

أورْكِسْترا اشّهِيان
لَحنٌ أَوَّل..
آلآتٌ مُستعدٌ للنُّهوضِ، تشيللو علَى وشكِ أنْ يَبدأَ المَعركةِ، يَعدُّ صَفّاً من الشُّعراءِ في المُقدِّمةِ. تَعويذةٌ تَجرُّ العودَ لِمُغازَلةٍ مَكشوفةٍ معَ صَوتِ نايٍ، أَوتارٌ تَستنطِقُ الوَجعَ من تَحتِ أَظافرِ عازِف قانونٍ. وَالمُغنّيَ يَرقصُ منَ الحزنِ معَ الفرحِ، يُبحرُ في اللّحْنِ بِقَلبٍ ذابَ منَ التَّعبِ، تَستبيحُ المكان شِبّابةٌ تَلعثمتْ فيها الأَمْكِنَة.
لَحنٌ ثانٍ..
هُنا انتَصرَ الْأَعداءُ عَليْنا، وَعَنترَةُ مُسْتَسلِماً لِلنُّعاسِ، الحُرّاسُ يَنامونَ وَيَسْتحْضِرونَ حَبيباتهمْ وَهم مُسْتَيْقظونَ. وَجارَتي الحامِلُ في الشَّهْرِ التّاسعِ تَ تَ غَ نْ دَ ر.أَراها عَلى الطَّريقِ مُطمئِنّةً من اللَّحنِ مِثْلَ نُعاسِ قَمَر.
لَحنٌ ثالِثٌ..
فَتياتٌ أَيْدِيهُنَّ كَالجِندِبِ، تُعطيكَ معَ كُلِّ حَركَةٍ جُملةً في الحُبِّ. كُنْ عَلى سَجِيَّتِكَ وَامتحِنِ الصَّوابَ. حَطَّ وَترٌ عَلى كَتفي وَأصابعٌ عَلى وَترِ العودِ تُدَندِنّ، وَالرَّجلُ ذو الشَّعرِ الأبيضُ يُلوّحُ بِعصاً يَتَّكِئُ عَليها اللَّحنُ. أَغانيَ عَلي طاوِلَةِ بيانو يُشارِكُها الكَمانُ، صَوْتٌ يَهدي العَتْمةَ إلى الرَّشادِ. فَتَعاليْ مَعي إلى الحَقْلِ أَصْطادُ لَكِ بعْضَ الْأغْنِياتِ، أَسْرقُ صَوتَ نايٍ، وَنعْزِفُ من أجلِ نَخلةٍ تُغامزُ مِئْذنَة، نَحضِنُ تَلّةً، نَتَعثَّرُ بِالظّلِ، يُشارِكنا اللَّيمونُ الرَّقْصَ، وَالأَصابعُ تُكملُ مَهَمَّتها عَلى مَسْرحٍ أَنْتِ فيهِ وَحدُكِ.
لَحنٌ رابِعٌ..
الْمُوسيقى صاخِبةٌ، فَمِنْ أيْنَ يَجئُ اللَّحنُ ؟ الكَلماتُ حادَّةٌ كَشظِيّةٍ، منْ أيْنَ يَجئُ الشِّعرُ؟ الشِّعرُ؛ اشتِباكٌ لُغَوِيٌّ شائِعٌ، مَجرورٌ بِخَيْباتٍ تَتوالى منْ رَأْسِكَ، حَليبٌ يَنِزُّ منْ صَدرِ تينَةٍ، مُفرَداتٌ عَنيدَةٌ تَكْشِفُ عَوْرتَها في السّوقِ. مُغامَرةٌ غَيرُ مَحمودةٍ بينَ تائِهَيْنِ، مُصاهَرةٌ بينَ كَومةِ حَطبٍ وَعودِ ثُقاب. ابْتِهالاتٌ تَقْطرُ وجَعاً، صُوَرٌ تُبشِّرُ بِالعاصِفةِ، لغةٌ رَتيبةٌ تُحاولُ أنْ تُزاوجَ بينَ الْأَخْلاقِ والرَّذيلَةِ. بَذاءاتٌ تَخرجُ عن صَمْتِها، صَوْتُ الْفَرحِ وَلو كَرِهَ الْحَنينُ عَلى شكلِ أُمنِيَةٍ. وَما كتبَ الشّاعِرُ عن خَيْطٍ خاطَ جُرْحاً، وَعنْ وَصفِ بَطن السّماءِ في مَشهدٍ ساخِنٍ.
لَحنٌ خامِسٌ..
يا اشّهِيان يا شَهْوةُ الْغاباتِ وَعرَقُ الأَقلامِ السّائِلَة، وَالصُّورُ الَّتي ما خَطرَت على بالِ المَسامير. الشِّعرُ يُجَفِّف الْحرْفَ بعدَ الْغَسيلِ، يَكوي الرّوحَ، يَفتحُ بابَ القلبِ عَلى الغارِبِ وَيَنْشرُ الْمُداعَبةَ. مَثلاً: ليسَ كلَّ تُفّاحَةٍ تَأْتي عَلى ذِكرِها هِيَ نَهدُ امرَأةٍ. ادخُلِ التّاريخَ بِعنّابَةِ اللَّذّةِ الفائِقَة، الخَيالاتُ تَأْتي من رُؤوسٍ مُجَنَّحةٍ في لَوحَةٍ عن الحَربِ الْأَهْليَّة؛ فَترى ضَوْءَ الكازِ يَطْلعُ منْ عَيْنِ الشَّيْطان، وَالعِفَّةَ من فَخْذِ الشَّجَرة. قَمرٌ عادِيُّ يُودِّعُ ليلَ المَدينةِ، شِعْرٌ يَحِنُّ إلى الْمَقابرِ والْحَواري الْفقيرَة، لِأُمَّهاتٍ يَخْبِزْنَ الصَّبْرَ، لِبائعِ الأَلبِسة البالِيَة. لِشيزوفرينا الكَذِبَ، لِصَدى سوطٍ على ظَهْرِ فَرَسةٍ، لِأَمواتٍ اسْتَيْقظوا كَيْ يَشْربَ مَعهَمُ الشّاي.
لَحنٌ سادِسٌ..
يا اشّهِيان؛ لا شَيْءُ يَبْقى للْأَبدِ، مَعِيَ الكَثير مِنَ الحُجَجِ، المَكاتيبَ وَالكَلماتِ الجَريئَةِ التي تُساعِدَني عَلى الوُصولِ الْحُرِّ إلى المَعْرفَة، وَكيْفَ نْنْشُرُ الأَملَ عَلى حَوافِّ الطُّرقِ الْمُكَسَّرَة..؟ يا اشّهِيان؛ الطِّلاءُ غامِضٌ، فَمِنْ أَيْنَ يَجئُ اللَّوْنُ؟ مِن رَعْشةِ رَأْسِ القَلمِ المَبْريِّ عَلى حَدِّ السِّكّين، مِنِ ازْدِحامِ الحُروف وَتكَدُّسِ المَعْنى فَوقَ السَّطَر.
لَحنٌ سابِعٌ..
حَواسكَ فَوضى؛ تَأْخُذكَ إلى حَيْثُ لا تَعرفُ منْ أينَ الطَّريقُ إلى نِهايةِ الوَرقةِ..؟ تَتأَمّلُ حالاتَ التَّمنّي وَالاستِعانَةَ والتَّشبيهَ وَالتَّشبيح.
وَكيْفَ تَسْتمني شَجَرةُ ظِلٍّ تَأْكلُ حِسَّكَ..؟ في تِلكَ اللَّحظَةِ منَ الْغَزواتِ تَصْهَلُ أَحصِنةٌ، تُطبخُ الأَرْضُ المُحْتلَّةُ عَلى نارٍ هادِئَةٍ. تَتعَرّى الاسْتِعارَةُ من الْعُشْبِ كُلَّما سَمَحتْ لَها الفُرْصة. أَسِنَّةٌ حادَّةٌ تَحومُ حَوْلَ زَيْتونةٍ مُراهِقةٍ تَصِلُ التَّلَّةَ بِخِفَّةٍ ساحِرٍ، وَببِطئٍ أصِلُ أَماكِنَ حَسّاسَةٍ. هُنا وَجَبَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ شاراتَ مُرورِ الْجسَدَ في هذا الْمِحْراب.
لَحنٌ ثامِنٌ..
أَرضٌ تَشُمُّ مِنْ إبْطَيْها رائِحَةَ الفُسْتُقِ، وَمنِْ بَيْنِ الفَخْذَيْنِ رَحيقَ المِشْمِشِ، وَمِنْ سُرَّتِها تَجمعُ أَزْهارَ الرُّمّان. مُشاغِبٌ أَنْتَ في التَّأَمُّلِ وَمُصَمِّمٌ عَلى تَقْبيلِ الشَّجرَةَ مِنْ فَمِها في سوقِ شَعبِيٍّ. مُتَهوِّرٌ تَقفِزُ منْ نافِذَةِ المَعْنى إلى النَّهْرِ الجاري في كُلِّ سَطَرٍ.
لَحنٌ تاسِعٌ..
احمِلْ ظِلَّكَ تَحْتَ إبْطَيْكَ وَانبَطِحْ سَريعاً عَلى بَطنِكَ. ضَع يَدَيْكَ عَلى رَأْسِكَ كُلَّما عَبرَتْ طائِرَةٌ منْ شُبّاكِ نَومِكَ المُتَقطِّع، خَبِّئْ قَلبَكَ في خَزانَةِ المَلابِس كَيْ لا تُصيبَ القَذيفةُ قَميصَكَ الأَزرَقَ. الوَقْتُ مُناسِبٌ كَيْ تَقْرأَ قِصَّةَ الصَّنَمِ الّذي تَعلَّمَ العَزْفَ في الجاهِلِيَّةِ. قاوِمْ هذا النُّعاسَ الّذي أَرجأَ صَلاةَ الْفَجرِ إلى الظَّهيرَةِ وَلا تَخَفْ مِنَ الشَّمْسِ المُتَوارِيَة وَالمَقاليعَ الَّتي طارَتْ فَوْقَ حُلمِكَ كَيْ تُفْسِدَهُ.
لَحنٌ عاشِرٌ..
رَأَيْتُ النازِحينَ يَسيرونَ أَميالاً مُحَمَّلينَ بِالْأَرَقِ وَالصُّوَرِ وَالمَلامِحِ المُغْبَرَّةِ، رَأيْتُ قِطَطاً منِ النّافِذَةِ تَحتَمي بِحِضْنِ كَلبةً تُرضِعَ الْهَواءَ. فَتَذكَّرْت أَنّي رَأيْتُ أَحجاراً من الدّومينو بِلا أَرْقامٍ أَفسَدتِ اللُّعْبةَ. فُرْ مِن عَدُوِّكَ، تَلاشى كَضَوْءٍ أمامَ ناظِرَيْهِ، وَقُل لِظِلّكَ في لَحْظةِ خَوْفٍ: لا تَخَفْ إنَّ اللهَ مَعنا. وَلِيَكُنْ قَلبُكَ فارِغاً حَذَراً من فَريسةٍ قادِمَة. يا اشّهِيان؛ الكِتابةُ هيَ فِعْلُ الْحُزْنِ الغارِقُ في جَرَّةِ خَمْرٍ، وَالشِّعرُ تَجرِبةٌ تُمَرِّرُ روحَكَ في لَحظاتِ تَجَلٍّ حُلْوَة. يا اشّهِيان؛ الشِّعرُ يَأْتي وَلا يَذْهَبُ إِلَيْهِ أَحَدٌ.