نظرية التنافر المعرفي
لقد أعادت قصص المعتقلين والناجين إلى أذهاننا تساؤلات عديدة عجزنا عن الإجابة عنها والتصالح معها، وها هي الآن تحاصرنا وتفتك بعقولنا. كيف يجرؤ المرء على تعذيب الآخرين والتنكيل بهم ثم ينام قرير العين؟ لماذا لا يشعرون بالذنب كما نشعر نحن بالذنب في مواقف صغيرة، إذ لا يستطيع الرجل منا أن يغفو إذا تذكر أنه قال كلمة لأحدهم ومن المحتمل أنها أزعجته!
يجيب علم النفس الاجتماعي عن هذه التساؤلات بمفهوم يعرف بالتنافر المعرفي الذي وضعه عالم النفس ليون فستنغر عام 1957م، ويعني حالة التوتر والقلق الناتجة عن تعارض المعتقدات أو القيم أو السلوكيات. يواجه الإنسان هذه الحالة عندما يجد نفسه أمام خيارين متناقضين أو عندما يتصرف بطريقة تتعارض مع قناعاته، وفي هذه الحالة، يسعى الإنسان تقليل هذا التنافر من خلال تعديل معتقداته أو تغيير سلوكه أو التقليل من أهمية التعارض.
ولفهم التنافر المعرفي، إليك حالة المدخن، يعرف المدخن جيداً أضرار التدخين، ومع ذلك، فلا يقلع عن هذه العادة، وهذه الحالة تنافر معرفي إذ يتعارض سلوكه "التدخين" مع معتقداته "أضرار التدخين"، ولحل هذه المشكلة، إما أن يقلع عن التدخين، أو أن يغير معتقداته فيقول بأن التدخين غير مضر، أو أن يجد مبررات تخفف هذا التنافر كأن يقول بأن الحياة قصيرة وأننا سنموت سواء كنا مدخنين أو غير مدخنين.
يعاني السجانون من تنافر معرفي يتمثل بين سلوكهم في تعذيب الناس ومعتقداتهم في فظاعة هذه الأفعال، ويلجؤون إلى تبرير سلوكهم المناقض للفطرة لتحقيق توازن نفسي، وهو ما فعله أدولف آيخمان، مرتكب المحرقة في اليهود في عهد هتلر، إذ لم يشعر بالذنب من فعلته فهي "تنفيذ للأوامر" وفق تعبيره ويجب محاكمة الذي أصدر الأوامر لا محاكمته!
إن الإذعان للأوامر من أكثر المبررات شيوعاً لتخفيف التنافر المعرفي، وقد أجرى عالم النفس الشهير ستانلي ميلغرام عام 1960م تجربة لدراسة سلوك الطاعة عند البشر، يجلس المشارك أمام جهاز الصعق الموصول على جسد الضحية، لا يرى المشارك الضحية ولكنه يسمع صوتها فقط، ولا يعرف المشارك أن الضحية تمثل وأن جهاز الصعق غير موصول على جسمه. طلب ميلغرام من المشاركين طرح أسئلة على الضحية وصعقها بالكهرباء إذا أخطأت بالإجابة، وكلما أخطأت الضحية تزداد قوة الصعقة الكهربائية. أظهرت التجربة أن معظم المشاركين الذين توقفوا بعد سماعهم لصرخات الضحية قد تابعوا عملهم بعد أن أجبرهم المشرف على المتابعة وأخبرهم بأنه يتحمل مسؤولية موت الضحية!
أجرى ميلغرام هذه التجربة على أطياف واسعة من الناس، وكانت النتائج متشابهة، وتوصل ميلغرام إلى أن الإنسان يبدأ بتقبل الفكرة السادية تدريجياً ويجد تبريرات لها، ومن أخطر هذه التبريرات "تنفيذ الأوامر".
وبعد عشر سنوات، أجرى البروفيسور فيليب زيمباردو تجربة شهيرة عرفت بتجربة سجن ستانفورد، قسم المشاركين الثمانية عشر إلى مجموعتين، تسعة حراس وتسعة سجناء، ولكي تصبح التجربة أكثر واقعية استخدم سرداب جامعة ستانفورد وطلب من المشاركين ارتداء ثياب تتوافق مع التجربة؛ الزي العسكري للحراس والزي المخطط للسجناء. كان الهدف من التجربة مراقبة سلوكيات الأشخاص حسب انتمائهم.
حمل الحراس العصي وقيدوا السجناء ووضعوهم في السجن، وكان من المقرر استمرار الاختبار لأسبوعين، ولكن لفرط استخدام العنف من الحراس أجبر البروفيسور على إيقاف التجربة بعد ستة أيام.
استنتج زيمباردو أن قوة الموقف كان لها الدور الأبرز في تشكيل التصرفات، ولذلك، فإن كل من ارتدى ثياب الحراس تحول تدريجياً إلى شخص متوحش، وكل من ارتدى ثياب السجناء تحول تدريجياً إلى شخص خاضع ذليل!
ومن جانب آخر، فإن تأثير الجماعة له دور كبير في توجيه سلوك الفرد، ولفهم ذلك، فكر في ذاتك عندما تجلس في العيادة بوقار منتظراً دورك، هل ستبقى وقوراً عندما تلعب مع رفاقك مباراة كرة قدم؟ أم أنك ستصبح مندفعاً تحت تأثير الجماعة؟ في الحالة الأولى أنت شخص وقور ينتظر دوره، وفي الحالة الثانية، أنت لاعب متحمس وصوتك يهدر في أرجاء الملعب!
وختاماً، فإن هؤلاء المجرمون يبررون سلوكهم بذرائع عديدة أبرزها تنفيذ الأوامر لتخفيف التنافر المعرفي، كما أن سلوكهم السادي بحكم الممارسة أصبح مقبولاً ومبرراً، ووجودهم في جماعات مجردة من الإنسانية يدفعهم إلى المزيد من البطش والتنكيل بالآخرين دون أن يرف لهم جفن.