بغداد على الصليب
بغـدادُ يا مُهْجتي يا نَبْضَ شريـاني | |
غَنّيتُ فيكِ مواويـلي بألحـاني | |
غنّيـتُ " تمّـوزَ " لمّـا ثارَ ثائـرُهُ | |
صيفًا فصارَ ربيعـاً مثلَ نيسـانِ | |
هاتي " الأبوذيَّـةَ "السمراءَ أعزفُها | |
عَزْفاً يفوقُ عزيفَ الإنسِ والجـانِ | |
وَرَدِّدي من "عتـابا" جاسمٍ فأنـا | |
مُتَيّـمٌ بعتـابـا فيـكِ تلقـاني | |
هاتي القصيدَ رُؤَىً من بابلٍ صَرَفَتْ | |
عنّي شديــدَ عذابـاتي وأحزاني | |
من عهدِ "جلجامشٍ" والشعرُ ملحمةٌ | |
فاقَـتْ ملاحمَ يونـانٍ ورومـانِ | |
و" جالغي بغـدادَ " يا بغدادُ أعشقُهُ | |
عشقًا أباحَ شَـذَى وَرْدي ورَيْحاني | |
بالدفِّ والجُنْكِ والسَّنْتورِ مُصْطَفِقاً | |
إيقـاعَ حُبِّــكِ في ترتيـلِ كُهَّانِ | |
من عَهْدِ" أنليـلَ " فيه الروحُ ساريةٌ | |
كالنهـرِ بينَ روابـي الرنْـدِ والبانِ | |
أختُ الرشيدِ وإني فيـكِ أذكرُها | |
وهي التي أقسمتْ بـي ليس تنساني | |
وكيفَ تنسَى الذى أهدَى حُشاشَتَهُ | |
شقائــقَ النعمـةِ الكُبرَى لنعمانِ | |
من كلِّ فينـانةٍ تهفــو برونقِها | |
في روضةِ الحُـبِّ والذكرى لفينانِ | |
بغـدادُ والصمتُ تعبيرٌ على مَضَضٍ | |
فإنْ صَمَتُّ فقلبـي مثـلُ بُـركانِ | |
عَلّقْتُ عودي ببستانِ الفُراتِ على | |
قوسٍ لنخلـةِ جُــوْدٍ قُطْفُها داني | |
وَخُضْتُ في دجلةٍ والشوقُ يغمرُني | |
بقُبْلةِ الشِّعْرِ من عطــفٍ وتحنانِ | |
كانتْ من المتنبّـي نِعْـمَ ما تَرَكَتْ | |
علـى جبينِ لقـائي حيـنَ حَيّاني | |
عفواً أباالطيِّبِ الكِنْـدِيِّ أنتَ لَظَىً | |
عَمَرْتُ من وَهْجِكَ الحرّاقِ وجداني | |
ديـوانُ شِعْرِكَ قد سطّرْتُهُ شَغَفـاً | |
حَرْفاً بحـرفٍ وما سَطَّرْتُ ديـواني | |
ورحتُ أحفـظُ من آياتِــهِ عَجَباً | |
يما تضمَّـنَ مـن سِحْـرٍ وتبيـانِ | |
أدهشْــتُ كلَّ الأُلى عَلَّمْتُهمْ وبـه | |
لم ألْـقَ طالبَ شِعْـرٍ غيرَ دَهْشانِ | |
به عَدَوْتُُ بميدانِ القصيدِ على | |
مُهْـرٍ أصيـلٍ وما قصّرتُ ميداني | |
وَرُحْتُ أهمـي بوادي الرافدينِ لَدَى | |
حُلْـمٍ أثيـرٍ بهِ كَحَّـلْتُ أجفـاني | |
نَهْرانِ كمْ رَدَّدا للمجـدِ أُغنيــةً | |
كانـتْ نشيــداً لقحطانٍ وعدنانِ | |
سُقِيْتُ عذبـاً فراتــاً من عيونِهما | |
كدمعةِ الـزِّقِّ أُسقــاها بفنجانِ | |
وقد شكـرتُ ولا مَنٌّ لفضلِهمــا | |
والفضـلُ وافٍ ولا يُوفيـهِ شُكراني | |
لكنَّ من جَحَــدوا بغدادَ أعرفُهم | |
بهـم شقيـتُ بنو عمّـي وإخـواني | |
قد أنكروا العيشَ والملحَ الذي أكلُوا | |
جَـْورًا ، كأنّهُمُو ليسـوا بجيـرانِ | |
تَقَمّصُوا الغَـدْرَ واسْتَعْدَوْا أعاديَهم | |
على شقيـقٍ جزَى شرّاً بإحسـانِ | |
يا نَحْسَ ما جلبُوا يا تَعْسَ ما ارتكُبوا | |
بما تمخَّـضَ من حِقْـــدٍ وشَنْئانِ | |
سَحْقـاً لقَـادتِهِمْ مَحْـقاً لسَادتِهِمْ | |
وإنّهُمْ وُلِـدُوا بالفُجْــرِ من زانِ | |
هُـمْ يخضعونَ ، عبيـدٌ للألى طَمِعُوا | |
في النفـطِ نهباً وفي خيراتِ أوطاني | |
فمَنْ أُعَـدِّدُ من أشــرارِهِمْ وَهُمُ | |
كُثْرٌ وقد أُسقِطُوا من كلِّ حُسبانِ؟! | |
إنْ خانَ" يُوْضاسُ" عيسى حينَ أسلمَهُ | |
بفضّـةٍ وانثَـنى في زِيِّ نَدْمــانِ | |
فقد غَرِقْـتُ أيا بغـدادُ في عَجَـبي | |
إذْ فيكِ مليـونُ يوضاسٍ وخَـَوّان | |
لكنَّهمْ يا لَهَــوْلِ الخَطْـبِ مانَدِموا | |
فَلْـيُلْعَنُوا عَلَنــاً من كلّ لَعّـانِ | |
وفيكِ مليـونُ جاسـوسٍ لمن وَلَغُـوا | |
في دَمِّ من جابَهوا مليـونَ سَجّـانِ | |
بَثُّـوا شياطينَهـم في كلِّ زاويــةٍ | |
فأينَما سِرْتَ تُبْصِـرْ وَجْـهَ شيطانِ | |
بغدادُ شُدّي بحبـلِ الصبرِ وانتظـري | |
هم يعمهــون بتضليلٍ وطُغيـانِ | |
لا تيأسي فالمسيحُ السَّمْحُ قد خُضِبَتْ | |
أضلاعُهُ بالنجيـعِ الأحمــرِ القاني | |
حتى إذا شمسُــه أضحـت أطلّ بها | |
فوق الصليـبِ فألقى سيفَهُ الجـاني | |
فإن صُلِبْتِ فإنّ الصَلْـــبَ آخرُهُ | |
دَحْرٌ لمن قد أتى جهــراً بعـدوان | |
طوبى إليك وفيكِ الشعـبُ ذو سَهَرٍ | |
يقظانُ أيقظُ من "حيِّ بنِ يقظـانِ" | |
قد ثارَ في وَجْـهِ من جاءُوا بِحُجَّتهم | |
كِذْباً وتدجيلُهـم تدجيلُ عُـوْران | |
ومن تألَّـــهَ منهـم باتَ في عَتَهٍ | |
وغِرَّةٍ فهـو و"النّمْـرودُ " سِيّـانِ | |
وَرُبّ بَرْغَشَـــةٍ آذتْ مسامعَـه | |
فصارَ في حـالِ مصروعٍ ويأسـانِ | |
فالسِّحْـرُ صارَ على السَّحّارِ مُنقلباً | |
والشّـرُّ عـادَ عليـهِ وهـو شرّانِ | |
فاستبشري النّصرَ والأيّـامُ قادمـةٌ | |
بهِ إليك ، وعنـدي ألـفُ بُـرهانِ | |
فذي فِـيَـتْنامُ ماهانتْ وما وَهَنَتْ | |
وفَـرَّ أعـداؤُها منهـا كجِـرذانِ | |
بغدادُ والشعــرُ بي قد قال كِلْمَتَهُ | |
وإنّ حبَّـكِ دربَ الشّـوكِ مشّـاني | |
رضيتُ بالشّوكِ كي أحظى بجنةِ من | |
صانُـوا العهـودَ لحامي البيتِ والباني | |
أنتِ المنارةُ يا بغـــدادُ من قِدَمٍ | |
غنّيـتُ مجـدَك في ترتيـــلِ قرآنِ | |
فأن سألتِ أيا بغــدادُ عن صفتي | |
فإنمـا بـكِ قد أعلنتُ إيمــــاني | |
والمَرْجِعِيَّةُ عندي بالرّجــوعِ إلى | |
حُبِّ العــراقِ ومنْ بالحُـبِّ سَـواني | |
إني الإمام ُلمن يهوى العــراقَ أنا | |
مـن العـراقِ وعِـْرقي منـه عِرْقان | |
عِـْـرقُ الثقـافةِ تغذوني بنعمتِها | |
وعـرقُ أصلي ، وعرقي منه جَيْـلاني | |
أني لعينيــكِ يا بغـدادُ فامتحني | |
صدقي لديكِ وإنّ الصـدقَ نجّاني | |
تُيِّمْتُ فيــك وإن الحبَّ أسكرني | |
حتى رقصتُ وإن الرقـصَ أعياني | |
لولا بقيـةُ عقــلٍ بي سقطتُ لَقَىً | |
من شدةِ الوَجْدِ أو مَزّقتُ قُمْصاني | |
يا نوبةَ الوَجْـدِ ألقي بي على شَغَفٍ | |
بمن يُغنيّ ومن بالشـوقِ أغنـاني | |
أنا حنيــنٌ إلى [زِرْيـابَ] أسمعُهُ | |
في يومِ أنْ كانَ أُستـاذاً ببغـدانِ | |
رَفْـرِفْ بقلبي أيا زريابُ ها أنا ذا | |
أعلّمُ الطيرَ شدواً فـوقَ أغصـانِ | |
من الجليــلِ أنا شَجْـوٌ وناصرتي | |
تعتـزُّ بي ناصـرًا أهلي وخُـلاّني | |
شِعْري نَمَتْـهُ فلسطيـنٌ تُوَشِّحُـهُ | |
زهورُ حُبٍّ غَدَتْ تزهـو بأفنـانِ | |
مُضَمَّخاتٌ وذي ألوانُها اقْـتُبِسَتْ | |
من بيرقٍ في سماءِ القـدسِ سَهْرانِ | |
في أرضِ تيـنٍ وزيتـونٍ وقد نزلتْ | |
لأهلِـها سُـوَرٌ من عهـدِ كنعانِ | |
بهم قد اتـّصَلَتْ قِدْماً وما انفصلتْ | |
عنهمْ وقد نَصَلَتْ أرضاً بسُـكّانِ | |
هم انْصِلاتٌ إلى استقـلالِ دولتِهِمْ | |
فليتَها حَصَلَتْ في طَبْـقِ أجفـانِ | |
كوني فكانتْ وشعري نارُهُ انقدَحَتْ | |
كقدحِكَ النـارَ من زَنْـدٍ بصَوّانِ | |
كنارِ بغـدادَ لمـا رُحْـتُ أجمعُهـا | |
بنارِ شِعْــــريَ نيراناً بنيـرانِ | |
لأهلِ بغـدادَ إنّيْ رافــعٌ عَلَمـاً | |
أللهُ أكبرُ قـد ضَمَّـاهُ نَجْمــانِ | |
لأهلِ بغــدادَ إني منشــدٌ أملاً | |
ومُعْلِــنٌ لجميـعِ الناسِ إعـلاني | |
إنّ العــراقَ عراقـي مَنْ يُسالِمُهُ | |
مسالمٌ ليْ ومن عَــاداهُ عــاداني |
هوامش ومفردات
– المواويل : مفردها موّال فنّ من فنون الزجل المغنّى وأشهرها الموّال البغداديّ .
– الأبوذيّة :لون من ألوان الزجل يقال بنفس شروط بيت العتابا يختم بهاء كقولك الحميّه ، الرديّة ، البليّه .
– جاسم : هو جاسم الجبوري من الجزيرة الفراتيّة ، أشهر من غنّى العتابا في بلاد الرافدين حتى قيل عتابا جبورية .
ملحمة جلجامش : أقدم ملحمة شعرية بابلية أكتشفت على ألواح مسماريّة .
– جالغي بغداد : كلمة جالغي تركيّة تعني جماعة المغنين ، وتعني بالمصطلح العراقي حفلات غنائية موسيقيّة ، لها تقاليد خاصّة ، كانت ولا تزال تقام في بغداد ، وأدواتها الموسيقية السنطور والجوزة والدنبك والدفّ والنقّارة .
– أنليل:كبير آلهة الكلدانيين.
– يوضاس : هو يهوذا الإسخريوطي أحد تلاميذ المسيح الأثني عشرة وقد قبض ثمن تسليم معلمه إلى أعدائه ثلاثين من الفضة ، فماذا قبض يا ترى اليوضاسيون العراقيون وغير العراقيين ثمن تسليم بغداد والعراق ؟
– حيّ بن يقظان بطل قصّة فلسفيّة رائعة عند ابن طُفيل وابن سينا والسهرُورديّ ، وقد تخلّق حيّ بن يقظان من طينة بقوة الطبيعة ، وحنّت عليه غزالة فأرضعته ، واستطاع بقوّة عقلة وتأمّله بلوغ أقصى درجات المعرفة .
– النمرود : ملك جبار ادّعى الإلوهية فكان عقابه أن دخلت برغشة (حشرة دقيقة جدا)أذنه ، وظلّت تزمزم إلى أن قضت عليه .
– الجيلاني : هو الشيخ الأكبر ، والإمام الزاهد عبد القادر الجيلاني (1077ـ 1166) من كبار الصوفيين .مؤسّس الطريقة القادرية عاش في بغداد ومقامه شهير فيها . من آثاره " الفتح الربّاني " ، " الغُنْية لطالبي طريق الحق" ،" فتوح الغيب " .
– زرياب : أكبر موسيقيّي بغداد أخذ الغناء عن إسحق الموصلي ، ورحل عن بغداد بسبب مؤامرة عليه لتفوّقه، وعاش في الأندلس وقد جلب معه تقاليد موسيقى بغداد وحضارتها توفِّي نحو845 م. وزرياب في اللغة اسم لطائر.
– نصلت: برزت.
– انصلات : عدو سريع .
مشاركة منتدى
13 كانون الثاني (يناير) 2006, 03:09, بقلم دكتور يوسف حنّـا
كدنا أن ننسى الكلاسيكيّة ولكن قصيدة سعود الأسدي بأسلوبه
الحداثي الكلاسيكي تظلُّ شعراً أبدياً لشاعر فلسطيني كبير
وعملاق .
فيها صدق العاطفة والإنتماء الى العروبة عامة والى العراق
خاصة , كما يتبين من نصها , وتبرز فلسطين الجريحة في أمل
الحريّة المقبلة والدولة العتيدة
عرض مباشر : قصيدة رائعة من شاعر رائع