المقاربات الصورية للخطاب: الدلالة والمنعطف الديناميكي
من الضروري الإشارة إلى أن التحليل النقدي للخطاب ليس نظرية متجانسة وموحدة، وليس منهجا محدد الملامح، بل هو مجال اشتغال مفتوح ومتعدد المقاربات ومختلف التوجهات. وإذا كانت المقاربات التي استعرضتها إلى حد الآن قد وفرت إطارا نظريا لصياغة محتوى المفهوم الحديث للخطاب من حيث هو موضوع ممارسة اجتماعية متقاطعة مع المضمرات الإيديولوجية ذات الصلة بقضايا السلطة والهيمنة والمصالح والمواقع الاجتماعية، فإن هناك مقاربات أخرى في التحليل النقدي للخطاب، وهي المقاربات الصورية. ونظرا لأهمية المنظور الذي تقدمه هذه المقاربات، ونظرا كذلك للمتطلبات المنهجية التي تقتضي وضع مفهوم الخطاب ضمن مشهد نظري متعدد الأبعاد، لا بد من الوقوف عند بعض هذه المقاربات الصورية للخطاب.
لا شك أن أحد التطورات التي حصلت في حقل الدراسات اللسانية في العقود الثلاثة الأخيرة هو إدخال مفهوم الخطاب إلى مجال علم الدلالة الصورية la sémantique formelle. وهكذا حصل تطوير بعض الأبحاث في هذا الاتجاه، وتبلورت في شكل مقاربات نظرية ناضجة منذ بداية التسعينيات:
نظرية تمثيلات الخطابla Théorie des Représentations du Discours/Discourse Representation Theory (DRT) (كامب – 1981م، كامب و ريل – 1993م)،
ونظرية تغيرات السياق FileChange Semantics/la théorie des changements de contexte (هايم 1982م، 1983م)،
والمنطق الإسنادي الديناميكي Dynamic Predicate Logic (غرونندك وسطوكف، 1991م)،
وعلم دلالة التحديثات Update Semantics/la Sémantique des mises à jour (فيلتمان، 1990م).
تتميز هذه المقاربات بخاصيتين اثنتين هما: أولهما أنها ذات صلة باللسانيات الصورية، وتنطلق من تنظيرات فريج ومونتاغ Montague، وثانيتهما أنها تغير منظور التحليل اللساني عبر التركيز على المكوِّن الدينامي للخطاب. أما الفكرة المركزية التي تشترك فيها هذه المقاربات فهي النظر إلى الدلالة بوصفها عملية بناء داخل السياق، وأن تأويل جملة معينة من أجل الوصول إلى دلالتها يعني استعمال تلك الجملة من أجل تحديث معلومة سابقة عبر خلق سياق جديد منفتح على تحديثات لاحقة. ومعنى هذا أن سيرورة بناء الدلالة تتدرج وفق عملية من التحديثات المتلاحقة التي تتخذ من الجمل السابقة وحدات تحديث لاحق ومتلاحق للمعنى.
أما على المستوى العملي، فتتميز هذه النظريات بالتركيز –تحديدا- على معالجة التعابير والملفوظات في ضوء علاقتها الجوهرية بالسياق: تباين محدد/ غير محددcontraste défini / indéfini، العائد القبلي anaphore (ذو الصلة بالضمائر أو بالزمان)، السياقات التوجيهية contextes modaux، الاقتضاءات présuppositions، وبلاغة علاقات الخطاب rhétorique des relations de discours.
وعلى أساس هذه العناصر، تهتم هذه المقاربات الصورية للخطاب بالتأويل بوصفه سيرورة متجذرة في السياق؛ وبذلك تعيد هذه المقاربات تحديد العلاقة التقليدية بين علم الدلالة والتداوليات، وبدل السؤال التالي: "ماذا تعني الجملة (المكوَّنة من أشكالها المركَّبة وفق هذه الصيغة من التركيب أو تلك) في السياق؟"، تطرح هذه المقاربات سؤالا آخر هو: "كيف تُؤوَّل الجملة (المكوَّنة من أشكالها المركَّبة وفق هذه الصيغة من التركيب أو تلك) في هذا السياق الذي يُبْنَى فيه الخطاب؟". وهكذا تقود مفاهيم التأويل، والمستعمِل l’utilisateur، والسياق، والخطاب إلى إدراج علم الدلالة في القضايا ذات الصلة بالتداوليات.
أما سمة "الدينامية" المميِّزة لهذه المقاربات، فتتمثل في أن ما يهم ليس تقديم تأويل تام للجملة عبر تحديد النماذجles Modèles التي تُختَبر مصداقيتها (المقاربة السكونية approche statique)، بل التركيز على ما لا يمكن الإمساك به، وهو قدرة بعض التعابير اللسانية على خلق بعض سياقات الخطاب واستثمارها. وعلى سبيل المثال، لنأخذ الجملة التالية:
سقطت تسع كُرَاتٍ Neuf des dix billes sont tombées
لا يمكن تأويل هذه الجملة التالية تأويلا صحيحا بالقول إنها قد اخْتُبِرَت في وضعية توجد فيها عشر كرات، سقطت منها تسع، وبقيت واحدة دون أن تسقط مثل الأخريات. لكن يجب أن يركز تأويل هذه الجملة على ما يتضمنه هذا التحديد، وهو أن ضمير (هي) لا يمكن استعماله في هذه الجملة للإحالة على الكرة التي لم تسقط، والتي لم تُذكَر تماما في الخطاب.معنى هذا أن الأمر يتعلق برصد المشيرات التي توجد في الخطاب لكن في شكل عناصر مُضمَرة وغير مصرَّح بوجودها فيه.
ومن الناحية التاريخية، تتخذ هذه المقاربات الصورية للخطاب مرجعيتين في مجال الدراسات الصورية للخطاب، وتزاوج هاتان المرجعيتان بين الدلالة وتبادل المعلومة: تتمثل المرجعية الأولى في الاستنباط الطبيعي la déduction naturelle (براويتزPrawitz ، 1965م)، وتتمثل المرجعية الثانية في المنطق الديناميكي la logique dynamique الذي تم تطويره من أجل صَوْرَنَةِ formaliser علم دلالة لغات البرمجة (هاريلHarel 1979م).
وعلى سبيل التوضيح، من أجل وضع هذه النظريات الصورية للخطاب في سياقها النظري، لابد من استحضار المعطيات التالية: في التقليد المنطقي-الدلالي the logical-semantical tradition غالبا ما تتطابق دلالة الجملة مع شروط الحقيقة truth conditions ذات الصلة بالوضعية التي وردت فيها، ولذلك من أجل معرفة دلالة الجملة لا بد من معرفة الظروف التي تكون فيها تلك الجملة صحيحة أو خاطئة. لكن في أغلب المقاربات التي حصل تطويرها مؤخرا، تتطابق دلالة الجملة مع إمكانيات تغير السياق context change potential: معرفة دلالة الجملة تعني معرفة كيف تغير هذه الجملة السياق.
وبالنظر إلى القيمة النظرية والمعرفية الكبيرة لهذه النظريات الصورية للخطاب، سأحاول أن أتوقف في مقال قادم إن شاء الله –إذا سمح الوقت بذلك- عند هذه النظريات لأنها ليست معروفة في المشهد اللساني والخطابي العربي. وسأتوقف حينها عند أربع نظريات صورية للخطاب هي:
1 - نظرية تمثيلات الخطابla Discourse Representation Theory (DRT)/ La Théorie des Représentations du Discours (كامب – 1981م، كامب و ريل – 1993م)؛
2- ونظرية تغيرات السياقFileChange Semantics/la théorie des changements de contexte (هايم 1982م، 1983م)؛
3- والمنطق الإسنادي الديناميكي Dynamic Predicate Logic (غرونندك وسطوكف، 1991م)،
4- وعلم دلالة التحديثات /Update Semantics la Sémantique des mises à jour (فيلتمان، 1990م).
(يتبع)
