فجور
كانوا جيرانا، يحيّون بعضهم بعضا عن بعد، ثم يمضي كل إلى سبيله..
كانوا جميعا يسكنون في منزل واحد ذي ساحة كبيرة، تلتف حولها غرف الساكنين، لكل أسرة من الأسر الأربع غرفة واحدة، فلم يكن في ذلك البلد حديث النهضة، مساكن تكفي هذا الفيضان الدافق من العمالة العربية وغير العربية..
كان في المنزل حمّام واحد يحتوي على مرحاض واحد، ففي الصباحات الباكرة، وقبيل توجههم إلى أعمالهم، كانوا يصطفون في طابور لقضاء حاجاتهم البيولوجية، أما النساء فكن أقدر على ضبط أنفسهن ريثما يتحرك رجالهن إلى أعمالهم، ثم يبدأ طابورهن، ليتكرر المشهد المضحك المبكي..
وكان في المنزل مطبخ واحد، تتناوب النساء على استخدامه، فكان سببا لكثير من المشادات بينهن بداية، ولكن أخذن مع الوقت يتآلفن، ثم توطدت الصلات بينهن، ثم انتقلت عدوى الإلفة إلى الرجال بالتدريج.
وما كاد منتصف السنة الأولى يمضي حتى أصبح القاطنون أشبه بعائلة كبيرة ؛ ففي الأمسيات كان الرجال يتحلقون حول لاعبي النرد (طاولة الزهر) بين مشجع ومتدخل وناصح، والنساء يتحلقن في الطرف الآخر في حوارات تكاد لا تنتهي..
وما أن أتي شهر نيسان (ابريل) حتى تحول البلد كله إلى أتون حارق يشوي الأبدان والأذهان، لتصبح مروحة السقف، وهي أداة التهوية الوحيدة في ذلك الحين، بلا قيمة..
في النهار كانت ميساء زوجة الأستاذ بشير ترش الماء من حين لآخر على أرضية الغرفة وجدرانها، وفوق السرير بفراشه وملاءاته، لتتمكن من اجتياز فترة الأوج بين الظهيرة والعصر، أما في المساء وبعد انتهاء السهرة، كانت ميساء- كما تفعل جاراتها، تعلق ملاءات السرير على حبال الغسيل فتشكل منها حاجزا، يسمح لها ولزوجها وطفلها الرضيع أن يناموا في الخلاء، طلبا لنسمات الليل الأرحم نسبيا.
و لكن في موسم العواصف الرملية، كانوا يحرمون حتى من هذه النعمة...
*****
في أواخر العام الدراسي أعلنت وزارة المعارف أنها ستفتتح في ثلاث مدارس نوادٍ صيفية تجريبية، تمارس فيها مختلف الأنشطة الرياضية والثقافية، وتهدف إلى إشغال أوقات فراغ طلاب المدارس بما ينفعهم وينمي مواهبهم.
فتقدم الأستاذ بشير للعمل في هذه النوادي مع من تقدموا، ولم تمضِ أيام قليلة حتى جاءه ما يشير إلى قبوله.
كان القيظ قد بلغ مداه، فأشفق على زوجته وابنه، فقرر سفرهما إلى الوطن.
ثم سافر جيرانه، الأسرة بعد الأسرة، فلم يبقَ سواه، وجاره ثمان النجار وعروسه منوَّر اللذان يقطنان في الغرفة المقابلة في أقصى ساحة الدار،
عانى الأستاذ بشير مشقة فراق زوجته وابنه،
ثم..
عانى مشقة الوحدة التي لم يعتد عليها،
ثم..
عانى من نظام الورديات المتبع في تلك النوادي،
ثم...
عانى من تجاوزات بعض الطلبة كبار السن،
ثم..
بدأ يعاني من مداخلات عروس جاره منوَّر التي فرضت عليه نفسها:
" إعطني مفتاح غرفتك لأنظفها لك "
" أحضر لي زوجا من الحمام لأطهوهما لك "
" اترك لي ملابسك المتسخة لأغسلها لك "
و بكل لطف كان يحاول التملص من اندفاعها لخدمته:
– يا أختي الكريمة شكرا للطفك وإنسانيتك، لديَّ أوقات كثيرة للراحة بوسعي خلالها القيام بكل شؤوني المنزلية..
– يا أختي الفاضلة لا تتعبي نفسك أرجوك..
ولكنها كانت تصر وتصر وتصر، فكان يخجل من صدها بغِلظة ؛ ورويدا رويدا أخذ يتقبل منها جمائلها الكثيرة، وابتدأ في اعتبارها أختا كريمة..أو هكذا تراءى له..
*****
في كل ثالث يوم حيث تكون استراحته في الفترة الصباحية، كان يحلو له تناول فطوره في الهواء الطلق هروبا من جو غرفته الخانق، فما أن تراه منوَّر، حتى تهرع لمجالسته وبيدها دلة القهوة أو إبريق الشاي..
كانت في البداية تسأله عن طبيعة عمله في النوادي الصيفية.
ثم..
أخذت تبوح بمشاعرها تجاه زوجها المفروض عليها،
ثم...
بدأت تطرح عليه أسئلة حول علاقته بزوجته،
ثم....
تجرأت – ذات مرة – فسألته عن علاقته الجنسية بزوجته، فأرتج عليه، واشتعل وجهه خجلا،
ثم.....
انسحب متوجها إلى الحمام بحجة قضاء حاجة..
ثم......
أخذ يتهرب منها ومن مجالستها، فكانت تقرع باب غرفته ملحة: " الساعة تجاوزت الثامنة ولا زلت نائما يا بشير، إنهض يا كسول، فقد أحضرت لك الشاي وسيبرد إن تأخرت "
وتستمر تقرع وتقرع، حتى يضطر محرجا لفتح الباب ليجدها وقد أعدت ما لذ وطاب..
وذات يوم عاد من ورديته الصباحية وقد أنهكته وطأة الحر الشديد، فما أن فتح باب غرفته، حتى وجد منوَّر بمباذلها الشفافة منبطحة على سريره متظاهرة بالنوم.
– ماذا تفعلين هنا يا منوّر؟
سألها بمزيج من الدهشة والغضب، فأجابته:
– المروحة في غرفتي تعطلت..
فرد عليها – للمرة الأولى – بغلظة:
أرجوك غادري غرفتي حالا!..
اصفر وجهها وارتعشت شفتاها، ثم أجابته:
– أتطردني يا بشير، بعد كل ما فعلته من أجلك؟
ثم انصرفت وهي تردد:
" صدق من قال، خيرا تفمل شرا تلقى "
*****
كانت ورديته المسائية قد انتهت لتوها، عندما عاد حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا منهكا، أدخل المفتاح في قفل باب الدار ثم دفعه كعادته ولكن الباب أبى أن يُفتح، وبعد عدة محاولات فاشلة، أخذ يقرع الباب، ولكن لات من مجيب، اخذ يدفعه بكلتا يديه، عندئذ خرج له صاحب الملك من داره غاضبا: " مهلا يا أستاذ، أنت تكاد تخلع الباب! " قال له ناهرا، فأجابه بشير: "اعذرني يا أخي، فقد عدت لتوي من عملي متعبا وبحاجة ماسة للنوم، ولكن يبدو أن أحدا ما قد أقفل الرتاج من الداخل "، فأجابه المالك متسائلا: " ألا تعلم أن للدار بابا آخر؟ على أي حال هناك مفاجأة بانتظارك! "
تذكر بشير أن للدار بابا آخرا يطل على الشارع الموازي، ولكنه أخذ يتساءل في سره " أية مفاجأة في انتظاري؟ "، بلغ الباب، قرعه، وبسرعة غير متوقعة، فتح له جاره الباب.
– مساء الخير، أخي عثمان، لا تؤاخني أزعجتك، ولكن الباب الآخر كان مقفولا من الداخل.
فأجابه هذا بجفاء:
– أنا من قفله، ثم من أين سيأتي الخير بوجودك يا محترم؟ على أي حال ادخل إلى غرفتي فلي معك حساب، وفتح باب الغرفة.
و كم كانت دهشته كبيرة، عندما وجدها ملأى بالرجال، عرف بعضهم وجهل الآخرين، وفي أقصى زاوية قبعت منوَّر ومعها امرأتان...
– السلام عليكم!!
قالها مرتبكا، ولكن أحدا لم يرد عليه السلام!
و ابتدأ – من ثم - سيل التأنيب:
- أنت لم تراعِ للجيرة حرمتها..
- أنت مربي يا أستاذ؟ بل أنت من المفسدين في الأرض،
- حرام أن تبقى في سلك التعليم يا أستاذ...
هنا، صاح عثمان بعصبية:
- أنا جدع!.. ولا أسمح لأحد أن يتحرش بزوجتي! ولولا أن صبرني أولاد الحلال هؤلاء، لذبحتك ذبح النعاج!
و تكاثرت الأصوات المنددة، وبشير صامت يكاد يتفجر حنقا وغيظا، فقد كان يخشى أن يبوح بحقيقة ما جرى، فيكون سببا في خراب بيت هذه اللعينة من ناحية، وفي الوقت نفسه يأبى أن يمس أحد سمعته، وهو الحريص عليها كل الحرص ؛ ولكن عندما أمره أحد الحاضرين أن عليه أن يرحل من الدار خلال اربع وعشرين ساعة، استفزه ذلك فخاطب الحضور بما يشبه الصياح:
– كل ما سمعتموه من هذه السيدة وزوجها كذب في كذب!!!
اسألوها من تحرش بمن؟
اسالوها من فرض نفسه على من؟
اسألوها من كان يخدم من، ومن كان يطهو لمن؟
اسألوها من كان يهرع لمجالسة من؟
ثم وجه كلامه إلى زوجها:
كيف لي أن أعرف ملابسات زواجها القسري منك يا سيد عثمان؟
كيف لي أن أعرف أنها كانت تحب زميلها في الثانوية وأن والدها عندما علم عاقبها أشرس عقاب، ثم منعها من إتمام تعليمها؟
هل كنت معكم يوم أرغمها والدها على الزواج منك؟
هل كنت معكم حين حاولت الهرب ليلة زفافها منك؟
وقبل أن يلقي بقنبلته المدوية، دخل مالك الدار، وقبل أن يلقي بالسلام، قال يلهجة الواثق مما يقول:
= أشهد أن الأستاذ بشير إنسان شريف.
أشهد أن هذه الحرمة – وأشار نحو منوَّر- هي التي كانت تتحرش بالأستاذ وتتودد إليه.
زوجتاي كلاهما، كانتا تصغيان إلى ما يدور من حديث بينها وبين الأستاذ من وراء الجدار الفاصل بين دارينا، وتعلماني به أولا بأول..
من يجب عليه مغادرة هذه الدار، هو عثمان وزوجته..
ثم التفت نحو عثمان منذرا:
= يا سيد عثمان، عليك أن تسلمني مفتاح غرفتك في آخر هذا الشهر.
ثم انصرف، وما لبث الحاضرون أن بدؤوا ينسحبون الواحد إثر الآخر..
*****
منذ صبيحة اليوم التالي ـ توجه الأستاذ بشير إلى مكتب البريد ليرسل إلى زوجته برقية من
كلمتين: " إرجعي حالا "