المفاهيم القيمية للتشريع
منذ ظهورالبرلمانات لتصبح مراكز للتشريع بعد ظهور عصور التخلي عن الشريعة السماوية، والانسان يحاول جاهدا ان تصبح شرائعه الوضعية قريبة من الشريعة السماوية التي اتصفت على الدوام بالشمولية والكمال المطلق تماثلا مع مبدعها الحق سبحانة، وحيث ان الشريعة تمثل لطفا الهيا من الخالق الى المخلوق فانها جعلت لتقيِِم وترتب علاقات الانسان وحاجياتة وتنظيمها وفق نظام لايغفل حاجيات الانسان اليومية وعلاقاتة بالموجودات حولة، ومنذ البدء هدف التشريع الاسلامي الى تأكيد التوازن بين ما هو مادي، وما هو روحي، اضافة الى تاكيد ما قبله العقل الراشد، ومن هنا اكتسبت الشريعة الاسلامية اهميتها واستمراريتها اعتمادا على مفهوم الوسطية والاعتدال (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) البقرة/143، ولما كانت التشريعات الوضعية (البشرية) تحاول الاقتراب من الصيغة الالهية -مع استحالة الامر طبعا اذ لايمكن ايجاد اية مقاربة بين ما هو الهي وبين ماهو بشري- الا ان التشريع ايا كان مشرعه فانه يكتسب قيمتين:
اولا: قيمة ذاتية: ترتكز اهميتها على مصادر التشريع، وهل انها تكتسب قيمتها من المشرع؟. وفي الشرائع السماوية يكون هو الله عزوجل باعتباره المشرع الاول.
ثانيا: قيمة جعلية: يقول الحق سبحانه (واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة) البقرة/30، والخلافة الالهية تخويل الهي لافراد مخصصين من بني آدم للحكم في الارض -الانبياء والرسل والاوصياء او الائمة عليهم جميعا الصلاة والسلام- ويتضمن هذا الجعل اختيارا الهيا وتخويلا بالتشريع على ان لايخرج عن المصدر الهي، وبذلك كانت السنة النبوية الشريفة وسنة أهل بيت النبوة مصدرا رئيسا من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم.
ولما كان من البديهي انه لايمكن ايجاد حالة من المقاربة بين التشريع الالهي والبشري، فان الاخير اما ان يتراجع لصالح الاول، او ان يجد حالة من التقارب معه، ومن هنا فان ايجاد تشريعات وقوانين حالية يجب ان ترتكزعلى جملة من المباديء اهمها:
1 - الغايات التي من اجلها يوضع القانون.
2- الاهداف التي سعى اليها.
3- النتائج المتوخاة من التشريعات.
وهكذا على الشارع ان يدرك ان الشرائع والقوانين ماهي الا معايير للسلوك الانساني تميز بها الانحرافات، ولهذا كانت قيمة الشريعة من قيمة المشرع، وهنا لايمكن الاتكال على الذات كليا، فعلى المشرع البشري ان لم يكن معصوما ان يستعين بتجارب الاخرين او بالثوابت وصولا الى الامثل، والتاريخ البشري يشهد ان كل المشرعين الذين اهملوا الشريعة السماوية آلت تجاربهم الى الفشل الذريع، فالشرائع السماوية قد اغنت تاريخ البشرية على الدوام، ورفعت الكيان البشري الى مستويات عليا ولولا الانحرافات التي احاطت بها لكان الجنس البشري اليوم يرقى الى عالم لامتناهي من المعرفة والتقدم الحضاري.
وفي الوقت المعاصر ثمة محاولات لتحقيق توافق بين ماهو مدني وما هو طبيعي ومنذ ظهور عصر النظام الليبرالي بحدود القرن التاسع عشر الميلادي بعد ان اعتنق مجموعة من المفكرين الاسبان المباديء الدستورية البريطانية وتم تاسيس الحزب الليبرالي سنة 1810م شاع المصطلح الذي دعى رواده الى ايجاد نظام نيابي يكرس الحريات الثلاث الفكر، التجارة، والملكية الخاصة. فمنذ ذلك الوقت والقوانين تشرع في كل مكان لتحقيق هذه الغايات الثلاث دون حساب امكانات النجاح والفشل، ودون الاخذ بالاعتبار انه هل يمكن تطبيق هذا النظام على جميع شرائح المجتمع، وهل يمكن اخضاعها له دون ان تظهر نتائج سلبية او معوقات؟ من المعلوم ان حسابات من مثل هذا النوع لم تؤخذ على محمل الجدية ولهذا ظهرت حالات الصراع الاجتماعي التي هي في الواقع نتاج لفشل التشريعات.
قلنا انه يمكن الاستفادة من العناصر المختلفة في التشريع، كما يمكن الافادة من تجارب الاخرين، لكن في حالات القوانين التي تمس جماعات بشرية تتمتع بخصوصية شديدة كالمجتمع العراقي على سبيل المثال، فان التشريعات القانونية يجب ان تاخذ بنظر الاعتبار الخلفيات الدينية والعقائدية والمذهبية لكل جماعة اضافة الى الاثار التاريخية التي شكلت ذهنية المجتمعات، فلا يمكن فصل التاريخ الاجتماعي عن التاريخ الديني في مجتمع مثل المجتمع العراقي، ومن هنا يمكن الاعتماد على الدراسات الابستمولوجية المساعدة في التاسيس لمفاهيم التشريع، كما انه من الاجحاف تجاهل طبوغرافية المنطقة لكل جماعة بشرية، فالقوانين التي تصلح لسكان الصحراء ليست مثل تلك التي تصلح لساكني الجبال. فالعلائق متشابكة بين الانسان والبيئة، والكيان الانساني يمتاز بتنوعه وتعدد اتجاهاته على الرغم من انه يعود خلقا الى اصل واحد وهذه حكمة الهية في منشأ الخليقة ذكرتها في دراستي الموسومة (فلسفة خلق الانسان) . ولاجل هذا كانت عملية التشريع عملية تراكبية وتراكمية في آن واحد فهي متعددة المصادر وتحتاج الى عامل الزمن لتحقيق غاياتها، ولا ادل على ذلك من الشرائع السماوية التي جعل الله عز وجل لها زمنا لتتكامل في عصر كل نبي ورسول، كما جعل لها زمنا لتظهر نتائجها على المجتمعات البشرية.
وبالنهاية فان اجمالي قيمة التشريع ينصب في تحقيق معنيين رئيسين: سعادة الانسان وتوفير النظام، والتشريع البشري على قصورة يحاول ضبط هذه القيم في قوالب يسعى الى ان تقارب الغايات التي وضع من اجلها، على اعتبار انه ثمة ترابطا بين السعادة والنظام في محاولة لعدم التناسي ان هذا الترابط عضوي وليس كيفيا، وهنا تكمن الحاجة الى الدراسات الابستمولوجية التي اشرت اليها سابقا، فالشارع يجب ان يكون شموليا وموسوعيا في التفكير، كما انه يجب ان لا يتخلى عن المفاهيم الاخلاقية التي يتميز بها كل مجتمع عن الاخر، فما هو اخلاقي هنا قد لايكون كذلك في مجتمع آخر، فالقيم الاخلاقية لكل شريعة تتجلى في حالة التوازن بين حاجيات المجتمع والنتائج المتوخاة من التشريع، وهذه العملية يمكن التاصيل لها عبر مفاهيم قيمية للعلاقة بين المجتمع وحركة التاريخ وصولا الى تركيبات النص التشريعي.