الصمت والتكتم الذي يحميها، والأنظمة التي تغذيها.
في زمن تباع فيه الكفاءات وتُمنح فيه الشهادات مقابل المال، يصبح السؤال الملحّ: من يستحق الاحترام؟ هل نحترم من يحمل شهادة، أم من يُجسّد معناها الحقيقي؟ لقد آن الأوان لإعادة الاعتبار للمعرفة كقيمة، لا كديكور وكزينة. فالمجتمعات لا تنهض بالألقاب، بل بالجهد الصادق.
فهل نبني المستقبل على كفاءات مزورة؟ أم نعيد للعلم هيبته، وللكفاءة وزنها، وللضمير سلطته؟
السؤال مطروح، والإجابة تبدأ من هنا: من ضمير كل فرد، من قلم كل معلم، ومن نزاهة كل مسؤول.