ليلة فى طوكيو
قال الكاتب الأمريكى توماس وولف : إذا أردت أن تعرف « نيويورك » فعش فى باريس ، وفى هذا القول اجتمعت كل الحقيقة .. من المدائن والناس..
وأردت أنا ( والقياس مع الفارق بينى وبين الروائى العظيم ) .. أن أعرف القاهرة فعشت فى « طوكيو » .. وحرام أن تظلم القاهرة فى هذه الأيام ، لأنها تمر بمحنة سوء الإدارة .. ومن هذه النازلة تتفرع جميع المساوئ .. سقطت بعض العمارات العالية فى القاهرة ، والذى شيد البناء ساقط . وكل من كان له اتصال بهذا العمل ساقط .. سقطت هذه العمارات ، ولكن لم تسقط الأهرامات التى شيدت منذ آلاف السنين لم يسقط منها حجر واحد .. ولم تسقط قلعة صلاح الدين .. ولم يسقط القضاء العالى .. سيظل شامخًا لأنه فخر مصر .. ورمز مصر الحضارة ، وحصن مصر الأمين .
حرام أن تقارنها بطوكيو مع التشابه الكبير فى عدد السكان .. وعدد الرءوس التى تتحرك فى الشوارع والميادين .. حرام على قاهرة المعز الشامخة بنيلها العظيم .. وبكل مآذنها ، وقبابها .. وبهجة أنوارها .. حرام أن تقارنها بطوكيو لأن قاهرة المعز .. غشاوة فى هذه الأيام وبعد أن تنجلى هذه الغشاوة .. قارن ما شئت وقارن .
التقيت بالطبيب اليابانى تاشيو فى مدينة « هانشو » بالصين فى المستشفى الضخم الذى يعالج جميع المرضى بغير عقاقير .. وتحدثنا عن فعل الطبيعة فى جسم الإنسان .. وعن الأفذاذ من الأطباء الذين برزوا فى هذا المجال .. ولما علم بإعزازى « بأكفادن » قربنى إليه أكثر ، ودعانى إلى زيارته فى المستشفى الذى يعمل فيه بمدينة « طوكيو » ..
ووجدته فى انتظارى على باب المستشفى .. ومعه طبيب فى مقتبل العمر فى مثل سنى ، خصصه ليتجول معى فى أرجاء المستشفى لأنه فى يوم راحته ويتقن الإنجليزية ..
وطالعنى وأنا داخل إلى أجنحة المستشفى السكوت المطبق ، ودقة النظام ، واستعمال كل وسائل العلم فى كل خطوة .. ومراعاة خبايا النفس البشرية ومتطلباتها ، فالإضاءة مختلفة فى كل جناح .. وكذلك الممرضة والطبيبة .. فهن مختلفات فى الزى والسلوك ودرجة الجمال ..
وقال لى الطبيب المرافق بعد جولة استغرقت ساعة :
– حدثنى الدكتور تاشيو .. برغبتك فى تحليل الدم ..
– نعم .. وأرجو هذا ..
ودخلنا فى جناح طويل بلون البنفسج كل ما فيه يلمع .. وقدمنى المرافق إلى طبيبة شابة ..
وخلعت معطفى الأبيض المعقم وجاكتتى وقميصى .. وأسلمت لها ذراعى ..
فقالت برقة :
– سنأخذ الدم مرتين .. وبين كل مرة زمن ..
ولاحظت وهى تمسك براحتى أن ظفر الإصبع السبابة .. مهروس ..
فقالت وهى منكسة رأسها :
– هناك ظفر جديد ينمو مكان هذا .. انظر ..
فقلت وأنا مأخوذ بعظمة الخالق !
– سبحان الخلاق العظيم .. إننا بكل علمنا وتقدمنا فى الطب والجراحة ، والفلك والدوران حول الأرض والصعود إلى القمر .. لا نستطيع أن نخلق مثل هذا الظفر .. وهو أضأل شىء فى جسم الإنسان ..
– هذا حق .. فلماذا يشمخ الإنسان بأنفه ويتكبر !!
وقالت وهى تضم ذراعى دون أن تنظر إلى وجهى :
– وحدك فى طوكيو .. ؟
– نعم ..
– أين تقيم .. ؟
– فى دايتشى ..
– رائع .. هناك الفتيات الجميلات يعملن فى كل الطوابق .. !
– ولكنهن ينصرفن فى الليل .. بعد العاشرة !
– ويعدن لإيقاظك فى الصباح .. فغيابهن قصير .. !
– ولكنى مشغول بعملى إلى درجة تفقدنى كل تسلية ..
– مهما يكن عملك .. ولكن خسارة أن تكون بطوكيو .. ولا ترى قصر الإمبراطور .. ولا ترى « جنزا » فى الليل .. ولا تزور « فوجى » ..
– زرت هذا كله فى المرة السابقة ..
– إذن فقد جئت إلى هنا من قبل .. ؟
– نعم ..
– لا شك أنك تحب المدينة .. وإلا ما كررت الزيارة ..
وابتسمت بوداعة .. ووضعت عينة الدم مع بطاقة صغيرة باسمى وسنى فى طاقة مستديرة .. ونزل كل شىء بشريط كهربائى إلى المعمل .. وجاءت فتاة أخرى أصرت على أن تساعدنى فى لبس ما خلعته من ملابسى .. وقادتنى إلى حيث يوجد الدكتور .. تاشيو ..
وفى مكتب الدكتور تاشيو .. قال لى ..
– سنشاهد معًا .. بعد ربع ساعة عملية تدليك للقلب فى الجناح 21 .. وسيقوم الدكتور هيكامو بعملية فى الكلية .. ويمكنك أن تشاهد هذه العملية على شاشة التليفزيون ..
– قد أكتفى بعملية تدليك القلب .. لأن عملية الكلية لا يتسع لها وقتى..
– كما تحب .. ويمكنك الاكتفاء بعملية الإعداد للعملية الثانية ، وترى كيف تجهز الغرفة ، وفى هذا فائدة كبيرة لك ..
– شكرًا عظيمًا .. يا دكتور لكل أريحيتك وسماحة نفسك واهتمامك ..
وكان مريض القلب سمينًا متوسط القامة ، ويبدو فى الخمسين من عمره .. ولم تكن ملامح وجهه يابانية وإن كان ينطقها ..
ومده على طاولة بيضاء بذراعين ، وهو شبه ميت ، وحوله ثلاثة من الأطباء.. وكانت الأنوار فى زرقة ، وفى الغرفة رائحة أشبه برائحة البنفسج .
ووقفت أنا والدكتور تاشيو فى جانب .. وبدأ مسح الجسم بخفة من يد طبيب شاب ، قصير القامة ، هادئ الملامح والطباع .. ثم قامت طبيبة بعملية تدليك القلب .. ببراعة وسرعة .. وخيل إلىّ من سرعة يدها أنها أخرجت مضخة القلب فى يدها ثم ردتها ..
وتنفس المريض وعادت عيناه تسبحان فى الزرقة .. وأمسكت ممرضة برسغة وجست نبضه ..
وخرجنا إلى بهو جميل التنسيق مزهر .. وقدمنى الدكتور تاشيو إلى الطبيبة التى قامت بالعملية فهنأتها بحرارة ..
وسألتها :
– هل كل العمليات ناجحة يا دكتورة .. ؟
– بالطبع .. إذا كانت للمريض رغبة فى الحياة !
– وإذا لم تكن عنده الرغبة .. ؟
– لا فائدة من الطب إطلاقًا ..
– ما أعظم حكمتك !
وأصرت على أن تقدم لنا الشاى والفطير .. فى صالة المستشفى العلوية ..
ولاحظت من الوجوه التى التقيت بها فى المستشفى والشارع أن اليابانى سيظل يابانيًا فى خلقه وطباعه وسلوكه العام والخاص .. وأنه لا يختلط بأحد.. ولا يحب الاختلاط بالغريب .. وفى طبعه التفرد .. وهو جم التهذيب وسريع الابتكار والحركة ، كما أنه سريع التحول .. وهو ينحنى لك ثلاث مرات إذا أسمعته كلمة حلوة .. ولكن إذا أغضبته وأهنته طعنك بالسونكى .. والمرأة لاتزال تلبس الكومينو .. وتنحنى فى الشارع للسيدة الأكبر منها سنًا .. وتحمل طفلها على ظهرها بطريقة بديعة .. وتتحدث بصوت ناعم كزقزقة العصافير .. وكعاملة فى المتاجر الكبرى ، والفنادق ، والمطاعم ، وقاعات الشاى تسيل رقة وعذوبة .. وكأنها تخرجت فى مدرسة أعدتها لذلك العمل..
وتمشى الوجى فى الطريق .. يعنى بخطوات قصيرة .. كظاهرة مميزة على النعومة والرقة ، وهما من متطلبات الأنثى ..
ولكنك تشاهد إلى جانب هذه من تلبس الزى الأوربى الخالص .. وتقود السيارة بسرعة 100 كيلو فى الساعة .. والجيل الحديث كله من النساء والرجال يتحدث الإنجليزية .. أما كبار السن فندر منهم من يعرفها .. إلا إذا كان يشتغل بالتدريس ومن أساتذة الجامعات .
وشكرت الدكتور تاشيو .. واستأذنت فى الانصراف ..
فقال لى الدكتور :
– أتعرف الطريق إلى الفندق .. ؟
– نعم .. لقد جئت وحدى ..
– إذا اختلطت عليك المعالم فى الليل .. نستطيع أن نرافقك ..
– شكرًا .. طوكيو ليست غريبة علىّ .. أعرفها كما أعرف القاهرة .. وسأركب المترو .. وسينزلنى فى شمباسى ..
– نعم .. المترو أحسن من التاكس .. لأن المسافة طويلة ..
وسلمت على الجميع .. واتخذت الطريق إلى المترو .. والليل زحف وخيم .. وسماء طوكيو تموج بالبالونات الزرقاء والحمراء والصفراء ، وهى تتلألأ وتسطع فى كل مكان .. وأينما ترفع رأسك تشاهدها تتراقص .
لم تتغير طوكيو عما شاهدته منذ سنوات .. سوى أن العمارات الحديثة انطلقت إلى عنان السماء .. وكثر هذا فى قلب طوكيو .. ولا تزال فى أطراف المدينة المنازل الخشبية القديمة من طابقين ومن طابق واحد .. وهنا يبرز الكومينو فى الطريق والبيت .. ويعد أجمل اجتماع على شرب الشاى ..
المستشفى يقع فى حى هادئ وعلى طريق جانبى ، ولكن لما خرجت منه إلى الطريق العام شعرت بحركة المرور السريعة .. كان المارة يتحركون بسرعة عجيبة ويهبطون من الأفاريز إلى الأنفاق ..
ونزلت درجات قليلة إلى نفق المترو .. ولم يكن فى المحطة أكثر من عشرة أشخاص من الرجال والنساء .. وعللت ذلك بكثرة القطارات التى تمر .
وركبت أول قطار قادم .. ويبدو أنه أحدث القطر التى سيروها على الخط.. فقد كان متأنقًا متألقًا وفخمًا .. ومقاعد العربة من القطيفة الزرقاء ، صفت فى صفين .. المقعد المفرد .. ومن هو على شكل كنبة طويلة .. فاخترت المفرد .. ولم يشعر بدخولى الركاب .. لانشغالهم بحالهم .. وللسكون المطبق على العربة .. وفى المحطة التالية ركبت جماعة امتلأت بهم المماشى .. وما جلسوا حتى عاد السكون .. وبرز راكب واحد من بين ركاب العربة جميعًا .. أحس بوجوده كافة الركاب .. فقد تمدد على كنبة طويلة شغلها وحده .. ومد حذاءه فى وجه الركاب جميعًا .. وبدأ يهذى بصوت عال .. وبكلمات غير مفهومة .. كان فى أقصى حالات السكر .. ويرتدى بنطلونًا غامقًا وصدارًا من الصوف فى لونه .. وكان فى قامة اليابانيين .. ولكنه ممتلئ الجسم بادى العضلات كأنه صب فى قالب صبًا ، وخرج على هذا الطراز المتماسك .
وظل يهذى والعينان تقدحان بالشرر وفى جلسته وكلامه وقاحة .. وعجبت لمقابلته بالصمت والسكوت من الجالسين حوله .. وليس من طباع اليابانى الجبن ولا الاستكانة .. فهو أشجع خلق اللّه .. ويهزأ بالموت ، والحياة عنده رخيصة ، ويستهين بنفسه فى لحظات كدرت عليه الحياة وضاق بها ..
شاهدت مثل هذه العربة وهذا المخمور فى فيلم أمريكى .. وقابله الجالسون فى العربة الأمريكية بالصمت الأخرس الذى طال .. ودعا إلى الضجر والنفور والتقزز .. ثم تحرك جندى معوق فى العربة وأسكت هذا المخمور إلى الأبد .
فهل يحدث مثل هذا الآن فى العربة اليابانية التى أركبها .. ؟ حدث أن قال المخمور اليابانى كلامًا أضحك فتاة كانت تجلس إلى مقعد بجانب مقعدى.. فلانت ملامحى لضحكتها .. وضحكت مثلها ..
وانتصب المخمور وهو لا يكاد يتماسك واتجه إلينا وفى عينيه يقدح الشرر الضارى ويبرز الجنون الأعمى ..
وقبل أن يصل إلى الفتاة .. أدركته يد قوية من جالس طرحته أرضًا ..
وكان القطار فى هذه اللحظة يهدئ من سرعته وهو داخل المحطة ، وعندما فتح الباب وتوقف القطار طرح اثنان من الركاب بالمخمور وألقياه على الرصيف .
حدث كل هذا فى خطف البرق وسرعة عجيبة حتى إن نصف ركاب العربة لم يشعروا بالذى جرى ..
وتحرك .. وبدت الأنوار القوية تلمع فى الشوارع وفى سقف العربة ، والكل فى سكون .. وخفت من هذا السكون .. وخشيت أن يكون هذا القطار من الطراز الذى يتحرك من غير سائق .. فأنا منذ ركبت لم أر وجه سائق ولا سحنة كمسارى . واستقر رأيى على النزول فى أول محطة يقف فيها القطار ..
ونزلت والليل من حولى كله ضياء ، والجو رائع منعش .. والبالونات تسبح فى السماء من كل الألوان وكل الأحجام ..
ولزمت الرصيف الطويل متجهًا إلى الوجهة التى أتصور فيها الفندق .. وكلما قابلنى عابر سألته عن الفندق ، وجدته بالمصادفة لا يعرف الإنجليزية .. وتكرر ذلك وأنا أسير فى اتجاه واحد ثم أصبحت أدور وألف وحدى .. وأصبحت المفرد تحت البالونات .. فهل خلت المدينة التى يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين من سكانها ومن البوليس .. وهل قادتنى قدماى إلى ضاحية ساكنة جامدة مهجورة من ضواحى طوكيو .. وأنا لا أدرى .. ؟
وشعرت بالخوف يشل حركتى .. وفى مثل خطف البرق لمحت عربة متوسطة من عربات السياحة اليابانية التى يعمل مثلها فى المطار .. فاستوقفتها صارخًا بالإنجليزية .. فوقفت وسألت عن الفندق ..
فقال الراكب الذى بجوار السائق :
– انزل واركب المترو .. خمس محطات .. !
وشكرته وأنا شاعر بالغيظ ..
واستأنفت السير وأنا أقول لنفسى ما أشد حماقة الإنسان .. لماذا لا أركب تأكسيًا وأتخلص من هذا الضيق . والمسافة ليست بالبعد الذى أتصوره فالبالونات لا تزال تتموج فوق رأسى والبالونات كلها فى قلب « جنزا » والفندق فى طرف من جنزا .. فلماذا الهلع .. ؟
وتخطيت الشارع وقد عاد إلى قلبى وبصرى الهدى .. لأشير إلى أول تاكسى يمر .. وفيما أنا أهم بذلك لمحت ضوءًا صغيرًا من لافتة تشير إلى «نزل». لافتة بالإنجليزية مضاءة بحروف صغيرة جدًا تتجاوزها العينان فى الليل .. ولكنى قرأتها بقلبى وبصيرتى ..
واتجهت إليها وقلبى يزداد وجيبه لشعور لا أعرف كنهه ..
وطالعنى وأنا أجتاز ممر الحديقة المعشب ، بسكون جامد ، حتى تصورت أن ليس بالنزل أحد .. ووجدت على كرسى بجانب الباب المغلق شيخًا يابانيًا.. أفسح لى الطريق بعد أن قرع جرس الباب ، وأدركت من زيه وعمله أنه خفير النزل ..
وخلعت حذائى ومشيت تحت الأنوار الخافتة على طرقة مفروشة بالحصر المضفر الملون .. إلى حيث توجد فتاة فى لباس الكومينو .. جالسة على حشية مزركشة ، وبجانبها طاولة ورفوف من الخشب .. وحييتها وأنا أقدم لها جواز السفر .. صامتًا .. مستغربًا .. محدقًا فى وجهها ببلاهة .. أخذتنى الرجفة ..
وسمعتها تقول بإنجليزية سليمة :
– لا داعى لجواز السفر .. هنا نزل خاص ويكفى أن تدون اسمك وعنوانك فى هذه البطاقة .
ودونت ما طلبته وأنا أحدق فى وجهها وأزداد تحديقًا واستغرابًا .. وسلمتها البطاقة .. فقرأت ما فيها ..
وقالت .. بصوت عال ..
– طبيب ..
– وكأنها سرت لأنى طبيب .. وأحمل هذه المهنة ..
وقلت :
– نعم .. وأنا قادم من مستشفى الدكتور تاشيو .. ورأيت هناك طبيبة تشبهك تمامًا .. شبهًا يدير العقل .. بل أنت فى الواقع .. التى كانت هناك .. وهذا ما جعلنى فى شبه ذهول ..
– أنا .. أنا ما برحت هذا المكان .. وعملى فى هذا النزل فقط ..
– ألك توأم .. ؟
– أبدًا ..
وضحكت من قلب طروب ..
وقلت وأنا أضحك أيضًا ..
– إن هذا لعجيب وهذه ليلة العجائب ..
– أهذه أول ليلة لك فى طوكيو .. ؟
– لا .. نزلت طوكيو منذ عشرة أيام .. وأقيم فى فندق دايتشى .. وحدث أن ضللت الطريق إلى الفندق ، وأنا راجع وحدى من المستشفى .. وهدانى قلبى إلى هذا المكان .. لأقضى فيه ليلة .. بدلاً من الدوران بالتاكسى..
– جميل أن تستدل علينا فى الليل دون دليل .. لأن اللافتة الخاصة بالنزل مكتوبة بحروف دقيقة لا تكاد تقرأ .. !
– هذا من حسن حظى ..
– والآن .. سأريك الغرفة ..
وسارت أمامى فى طرقة مستديرة مزينة بالأصص والورود والزخارف اليابانية .. وعلى الجانبين حجرات منها الصغير والكبير ، تقسم بأبواب خشبية متحركة حسب الرغبة ..
وقالت تشير إلى غرفة وصلنا إلى بابها :
ــ اخترت لك هذه الغرفة ..
وأرتنى غرفة جميلة مفروشة بالحصر والحشيات والمساند .
– لا توجد أسرة فى نزلنا وستنام على الحصير !
– لقد نمت على الحصير مع جدتى فوق سطح بيتنا .. أعوامًا طويلة .. فهى ليست غريبة على مثلى ..
ونظرت بتأمل ثم قالت :
– سأجىء لك بقميص .. فليس معك بيجامة !
– شكرًا .. وأستطيع أن أنام بالبنطلون والقميص .
وأزاحت بابًا جانبيًا صغيرًا .. وهى تقول بزهو لأنها تعرف أن ما تقوله يسر كل مسافر ..
– والحمام داخل الغرفة ..
ورأيت المناشف والمرايا والنظافة والأناقة ..
وسألتها وأنا أحدق فى البانيو الصغير الحجم .. وهو معد قطعًا للمرأة قبل الرجل ..
– سمعت أن المرأة اليابانية تستحم كثيرًا .. فكم مرة فى اليوم ..
– ثلاث وأربع مرات .. !
– ثلاث وأربع مرات .. وليس عندكن النيل مثلنا .. وإذا وجد النيل فكم مرة .. ؟
– ولا مرة .. !!
وضحكنا كثيرًا .. لأن هذا ما يحدث فعلاً ..
وسألت : أتعشيت .. ؟
– أبدًا ..
– سنعد لك العشاء ..
ودلتنى على مائدة الطعام ..
– أتحب أن تتعشى الآن .. ؟
– الأحسن بعد ساعة .. لأنى أكلت فطيرًا مع الشاى فى المستشفى ..
ــ كما تحب ..
وتحركنا فى الطريق إلى الأمام .. لترينى حديقة « النزل » ومرت بنا عاملة وهى تمسح عبراتها .. وسألتها مرافقتى بالإنجليزية :
– ما الخبر .. ؟
فردت هذه اليابانية وهى تشهق حابسة عبراتها .. واجتازتنا مسرعة فسألت مرافقتى فى خجل :
– ما الذى جرى .. ؟
– فتاة من العاملات فى النزل ماتت .. مع أن الطبيب كان عندها منذ ساعة وطمأنها .
– ما الذى كانت تشكو منه .. ؟
– أشياء كثيرة .. عدة أمراض ..
– أمتزوجة .. ؟
– أبدًا .
– هل أستطيع أن أراها .. ؟
سأقول لماما .. وماما .. صاحبة النزل لأن بابا ميت ..
وجلسنا فى البهو على الحشيات .. وجاءت ماما سريعًا ، تلبس البياض فى بياض .. لأنها بيضاء فى قمة رأسها وما لفته حول عنقها .. وتدثرت به حتى قدميها .. وطالعتنى بوجهها السمين ، وبعينيها الساكنتين .. وكان معها شيخ يابانى جلس صامتًا يحدق فى وجهى .. ولم يقدمه لى أحد .. فأدركت أنه من أقربائهن ..
ولم يطل الصمت .. حدثت الفتاة أمها برغبتى .. وتحركنا جميعًا إلى غرفة الميتة ..
ودخلت وهم حولى وركعت على الأرض بجانب الميتة .. لأنها كانت مطروحة على خشية .. وتبدو صفراء ذابلة كأجمل الورود .
ورفعت رأسى وأشرت إلى النافذة .. وهم يتفرسون باستغراب وفضول .
ونظرت إلى عينى الميتة وحركت الجفن .. ورأيت فى الشعيرات الدقيقة للعين الحياة .. الحياة ..
وقلت لمن حولى بزهو :
– إنها لم تمت ..
وخرجت من الجموع الواقفة همهمة عالية ، وصرخة عفوية مكتومة ، مع كل ما هم عليه من تهذيب ورقىّ .
وتحولت سريعًا إلى الفتاة مرافقتى وقلت لها :
– استدعى طبيبها أو أى طبيب يابانى حالاً ..
– وأنت .. !!
– أنا لا أستطيع أن أزاول المهنة هنا .. من غير تصريح ..
– أرجوك يا دكتور « حسن » أن تنقذها .. لعنة اللّه على التصريح .. إن حياة هذه المسكينة على يديك ..
– سأشترك مع الطبيب اليابانى عندما يجىء .. فلا تراعى ..
وكنت أعرف أن الطبيب فى اليابان يأتى فى زمن يقل عن ثلاث دقائق .. وأقل من هذا الزمن يأتى الإسعاف والبوليس .. ولذلك لم أشعر بالقلق على المريضة ولم يؤنبنى ضميرى .. لأنى تركتها من غير علاج بعد أن عرفت أنها حية ..
وجاء طبيبها وقدمونى له .. وحدثته على عجل .. وأصبحت أنا وهو والسيدة الكبيرة والفتاة مرافقتى داخل الغرفة وخرج الجميع وأغلقنا الباب .
وكشفت الفتاة عن صدر زميلتها .. وشعرت بالخجل وأنا أرى هذا الجمال الأسر .. سبحان من أعطى المرأة اليابانية كل هذه النعومة وهذه الأنوثة وهذه الفتنة وسلبها من الرجل .
وقفت خجلاً مبهورًا والفتاة تكشف فتنة الأنثى فى منبع الأمومة والرضاعة والحنان .
كان الطبيب اليابانى يرغب فى إعطائها حقنة فاعترضت بأدب .. وقلت له :
– إنها الآن فى حاجة سريعة إلى تدليك أولاً .. وبعد ذلك تأتى الأدوية والحقن ..
وأخذ الطبيب بوجهة نظرى وانحنى عليها وأخذ يدلك قلبها .. ونظرت المرافقة إلى ناحيتى .. فابتسمت وأدركت غرضها ..
وقلت للطبيب اليابانى بأدب :
– هل تسمح لى بمساعدتك يا دكتور .. !
فتنحى جانبًا ..
وركعت بجانب الميتة .. وحدقت فى عينيها .. ووضعت خدى على قلبها .. ولمست يداى صدرها .. وأخذت أدلك فى نعومة ودقة.. ولأول مرة أنسى نفسى وأضع فمى على فمها وأنفخ فيه بحرارة .. وشعرت بشرايين الحياة .
وفتحت المريضة عينيها بثقل .
وفى غمرة الفرح بنجاة الفتاة طوقنى الطبيب اليابانى وكل من كان فى داخل الغرفة .
وقلت للطبيب :
– إن هذه الخبرة تعلمتها منكم والدكتور تاشيو هو أستاذى وأنا فخور به كأستاذ .
وأحنى رأسه محييًا .. ورأيت أن يبقى هو بجانب المريضة ، ويعطيها ما يشاء من الأدوية .
وقادتنى المرافقة إلى غرفة الطعام .. وهى تطير من الفرحة ..
وجلست إلى طاولة مستديرة كالطبلية .. وحولى النقوش والزخارف على الجدران .. والتماثيل الخزفية فى الأركان ..
وكان الضوء خافتًا والقناديل تسبح فى زرقة القاعة .. والموسيقى اليابانية الخفيفة تذاع فى نغم رتيب يجلب النعاس .. فأحنيت رأسى وأسبلت عينى ..
وأفقت على رنة صحن وضع أمامى وفيه الفوطة المشبعة بالبخار .. فرفعت رأسى إلى وجه الفتاة التى وضعت الطبق ..
وأحسست برعشة الفجاءة التى تهز كيان الجسم كله فى لحظة أسرع من خطف البرق ، ومن رعشة الجفن ومن سريان التيار الكهربائى .. لحظة مباغتة سمعت لها دقات قلبى وكأنه المطرقة ، فى عنف دقه .. لحظة يذهب لمثلها العقل .. وكانت هى بقدر ما تلاقت أعيننا الأربع ، وحدقت وأتسعت ، وأرتجفت الأجفان بقدر ما غاب إنسان العين بعد ذلك من هول المفاجأة .
وجرت إلى البطاقات التى فى المدخل .. وأخرجت البطاقة الخاصة بالنزيل الجديد الذى وفد الليلة وقرأت الإسم .. وسألت الفتاة الموكلة بالبطاقات عن اسمى وجنسيتى للتأكيد .. فلما عرفت كل هذا وتيقنت منه عادت تحمل أطباق الطعام فى تباطؤ وجمود ، وكأن ما حدث لم يكن قد حدث .
وكنت أمسح بفوطة البخار وجهى وعينى وأشعر بما تفعله هذه الفوطة من راحة للأعصاب .
واشتقت إلى أن أسمع جرس صوتها بعد هذه الغيبة الطويلة .. وهل تغير كما تغير عودها فقد سمنت قليلاً وثقل خطوها .
وسألتها دون أن أرفع وجهى عن الأطباق :
ــ هل جنزا بعيدة عن هنا .. !
– بعيدة جدًا .. أربعون دقيقة بالتاكسى ..
– وإذا مشيت .. ؟
– تصل صباح الأربعاء ..
وكنا فى يوم الاثنين .. فأدركت مداعبتها ..
وسألت بجفاء وهى تحرك أشياء على المائدة :
– وما الذى تريده من جنزا فى الساعة التاسعة ليلاً ..
– أريد أن أرى السفينة ..
– أية سفينة .. ؟
– السفينة الراسية على شط جنزا ..
– غرقت من سنين وتحطمت قمراتها ..
– وركابها .. ؟
– غرقوا جميعًا .. ونجا اثنان .. رجل وامرأة .. وقد طوح بهما الزمان .
– ولكنهما التقيا ..
– أبدًا أخلف الرجل وعده .. كالعادة .. وعاشت المرأة فى محنتها ولوعتها شبه مذهولة .. ثم تمالكت نفسها واستردت أنفاسها وأخذت تعمل فى كل مكان فى المطاعم والمحلات .. وأنساها العمل لوعتها وحبها القديم .. وهكذا تمر الأيام .
– قد يكون للرجل عذره .. وتكاليف السفر باهظة ..
– أبدًا .. يستطيع أن يعمل حمالاً فى باخرة .. ويأتى كما وعدها ..
– اعذريه لفقره .. لقد حاول بكل ما يملك من جهد أن يسافر كطالب إلى بكين أو هونج كونج .. ليكون قريبًا منها ، ولكنه فشل بعد جهود مضنية مرغت نفسه فى التراب .
– لا فائدة ترجى من الكلام الآن .. هل تريد شيئًا آخر .. ؟
– ستذهبين معى الليلة إلى جنزا ..
– أنا .. كيف تطلب من سيدة متزوجة هذا الطلب .. أنا زوجة وأم ..
وابيض وجهى وأطرقت .. زوجة وأم ..
الآن جاء لسع السياط ..
وأطرقت وأخذت استرجع شريط الذكريات ..
منذ سبع سنوات وفى مثل هذا الشهر .. شهر أكتوبر .. وقفت وحدى فى طرف .. جنزا .. بعد أن عبرت الكوبرى الصغير والقناة . واستدرت إلى يسار وكانت الساعة العاشرة ليلاً والجو صحوًا لطيفًا .. لا تؤثر برودته على الواقف فى المكان يتأمل ما حوله حتى إن طالت وقفته .
ولمحت على بعد خطوات منى بناية على شكل سفينة عائمة على الأرض .. وقناديل قمراتها تتوهج بلون فسفورى جذاب .. وساريتها مرفوعة تناطح البالونات المتأرجحة فى الحى كله .
وفى وقفتى ، وأنا منبهر طارح ، وجدت من يسألنى :
– أتود أن تشاهد السفينة .. ؟
وأفقت على أنثى رقيقة تجاوزت فى وقفتها كتفى ..
وتأملت عينيها نصف المسبلتين ، وقوامها ولباسها الأوروبى البسيط من قطعتين جونلة وبلوزة .. لم تكن تلبس الكومينو ..
– وبكم المشاهدة .. ؟
– الساعة بألف ( ين ) .. فى القمرة ..
ولم أعقب .. وظل التفاعل النفسى والجذب والشد .. يعمل .. ويعمل بضراوة .. وسقط شىء علينا من سماء طوكيو أشبه بالبرد أو نتف الثلج .. فضحكنا .. وظلت هى ممسكة بالحبل ..
– إذا لم يكن معك هذا المبلغ .. نستطيع أن نتمشى بعض الوقت .. المهم أن نبقى معًا ..
– ولماذا أتعبك بالمشى .. سندخل السفينة .
وفى الطابق الثانى احتوتنا قمرة ضيقة أشبه بقمرة البواخر .. وفيها كل أثاثها ومعداتها .. وشربنا النبيذ والساكى .. وتحدثنا عن القاهرة وطوكيو .. بحب وحماسة ..
وسألتنى :
– أين تقيم .. ؟
– فى دايتشى ..
– إنها على بعد خطوات من هنا .. سأكتفى بعملى الليلة فى السفينة وأخرج معك .. لنتجول فى جنزا ..
وشعرت بالسعادة تغمر قلبى .. وسرنا فى الليل الحالم فى حى الألف ملهى وألف حى كأنما رسمه ووضع له الخطوط فنان لا يجارى فى عبقريته ونبوغه .. ملاه زاهية بألوانها وقناديلها ورسومها .. فى صفوف تدور وتطول .. وكلما دارت تألقت إلى لون آخر .. أكثر جمالاً وأشد فتنة .. وعلى كل باب تقف فتاة فى حفل من الزينة والعطر .. والكومينو ينسحب إلى الأرض ..
وفى الداخل ترى صفًا من الفتيات اللابسات الأقنعة .. جالسات فى صمت أخرس تحت الضوء الشاحب .. يتفرسن فى كل داخل .. ومنهن مع كل ما فيها من رقة وعذرية وجمال .. من تقع فريسة سكير فظ يذيقها كل أنواع العذاب .. وتتحمله بصبر عجيب .. وتظل تعمل فى المكان .. والسكير المتشرد يتردد ويختار .. عجبًا للدنيا بتصاريفها .. فلا يقع مثل هذا فى جنزا وحدها ولا فى طوكيو وحدها .. وإنما فى كل مدينة يقع فيها ليل وملهى ..
بعد أن تجولنا أنا وفتاة السفينة فى طرقات الملاهى وشبعنا من النظر .. اخترنا ملهى من طابقين لنأكل ونسمع فى هدوء الموسيقى الخفيفة .
وجلسنا متجاورين إلى مائدة مستطيلة فى نصفها زهرية .. وجاءت العاملة بالفوطتين المشبعتين بالبخار .. كل واحدة فى طبق .. كأول ما يقدم للزبائن..
وتناولت فوطتى .. وأخذت أمسح وجهها وأضغط على خديها وأنفها وهى تضحك مسبلة عينيها .. وساعدنى على الاسترسال فى العملية خلو المكان .. وفعلت هى بفوطتها فى وجهى مثل ما فعلت ..
وخرجنا كأننا نسبح فى الجو ..
وقلت لها :
– أين تقيمين .. سأوصلك إلى منزلك .. ؟
– سأذهب معك ..
وحاولت أن أقول شيئًا ..
– لا تفتح فمك ..
وانقطعت أسبوعًا كاملاً عن عملها فى السفينة لتبقى معى . وتصاحبنى فى كل جولة ..
وفى يوم سفرى كان قلبى يتمزق وروحى ضاعت ..
وسافرت لأعود بعد شهور قليلة .. ولكنى عدت بعد سبع سنوات كاملة.. ويجمعنى القدر بها فى هذا النزل .. فى ليلة عجيبة بكل تصاريفها .. يجمعنا بعد أن طوح بنا الزمن ، وتصورنا أن الموت فرق بيننا .. وخيم اليأس الذى لا رجاء بعده ..
ولكن ها هى الآن واقفة أمامى بلحمها ودمها وكل ما فيها من جمال ورقة.. واقفة فى هذا النزل وكأنه لم يحدث بيننا فراق ولا غيبة طويلة .. واقفة بكل أنوثتها .. ولكنها جامدة .
وذلك لأن العواطف المتأججة الصارخة أخرسها اليأس والزمن الطويل .. وكان اللقاء المفاجئ كأنه يمسح على جسد مريض طال مرضه وطالت بلواه.. بغير أمل فى الشفاء .
قالت بظل ابتسامة :
– تحدثت مع المدام وستذهب معك مس « أكى » إلى جنزا ..
– أريدك أنت وإلا فلا داعى لهذه الجولة .
– سأجعل المدام تتصل بزوجى وتستأذنه ..
– ما عمله .. ؟
– إنه موسيقى يعمل فى مسرح ميكامو .
لابد أن يكون زوجها عازفًا فنانًا شاعرى الطباع .. فمن كان فى مثل رقتها وطباعها لا يتحمل خشونة رجل آخر ..
– وابنك .. كبير .. ؟
– عمره ست سنوات
وأحسست بالأرض تدور
– أحب أن أراه .
فى الصباح ستراه .. وهو يوزع جريدة أساهى قبل أن يذهب إلى المدرسة.
– أمعك صورة له ..!
– معى ..
– أرينيها .. أرجوك ..
– أخاف أن يغمى عليك .. وأنت طبيب ..
وشعرت بالدنيا تدور فعلا قبل أن أرى الصورة ..
نشرت القصة بصحيفة أخبار اليوم 30/6/1984 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص من اليابان 2001 من تقديم على عبد اللطيف وليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة