

التصرف بمهنية: وعيٌ يتجاوز النوايا
في مساحات العمل الجماعي والخدمة المجتمعية، لا تكفي النوايا الطيبة وحدها لتسيير العلاقات وبناء الثقة. فقد تكون نيتك نقية، لكن الكلمة التي تنطق بها في لحظة غضب، أو التصرف العفوي غير المحسوب، قد يُحدث شرخًا يصعب ترميمه. من هنا تنبع أهمية التصرف بمهنية، كمسار واعٍ، لا كردّة فعل آنية.
تجربتي في دورة “توجيه المجموعات”، التي تعلمتها على يد الدكتورة القديرة أميمة ذياب، شكّلت نقطة تحول في فهمي لديناميكيات العمل الجماعي. كانت الورشة أكثر من تدريب؛ كانت مرآة عميقة للتأمل في الذات، وفرصة حقيقية لاكتساب أدوات عملية في إدارة التوترات وبناء مساحات حوارية آمنة.
ما بين النية والأثر
النية لا تبرّر كل شيء. فالكلمة التي تُقال دون تفكير قد تُفهم بطريقة مغايرة تمامًا لما قصدت، وتترك أثرًا لا تُزيله التفسيرات المتأخرة. علينا أن نعي أن الناس لا يتعاملون مع نوايانا، بل مع سلوكنا وكلماتنا. لذلك، من الحكمة أن نُراجع أنفسنا، وأن نُحسن التعبير، وأن نمنح لحظة الصمت أحيانًا قيمة تفوق أي تبرير.
المهنية في وجه الغضب
المهنية الحقيقية تُختبر في اللحظات الصعبة. عندما يغضب الآخر، أو عندما تُستفز مشاعرك، يكون القرار الأهم: هل أردّ بانفعال؟ أم أختار الصمت المؤقت، وأعود للنقاش بعقلانية؟ في الورشة، تعلّمت أن الانسحاب أحيانًا ليس هروبًا، بل احترامًا للعلاقة، وحرصًا على عدم الانزلاق إلى كلام لا يُنسى.
“العشم” لا يكفي
كثيرًا ما نعوّل على “العشم” في علاقات العمل، فنفترض أن الآخر يعرفنا جيدًا، ويُقدّر نوايانا. لكن الحقيقة أن العشم ليس بديلاً عن الوضوح. في بيئة مهنية، يجب أن تُبنى العلاقة على تواصل صريح، واحترام متبادل، لا على افتراضات أو توقعات مبنية على العاطفة وحدها.
احترام الكرامة… أساس العمل الجماعي
أكثر ما يُدمّر بيئة العمل هو الخلافات التي تُدار أمام الجميع. الكرامة شعور إنساني عميق، والمسّ بها أمام الآخرين يُحدث أذى لا يُمحى بسهولة. الحديث مع الزميل وجهاً لوجه، بصدق وهدوء، هو خيار المهنيين الحقيقيين، وهو الطريق الوحيد لحل الخلافات دون أن نترك جروحًا لا تُشفى.
الغفران… لا الضعف
الكراهية، والمقاطعة، والحقد، أدوات هدم صامتة. قد نُبررها أحيانًا بـ”الكرامة” أو “رد الاعتبار”، لكنها في الحقيقة تُثقل أرواحنا وتُضعفنا. الغفران لا يعني الضعف، بل هو شجاعة من يعرف أن الحياة تمضي، وأن كل تجربة – حتى المؤلمة منها – يمكن أن تكون مصدرًا للنضج إن اخترنا أن نتعلّم منها لا أن نبقى أسرى لها.
خاتمة: نحن هنا لنبني لا لننتصر
لسنا في ساحة معركة، ولسنا مطالبين دائمًا بأن نثبت صوابنا. نحن هنا لنبني معًا، لنخدم مجتمعنا، ولنكون جزءًا من تغيير حقيقي يبدأ من داخلنا. التصرف بمهنية ليس مجرد أسلوب في العمل، بل هو موقف داخلي، اختيار أخلاقي يعكس احترامنا لأنفسنا ولمن نعمل معهم.