الاثنين ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٠٦
بقلم سهير فوزات شنان

أشلاء أفق..

اليوم.. بعد كل تلك السنين.. وبعد شهر من سماعي نبأ عودته، نتقاطع في الطريق..

مصادفة، كغريبين التقيا يوماً في مطار، واختزل كل منهما الآخر كصورة لوطنه..

تقتحم ذهني ذكريات ذلك المطار، وتتعارك احتمالات تلك الصورة..

هل عرَّتها أمطار الغربة من انفعالها القدسي، هل مزقتها رياح وطن جديد مثقف بثقافة النسيان، لا يعرف الحنين أو الرجوع.. أم رفعها الحرمان والشوق إلى قداسة آلهة قديمة تخاطب برهبة وخشوع..

في ذاكرتي تنتصب تلك الصورة الأيقونية مقارنة مع الشخص الواقف أمامي.. مصفرَّة مهترئة الأطراف، ككائن اجتاز فجوة الزمن..

شُعيرات جميلة في مقدمة الجبهة- سقطت في معركة الحياة، وأخرى كساها شيب رفيق..
و العينان قد ركن فيهما ذلك الشيطان المتقافز، وخلَّف أطياف انكسار..
ذلك الجنّي المسمَّى الزمن.. كيف يعبر أجسادنا ويترك آثار نعليه في الوجه.. والجلد.. والقامة.. ثمَّ ينسى أنه مرَّ من هنا..

من بين شفتيه ينبعث صوته محملاً بأصداء أجساد راحلة، عاهرات.. عاشقات عابرات..

كيف أمكنني الاعتقاد أن رجلاً شرقياً في بلد غربي بإمكانه أن يخلص لامرأة لم يقبلها سوى مرَّة ويخفي ذكراها في صندوقه الأسود لستِّ سنين..

تلك الشفاه التي أحرقتني يومها، تترنح الآن أمامي فوق الكلمات، باردة ً مغتربة عن أحلام سنيني المهدورة، يراودني دوار ذكراها ممزوجة بعطر العنق والأنفاس..

هل استطاع أن ينسى ذلك اليوم الرمادي العاصف، يوم شقاقنا..

أذكر يومها كم توسلا ًالتمع، وخبا في جلستنا المطولة.. القصيرة.. كان يجلس على الكرسي أمامي ويقدم الأعذار على طبق سفره اللامع، يزخرف الآمال.. يعزف كلمات عشق مرهقة أضاعت طريقها إلى قلبي..

كنت أجلس أمامه بصمت، أسمع متفرقات من حديثه.. ويغيب عني معظمه.. تتصارع في ذهني آلاف الأسئلة العقيمة..

هل نستطيع أن نحيا بدون حب.. أو أستطيع متابعة حياتي بعده وقد ارتبط بكل تفاصيلها..

هل الحب بهذا الظلم ليطلق له العنان بينما يحكم أغلالي..

هل أحبني فعلا..

كانت صورته تتراقص في حدقتيّ مع لهب شمعة تحترق بدون دموع.. كان حزني أكبر من لغات العالم.. وخرج بي ذهولي من عالم الماديات، فصرت أشاهد فيلم حياتي من خلف زجاج كتيم، فانسحق ألماً دون أن أحرك ساكنا..

كنت أعرف أنه أعند من أن أغير رأيه ففضلت الاحتفاظ بكبريائي كورقة أخيرة، وإقفال باب شفتيَّ على أعاصير روحي..

حين انتبه إلى صمتي الشاذ، توقف.. نظر في عينيّ ملياً، في تلك اللحظة أحسست أن زلازلي بدأت تهزه..

إنه صمت الحب يحكي ما تعجز الكلمات حمله..

وهبتني عيناه قوة كافية للنهوض، لأهرب من حديثه وأتشبث ببرّ النافذة أبتلع دموع السماء بعينيّ..

كنت أخشى الضعف ولكن، هل دموع السماء أيضاً ضعف، وكيف تكون كذلك وتحمل في لبِّها جناناً وحياة..

أدركت أن المطر عشق.. عشق السماء للأرض واتصالهما، وما العشق سوى ذلك المزيج من المتناقضات، الضعف والقوة.. الحماقة والمنطق المتعة والألم..

هل نسيته وأنا غارقة في فلسفة الطبيعة.. أم تناسيت؟!

كنت أعرف أن اللحظة التي سيغلق فيها الباب خلفه، سأنهار على كتف المقعد باكية بكل وهَن نساء الشرق أنا الواقفة أمامه الآن بتماسك طاغية لم يعرف من الدنيا سوى الظفر.. لو لم يعرف يومها الباب السري لقلاعي، ويقتحمني بجرأة عاشق مشتاق..

ضمَّ خصري لأول مرَّة.. أشعلني حباً ورغبة هربت منه لأستنجد بكرسيي، بالشمعة، بفنجان الشاي الذي يمتص برودة الجو.. لم ييأس ربما اكتشف أني عاجزة عن مقاومته أكثر..

جسده العطر الدافئ كليل الصيف، الذراعان القويتان، و الشفاه الصلبة، انحفرت في ذاكرتي، شرَّدت أعماقي واستوطنتها حتى صرت أبحث لاحقا ًفي كلّ من قابلتهم عن شيء ما يشبهها..

كيف أنسى يوم قلب صحراوات قيم صنعها طغاة لم يعرفوا الحب، ليغرس سنين لوعة وحنين..

يوم ألغى عمري وصنع لي ميلادا ًجديدا.. يوم فضَّ شفتي َّ.. وقدَّر عليها الانتظار..

لم أعرف زمن قبلتنا الوحيدة.. ولا تفاصيلها.. لفّتني غيبوبة وردية.. وعجزت أخلاقياتي ووصايا أمي.. وكلام الجيران المتردّد فيَّ.. عن انتشالي من عالم النشوة.. أذكر أن ما أوقفنا حينها طبول الرعد.. أكانت السماء تزجرنا أم تحتفل؟!!

ابتعد عني.. لم يعد ما يضج بي حزن ولا فرح ولا قلق ولا حب.. فتحت عيني وكانتا أملي الوحيد لإعادتي إلى الواقع..

ولكنْ.... لم أعد..

فنجان الشاي يغلي، الشمعة صارت قنديلا.. السماء بنفسجية.. والغرفة عالم من العجائب..

لملمت أشلاء شفتي ضممتهما بكلتا يدي وعينياي ساهمتان، فارغتان من أي تعبير..

جلس يتأملني، ابتسم.. اجتاز حقلا ً من الألغام ناوره سنة كاملة، قاومت إغراءه فيها، كنت أقول أن الحب ليس المبرر الكافي لأهب نفسي، وإن جسدي وروحي للرجل الدائم الذي ستربطني به صكوك المجتمع وتقاليده..

كان يقول إن الحب هو المبرر الوحيد لكل شيء حتى الخطيئة وإن الخيانة أن نعيش هذا التشتت بين جسدنا وروحنا، الذي يمليه علينا المجتمع..

إن الحياة لا للماضي ولا للمستقبل بل للحظة التي نحن فيها..

أو لم يكن يدري أن من اللحظات ما قد تختزل عمرنا كلّه.. أربكه ذهولي، أقسم أنه لن يطيل الغياب وأنه سيعود ليطير بى..

كيف حدث هذا أكان يظنُّ أنه يعلمني العيش في انتظاره.. أم الموت حتى يعود.. أم يظنّ أنه يفتح لي نوافذ حياة (صحية) لا أطيق تحملها..

و أنا كيف استسلمت؟!أأردت تلك القبلة تعويذة، تملؤه لهفة ورغبة بالبقاء.. أم أن قيمي بدأت أمام منطق العشق الأحمق تتراخى.. أم أنها كانت آخر ضوء يربطني بعالم الحب الذي لم أعشه مع سواه..

و أدركت يومها أنني لن أعيشه بعده..

تركني أقتسم مع المكان آلام الوداع.. تلك الغرفة التي صارت معبدي الخفي أمارس فيه طقوس حبه وذكراه.... حتى بعد أن فقدت جدواها المادية وانصرف الناس عن تهادي الزهور الصناعية، احتفظت بها..

كان نهارا ًثقيلا.. مرهقا ً، نمت في ليلته بعمق على كلِّ صخب روحي، رغم عنف السماء الذي وشت به في الصباح شجرة التين المقابلة لبيتنا، حيث كانت خارجة من معركة عشق خسرت فيها كل َّ أوراقها..

في السنين التالية، كلما ضيّق علّي البشر وأجهشت السماء، هربت إلى معبدي.. استحضره..

حلمت بعودته.. بأشجار تين خضراء.. وزنابق بيضاء..

كان الاتصال بي مستحيلا ًخلف أسلاك شكوك أهلي.. ومراسلتي ضرب من الحماقة قد تلتقطه قَبلي عيون الجيران الفضولية المحترفة..

كنت رغما ً عنّي أسترق أخباره، و أنتظر أنفاسه لتحيي جمري.. أو تهمله وتنثر رماده على ضائعات سنيني..

سلام مقتضب.. بابتسامات شاحبة.. ومضى كلٌّ في طريقه..

أنا شرقا.. بقلب تصحّر يحمل مستحاثات رجل مخلص وحنون..

وهو غربا.. بعالم جديد بين كتفيه لا يتسع لتعويذتي.. ويتسكع في حنايا مستقبل بعيد..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى