الفنان أحمد جواد صانع الفرح الثقافي
حتى عهد قريب كان ذلك الفضاء الخلفي لمسرح محمد الخامس بالرباط، يهدي مزيدا من الفرح والبهاء لآل الانكتاب والاحتراق، كان " نادي الأسرة " وعلى امتداد الأسبوع تقريبا يشكل مساحات استثنائية من زمن الرباط الكئيب، كان سمرا وألقا في مدينة شاخت قبل الأوان، يعيد لدقائقها الميتة أنفاسا من الإبداع، تبعد عنها، ولو لبعض وقت، مسحة الحزن والصقيع .
حتى عهد قريب كانت صناعة هذا الفرح الثقافي بالنادي إياه من توقيع الفنان أحمد جواد فتى الجديدة المهووس بالمسرح والكتاب، ذلك الفتى الذي آمن بالمسرح إلى حد الاعتصام والإضراب عن الطعام، لما أراد أباطرة المسخ الإسمنتي حرمان المدينة من منشأة تاريخية يفوح منها عبق الفنون الجميلة .
في مغرب الانتفاضات والشهداء الذين أسماهم الصدر الأعظم الأسبق بكل خسة "شهداء كوميرة"، كان أحمد جواد يمارس الشغب الفني في أحضان مسرح الهواة، كان يلتقط إبداعات الرائعين من أمثال محمد تيمد ومحمد مسكين وحوري الحسين الراحلين هباء في وطن لا يعز فيها المسرح والمسرحي، كان يعتصرها في الأعماق المكلومة، بعد أن يكون قد انقطع قبلا إلى الشعر والجمال، يعيد صياغتها من جديد، يخلط أوراقها، يقلب مواجعها، ويحملها إلينا أدوارا صادقة بغير قليل من الحب والامتياز .
لقد هاجر إلى المسرح، حالما دوما بمسرح جدير بالإنسان، بمسرح منتصر للهموم والآمال، بمسرح ملتزم حد النبل والمثال، لكن الصفعة كانت قوية لما تناه إلى القلب قبل السمع خبر الهدم والخراب، إنهم يريدون مسخ المدينة، فالمسرح والفكر ترف لا مكان له في حسابات الذي هم فوق من مالكي وسائل الإنتاج والإكراه، لم يجد وهو الشاب المعطل المهموم غير الوقوف بجسده النحيل في وجه آلة التخريب، اعتصم قبالة المسرح البلدي وقال لا في شرط لا تتعالى فيه إلا يافطات ال " نعم " .
المسرحي فيه سيأخذه مرة أخرى نحو مسرح الرباط، سيعانق حينها الرائع أحمد جواد هموم الإبداع وحرائق المبدعين، سيصادق الكثيرين من الرموز، سينتصر لكل التائهين والغارقين في الفوضى واللامعنى، إنه القادم من منطقة عانت الكثير منذ البدء، فمن يذكر أن دكالة تعرضت للتنكيل في زمن مضى؟ من يذكر أنها كانت لمملكة بورغواطة؟ من يذكر أنها تعرضت لتطهير عرقي مسكوت عنه في التاريخ الرسمي؟
هو القادم من دكالة التاريخ والحضارة والمحن التي لا تنتهي، وهو الذي لن يكون إلا عاشقا للشغب والإبداع، فأحمد جواد لا يمنع نفسه من التواطؤ مع كل المبدعين، وفي نادي الأسرة كان ينكشف هذا التواطؤ الجميل .
كلهم أو أغلبهم مروا من هنا، بل منهم من تلألأ اسمه عاليا في المشهد المغربي من رحم نادي الأسرة،فهل يذكرون هذا المرور غير العابر؟ في هذا النادي التي تهدلت ستائره البلا لون، وكانت كراسيه تكترى من ممون للحفلات، في هذا النادي المهترئ كان الفرح الثقافي يمضغ ويصنع رحيقا تسافر به الروح نحو الأعالي . لم يكن موعدا ثقافيا ثقيلا واعتياديا، بل كان فرجة وابتهاجا يمنح فرصا للتحرر من قيظ الرباط وسخافاته، من صقيعه ومواته .
سيتخصص المبدع أحمد جواد لزمن طويل في صناعة الفرح الثقافي، في الهامش حيث ينساب ماء الحياة باختلاف بين، يترقرق منمازا ومنحازا للتفاصيل البهية، بعيدا عن الثقافة الرسمية، كان أحمد جواد يشذ عن القاعدة ويحرك مشهدا معطوبا كبركة آسنة، مكرسا بذلك تقاليد الاحتفاء والفرح الطفولي بالانكتاب والاحتراق، قراءة فشهادة فقراءة بصوت المحتفي به، هكذا تتواتر اللقاءات ويتناوب المبدعون على تلك المنصة المكعبة .
استمرت الحكاية لأزيد من خمس سنوات إلى أن توقفت فجأة لغياب شروط التحفيز والتقدير،" فلا نبي في وطنه " ولا مكان للفرح في ثقافة مجبولة على الحزن والحداد، ألهذا يمنعون الفتى من صناعة الفرح؟ ليس من حق الكاتب في زمن العطب أن يكون موضع احتفاء، ليس من حقه أن يفرح مع أحبته بالولادة والانشقاق، الكاتب لا يذكر إلا بعد الرحيل، حينئذ يصير موضوعا أثيرا للرثاء، الكل يرثي رحيله الفجائعي، الكل يتحدث عن مناقبه وإبداعيته الفذة، حتى من كانوا يضمرون ويعلنون له العداء والسخط، تجدهم يصنعون المراثي ويذرفون الدموع، ربما هو الحداد ما نجيد في دنيا العطب والانسلاخ . ربما لهذا ليس من حق الفنان الجميل أحمد جواد أن يستمر في صناعة الفرح والاحتفاء، ربما لهذا جاء القرار مبكرا، صادما، معلنا نهاية نادي الأسرة.
عند منتصف التسعينيات ساقتنا الأقدار معا لمعانقة أنشودة النخيل والرمال بين واحات تافيلالت، هناك في زمن البساطة والوداعة اكتشفت الإنسان أحمد جواد، بدا لي كطفل عذب لا ينتهي من الشغب والسؤال، يفكك ويحلل أدق التفاصيل، يسافر بين المتاهات والبدايات لا النهايات، بدا لي أحمد جواد ذاكرة ثقافية شاسعة الأطراف، يوثق الأحداث بحرفية رائعة، يذكرك بطقوس لقاء غائر في التاريخ، ينقل إليك الحدث كما حدث، من غير تحوير ولا زيادة أو نقصان، وبين هذا وذاك يتأكد أن هذا الدكالي العذب لا يفرط في صداقاته، بل يحرص على تمتينها في كل الاتجاهات، إنه يعطي معنى نبيلا للصداقة في زمن عز فيه الأوفياء، وكيف لا يكون هكذا إنسان وهو القارئ النهم للشعر والجمال، إنه يختزن في أعماقه الكثير من قصائد الرائعين، يمكنه أن يتلوها بيسر شديد، لأنه يعتقد جازما بأن ما يرقد في الذاكرة وما ينغرس فيها عميقا هو الإبداع والتميز من غير شك . لكنه لا ينتصر للشعر فقط، بل تجده أحيانا تائها في دروب السرد والفكر والمسرح المبتدأ والمنتهى . لهذا كان في النادي إياه يحتفي بكل ألوان الفكر والإبداع، يعانق بكل حرارة الوارد الجديد كما القديم إلى دنيا النشر والانحراق.
أحمد جواد الذي يخلص للعشق المسرحي يميل جدا إلى التنكيت النقدي، يستخف من الزمن الفادح بنكت تذكرنا بكوميديانا السوداء، تجعلنا نكشف عن آخر أضراسنا المتسوسة، وبعدها مباشرة، نغرق في الحزن العميق على واقع قرر عدم الارتفاع، على زمن العطب والتفسخ . لا نعرف من أين تأتيه هذه القدرة الهائلة على الجمع بين الفرح والحزن معا؟ ولا كيف يصنع ذات الفرح في عميق المعاناة والسقوط؟ ها قد تعلم من الركح كيف تكون السخرية من جراح الوقت، وكيف يكون الصمود والبهاء في محن الانكواء، لهذا يوصي دوما بالضحك والفرح ضدا في مسخ الإسمنت وجرافات الحلم وموانع الشغب وفزاعات الصمت الرخيص.
الفضاء الخلفي للمسرح الوطني ما عاد دافئا كما الزمن الفارط، ما عاد منتشيا بحرائق القول كما الأمس البعيد، بارد جدا هذا المساء، والستائر المتهدلة لا تخفي المأساة، والكراسي المكتراة ما عادت تذكر الأشياء، السبورة الصغيرة المحاذية للإيزاداك ما عادت تحمل أخبار الاحتفاء، الجرائد ما صارت تذكرنا بضيوف أحمد جواد، فمن يذكر بذخ الاحتفاء وشاعرية اللقاء؟ من يذكر هذا ال "أحمد" جواد وهو يحتفي بآل الحرف والسؤال؟ ومن يعيد للنادي زمن البهاء؟ أليس العود أحمد يا جواد؟