الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٢٥
بقلم صالح مهدي محمد

مرسى الأصوات

في تخوم مدينةٍ يبتلعها السهر، تنعقد الأصوات فوق بعضها، كأنها محاولة يائسة لستر ما لا يُقال. هناك، عند الضفّة، يُقيم لقاءٌ متكرّر بين كيانٍ يعكس وما لا يُعكس.

لم يكن للمرآة ملامح سوى ارتجافٍ يُذكّر بالماء، حين يتهيأ للغرق. ولم يكن للظل ملامح أيضًا، لكنه يعرف الممرّات، يجيء كما لو أنه دعوةٌ لغيابٍ آخر.

في صمتٍ متثاقل، يتسلّل صوتٌ ثالث؛ لا يُرى، ولا يُعرَف من أين ينبعث. يذكّر بما هو مكتوب في دفاترٍ لم تُفتح:

"ليس كل ما يُرى صالحًا للقبول. المقاييس تقف خلفك، وإن أدرت ظهرك."

الكلمات لم تكن أقوالًا، بل سلاسل تُغشى على الحلم وتقيّده ببطءٍ لا يُقاوَم.

ومن زاويةٍ لم تكتمل، هناك وجه بلا وجه. يختبر المساحات بما يشبه الطموح، يحرّك الكراسي كما لو أنها نجومٌ صغيرة، يسحب الأرض من تحت قدميه قليلًا كل مساء، يريد أن يصبح النقطة المركزية التي يدور حولها كل شيء، حتى لو فقد الكون توازنه.

لكنّ الظل لا يرحل. كان يثبت فقط حين تنكسر الإضاءة، يقف على عتبة حلمٍ خافت، يراقب النسيان وهو ينسلخ عن الحنين.… في إحدى الأمسيات، جلس الأربعة: المرآة، الصوت، الوجه، والظل.

لم يتكلم أحد. كانت ألسنتهم ممسكة بخيوط غير منظورة. وحدها المرآة رفّت:

"هل ما نراه الآن انعكاسًا لماضٍ مُطفأ، أم ظلًّا لشيء لم يُولد بعد؟"

الصوت الموزون أجاب:"الانعكاس لا يشيّد بيتًا. الدفء لا يصنعه الضوء وحده."

بينما الهامس ظل يكرر: "من يقف بلا خوف… يُفضَح. ومن ينسى الأعراف… يُمحى."

أما الوجه، فكان يجرّب لغةً لا تخصه: "من لم يُساوِم، تكسّر. ومن عاش في الحلم، مات في يقظةٍ أخرى."

لكن الأشجار اهتزّت لشيء لم يكن ريحًا. كان الظل يُلقي في الماء رسالة لا تُقرأ بالحروف، بل بالنبض المؤجّل.

عاد الصمت ينساب، لكن داخله تردّد سؤالٌ مُهمل:

"هل ما نحمله حبّ، أم أثرُ وهمٍ حلمنا أنه حبّ؟"

في غرفةٍ معزولة، جلست المرآة. لم تعكس شيئًا، سوى ظلٍ بدا وكأنه يبتسم. تمسكت به كما يتمسك النائم بشكّ في الحلم. همست:

"هل رأيتُ أكثر مما كان، أم أقل مما كان يُفترض أن يكون؟"

الظل اقترب، لم يلمس، لكنه ارتجف على جدرانها قائلًا بلا صوت:

"أنا لم أغب. كنت فقط في الانتظار."

لكن العقل –ذلك الصوت الرابع الذي لا ينطفئ– أعاد صدى حجّته:

"الماء وحده لا يكفي. لا بد من أرض."… وفي مكانٍ أعمق من المرايا، وقف الوجه يحدّق في ذاته، يبحث عن صورةٍ ناقصة.

"هل قتلت شيئًا في طريقي إلى الأعلى؟"

لم يجب سوى الفراغ، لكن خلفه كان ظلٌّ مستمر، كأنه يطالب بالاعتراف.

أما الهامس فظل يعيد بناء الأسوار، لكنه هذه المرة أحسّ أن الخوف هو الذي يشيّدها لا العقل.

حين جاء المساء المختلف، اجتمعوا من جديد. الضفّة لم تتغيّر، لكن أعينهم لم تعد كما كانت.

الظل لم يختفِ. جلس بينهم كما لو أنه الجزء الذي كان ينقص لتُغلق الدائرة.

قال دون نطق، فسمعوه:"أنا لم أكن وهمًا. أنتم فقط انشغلتم بالاتجاه الخطأ."

تزلزل حرفٌ تشدّق به العاقل:"ربما البناء يبدأ بما لا يُرى."

أومأت المرآة، وانكسر بريقها: "لم يغب الحب، نحن الذين لم نعد نبصره."

الهامس تمتم:"هو الشيء الوحيد الذي لا تقبل به الأقفاص."

أما الوجه الذي أراد الصعود، فقد بدا صوته مختلفًا: "وأنا… لا أريد أن أصل وحدي."

جلسوا أخيرًا، لا كغرباء، بل كمن عثروا على سرٍّ بلا اسم. وكان الظل حاضرًا، ليس ليُخفي، بل ليحرس.

2018


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى