صورة
تاريخ النشر :19/10/1969
عنوان الدورية : صحيفة المساء
يحتل أولاء الله موقعا هاما فى التزاوج بين الإيمان الدينى والمعتقدات الموروثة.
إن ولى كل مدينة أو قرية ، هو ذلك القريب من الله ، الذى يتمتع بمميزات خارقة للطبيعة ، انه يحلق فى الهواء إذا مسته النار لاتصيبه بضرر ، ويستطيع أن يمشى على الماء وأن ينتقل إلى أماكن بعيدة فى لمح البصر ، وأن يحصل على حاجته من الطعام فى أى وقت ، وفى أى مكان . وإذا استعصى حل أى مشكلة ، فإن النذر يستحب لأحد الأولياء ، ولو بشمعة واحدة ، حتى يقوم بحلها . بل ان الأولياء يستطيعون اخضاع الجن لنفوذهم ، ويسمى كل ما يصدر عن هؤلاء الأولياء بالكرامات ..
ومن هذه الزاوية تتحدد نظرتنا إلى إقدام محمود الدسوقى بطل قصة " مولد الشيخ حمزة " ل محمود السعدنى على أن يحرم نفسه من الطعام ليتبرع بخروف كنذر للشيخ حمزة ، ثم العودة إلى بلدته ماشيا على قدميه . ومن هذه الزاوية ، يربط الدكتور حسن الساعاتى بين وجود عدد كبير من المساجد فى حى الجمرك بالإسكندرية ، وفى مقدمتها مسجد أبو العباس المرسى ، وياقوت العرشى ، وبين استقرار الحياة فى الحى ، وزيادة كثافة السكان ، لأن أضرحة الأولياء تكون مراكز جذب للسكان ، باعتبار أن الأهالى ينزلون من أنفسهم منزلة عظيمة ، لأنهم أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولا هم يحزنون ..
ولكن كرامات الأولياء لاتصل إلى سر كل الأمراض ، فلكل شيخ مرض يشفيه ، عرفوا التخصص قبل أن يعرفه الطب الحديث ..
فسيدى البيدق يشفى من الصداع ويزوره المرضى بعد صلاة العصر ، فسره الباتع يتجلى بين العصر والمغرب ـ
وأمراض الصداع شفاؤها مؤكد إذا علقت قطعة من ثياب المريض على بوابة المتولى يرفرف بها الهواء .
وأولاد عنان يشفون المرضى بالهزال ..
وسيدى الشعرانى يشفى مرضى النفس والحسد .. ولا بد من زيارة ضريحه مرتين فى اليوم ، فى الفجر وعند الغروب .. انه كبعض الأطباء الذين يحتمون على مرضاهم عيادتهم فى اليوم مرتين ، وان لم يكن هناك ضرورة ..
أما السيدة نفيسة فيزورها مرضى العيون ..
وأما سيدى الكلشانى ، فإن أمراض الغيرة هى تخصصه " ولكن سيدى الكلشانى كأولئك الأطباء الذين يحترمون المواعيد ، فلا بد أن يزور المرضى ضريحه وقت آذان العصر بالتحديد ، فإن بركاته تفيض فى أثناء الآذان ، فتذهب بالغيرة النازلة بصدور مرضاه الواقفين ببابه " ..
ولعل الإيمان بالأولياء يجد تجسيدا له ، فى تلك الصورة الطريفة التى يقدمها السحار فى رواية " فى قافلة الزمان "
" داعب آذان الفجر صوت المنادى قبل الفجر :
الصلاة يا مؤمنين الصلاة .. الصلاة خير من النوم .. فهب أهل البيت من رقادهم ، وقام النسوة يجهزن ابناءهن المرضى لزيارة أضرحة الأولياء فى الفجر ، يلتمسون البرء من أسقامهم ، وفتح باب الدار فى عماية الصبح ، وخرجت ثلاث خادمات يحملن ثلاثة أطفال ، وما بلغن الشارع الرئيسى حتى افترقن ، فما كن ذاهبات إلى ضريح واحد ، فإن الأطفال لايشكون من مرض واحد "
ولما اعتصر الألم قلب محسن الصغير " عودة الروح " نتيجة لفشل حبه ، لم يجد إلا ضريح السيدة زينب ملاذا يلتجىء إليه ، يتناول بيده قضبان الحاجز النحاسية ، ويهمس ملهوفا من صميم قلبه : يا سيدة زينب .. يا سيدة زينب .. يا سيدة زينب .. !
وليس ثمة عروس تدخل دار زوجها قبل مرور موكبها على ضريح الحسين ، وقراءة الفاتحة له ، وما من ميت يموت إلا ويصلى عليه فى الحسين مهما بعدت الشقة ، ومهما أصاب المشيعين من تعب ..
ومن كرامات الأولياء ، ذلك الحادث الغريب الذى قال الكثيرون من أبناء الإسكندرية أنهم شاهدوه بأنفسهم .. وهو سقوط طوربيد على ضريح سيدى أبو الدرداء أثناء غارة جوية فى الحرب العالمية الثانية .. ولكن يدى أبو الدرداء التقطتا الطوربيد قبل أن يسقط ، وقذفتا به فى البحر ..
وتقف قصة " عالم الأسرار " ل محمود البدوى على أرضية من الإيمان المطلق بكرامات الأولياء ..
فبطل القصة مهندس شاب ، بدأ فى اقامة عمارة يشغل جزءا من مساحة أرضها ضريح أحد الأولياء .. وحفر العمال الأساس ، ولكنهم أبقوا مكان الضريح .. ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه ، وكلما شرعوا فى ازالته شلت أيديهم ، أو حدث لهم حادث ..
وحاول المهندس أن يقنع صاحب البيت بالخرافة التى تستولى على عقول العمال .. ولكن المقاول لم يزل الضريح لأن العمال الذين شرعوا فعلا فى إزالته ، سقط واحد منهم من فوق السقالة وكادت أن تدق عنقه ، وحلت مصيبة بعامل آخر ، ومرض الثالث ..
واقترح المهندس حلا وسطا بأن يبنى للولى ضريحا جديدا فى مكان آخر .. ولكن رجل جاءه فى النوم بلباس أبيض وقال له : سيب الضريح مكانه ..
وازداد إصرار المهندس على أن يهدم الضريح .. وجمع العمال وراءه فى حلقة كبيرة .. وأمسك بالفأس ليريهم بأن الأمر أسهل مما يتصورون ويقدرون .. وما كاد يضرب ضربته الأولى حتى انخلع ذراعه .. فصاح العمال : شهدنا لك يا سيدنا الشيخ ..
ولم يملك المهندس إلا أن يبقى الضريح فى مكانه .. بل بناه بالحجر والجرانيت من جديد .. وزينه ووضع فى سقفه القناديل " انه الآن مصباح العمارة ونورها .. وقد أخذ ذراعى فى التحسن .. فأنا الآن استطيع تحريكه .. وأعتقد أنه سيشفى تماما "
وأخيرا فإن إيمان المصريين بالأولياء يصل إلى ذروته ـ فى عمل أدبى ـ عندما ترفض عينا فاطمة النبوية " قنديل أم هاشم " أن تشفيا بعلاج الدكتور إسماعيل .. بينما يفلح الوهم فى زيت القنديل ... أن يعيد البصر اليهما !
عــالم الأسرار
قصة :محمود البدوى
فكرت ـ أثناء المشروعات الجديدة لبنــــــاء المســاكن ـ أن أبنى لنـفسى فيـلا" صغيرة فى ضـاحيـة مـصر الجديدة .
وكان لى زميل فى الدراسة برع فى المعمار .. وغدا من أشهر وأنبغ المهندسين فى المدينة ..
وكانت تستعين به معظم الشركات والبيوتات الكبرى ليتحايل بفنه على الحد المقرر لارتفاع المبانى حتى أصبح لايشق له غبار فى هذا المضمار ..
وذهبت إليه عصر يوم فى مكتبه بشارع الانتكخانة .. واستقبلنى مرحبا ولاحظت أنه لايستعمل يده اليمنى وهو يكتب أو يقرع الجرس أو يتحدث فى التليفون ..
ولم أسأله عن السبب .. ولكن عندما ترك مكتبه وجلس بجانبى لنشرب القهوة وحدثته عن الفيلا ..
قال :
– سأعطى الفكرة لمساعدى وهو الذى يعمل لك الرسم وأراقب أنا التنفيذ ..
– وأنت ..؟
– لقد خلعت ذراعى ..
فنظرت إليه جزعا
وقال وهو يشير إلى النافذة :
– خلعها هذا الرجل الذى هناك ..
ونظرت فلم أر شيئا فى الشارع
فسأل :
– ألم تره ..؟
– لا .. ليس أمامى سوى ضريح ..
– إنه هو ..
ونظرت متعجبا
ورأيت ضريحا صغيرا قد طلى بناؤه وشباكه الصغير وبابه بالدهان والزيت على أحسن صورة .. ووراءه عمارة حديثة عالية قد أخذ فى بياضها وزخرفتها من كل جانب ..
وكان الضريح يشغل الجانب الأيمن من العمارة .. وحوله فضاء على شكل دائرة .. وتراجعت العمارة عن الشارع بما يزيد على ثمانية أمتار .. اكراما للضريح .
وقد عجبت حقا من حدوث هذا فى القرن العشرين ، فالعمارة لولا هندسة صاحبى وبراعته تكاد تكون مشوهة بالجزء الذى اقتطع منها وترك حول الضريح .
وأخذت أقدر بالأمتار المساحة التى تنازل عنها صاحب العمارة طواعية منه إكراما للضريح فى هذه المنطقة الحيوية التى يباع فيها المتر بالمئات وتؤجر فيها الغرفة الواحدة بعشرة جنيهات .
وسألت صاحبى :
– هل صاحب العمارة هو الذى ترك مكان الضريح ..؟
فقال :
– لا .. لم يخطر لنا الضريح على بال عندما شرعنا فى البناء .. ولما جاءنى المقاول لنعاين المكان .. ونضع التصميم .. كان فى مكان هذه العمارة منزل من أربعة طوابق وهذا الضريح .
ولم نفكر فى الضريح اطلاقا .. وأزلناه ونحن نضع التصميم كلية .. وأعطيت الرسم للمقاول للتنفيذ .
ولكن الرجل جاءنى بعد عدة أيام وقال لى إن العمال حفروا الأساس فى قطعة الأرض كلها وأبقوا مكان الضريح .. فلم يجرؤ أحد على الاقتراب منه .
وكلمـا شـرعوا فى إزالتـه شلت أيديهم أو حدث لهم حادث ..
فسألت المقاول :
– هل تعرفون اسم صاحب الضريح ؟
– أبدا .. انه رجل مجهول ..
– هل نخضع للخرافات .. ونشوه العمارة .. ونحمل صاحبها خسارة الآلاف من الجنيهات من أجل ضريح لإنسان مجهول .. هذا تخريف .. يا معلم أحمد .. هذا الضريح يزال غدا ..
وتركت المقاول وأنا فى حالة من الغضب والعجب لبساطة هؤلاء العمال ..
ولكن المقاول لم يزل الضريح ..
لأن العمال الذين شرعوا فعلا فى إزالته سقط واحد منهم من فوق السقالة وكادت أن تدق عنقه وحلت مصيبة بعامل آخر ومرض الثالث فتشاءموا من هذه الحوادث وامتنعوا عن العمل كلية .
واتصل المقاول بصاحب العمارة فوافق على أن يبقى الضريح فى مكانه وأن نغير التصميم على هذا الأساس .
وزاد ذلك من سخطى ، فاتصلت بصاحب العمارة لأجعله يعدل عن رأيه هذا .. وقلت له إن بقاء الضريح فى مكانه سيشوه واجهة العمارة ويجعله يخسر آلافا مؤلفة من الجنيهات .. ولكن نستطيع أن نفعل شيئا يرضى عقيدته ويمنع الخسارة .. ذلك أن نبنى ضريحا جديدا لهذا الشيخ فى مكان آخر .. ووافق على رأيى هذا .. ووضعت للضريح الجديد تصميما رائعا يكلفنا أكثر من خمسة آلاف من الجنيهات .
ولكن عندما نمت فى تلك الليلة جاءنى رجل فى لباس أبيض وقال :
ـ سيب الضريح مكانه ..
وقد فسرت هذا الحلم بأنى كنت مشغولا قبل أن أنام بالضريح .. وكان مسيطرا على عقلى .. فلما نمت حلمت به .. كما يحلم الطالب فى ليلة الامتحان بالأسئلة والممتحنين ..
***
وشرعنا فى إزالة الضريح ولكن واحدا من العمال لم يقدر على أن يضرب الفأس فى الأرض أو فى سقفه أو فى حوائطه .. فشعرت بالغيظ وأوقفت الماكينات التى تحفر الأساس فى الجهة الأخرى ..
وجمعت العمال جميعا ورائى فى حلقة كبيرة .. وأمسكت بالفأس أمامهم لأريهم بأن الأمر أسهل مما يتصورون ويقدرون .. ولأزيل هذه الخرافات من عقولهم جميعا .
أمسكت بالفأس وضربت ضربة قوية فى الجدار .. فانخلع قالب واحد من الطوب .. ولكن انخلع معه ذراعى وأحسست بمثل النار تسرى فى كتفى اليمنى .. وبسواد شديد يزحف أمامى حتى أظلم المكان ..
ولم أقو على حمل الفأس فألقيتها وأنا أتصبب عرقا .. ونظر إلىّ العمال فى ذهول .. ثم صاح أحدهم :
– شهدنا لك يا سيدنا الشيخ ..
وصفقوا وهللوا .. وتركتهم مخذولا ..
أخذت أفكر فى هذا العالم الآخر عالم الأسرار .. وتذكرت الحلم والشيخ الذى جاءنى فى المنام .. وكل ما دار فى رأس العمال من مخاوف بسبب الضريح .. وقلت .. إن هذا عالم آخر .. يعلو عن فهمنا وادراكنا .. وأسراره لاتحيط بها عقولنــا .. إنه عالم الأسرار لاندرك منه شيئا .. عالم الأسرار ..
وأبقينا على الضريح كما ترى فى مكانه .. بل بنيناه بالحجر والجرانيت من جديد .. وزيناه ووضعنا فى سقفه القناديل .. وانه الآن مصباح العمارة ونورها ..
وقد أخذ ذراعى فى التحسن فأنا الآن أستطيع تحريكه واعتقد أنه سيشفى تماما ..
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية 12|1|1955 وأعيد نشرها بمجموعة الجمال الحزين 1962 ل محمود البدوى