الخميس ١٧ نيسان (أبريل) ٢٠٢٥

رَسَائِل بِنت النّور

تَروِي "رَسَائل بنت النُّور" للأديبَة مروة كريدية رِحلَة مِعرَاجٍ روحيٍّ، بأسلوبٍ لُغَوٍّي بَليغ مُترع بالمَعَانِي الروحيَّة البَاطِنيَّة السِّرَّانِيّة، ينسجِم فِيه النَّثر البيَانِي بالأبياتٍ الشِعريَّة، و تُختم فِيه حَلقَات السَّرد بِصِيَغٍ فَريدة من الصّلوَات، كَمَا ضُمِّنَت النصوصِ بفنّ الحُروفِيَّات البَاذخ ، مِمَّا يُشِعِرُ القارئ بالإنزياحِ عن عَالِمِنا إلى عالم المِثَال في رِحلةٍ سَاحرة، وَثَّقتْها المؤلَفة بِالأيام و أرَّخت فيهَا المَواقِيت ، كَمَا تَخَلَّلت الأحدَاث وَصفًا دَقِيقًا رائِعًا لِلأمكنَة وَالأشْخَاص.

وَيشتَمل هذا الكِتاب الذي يُعدُّ إضَافَة مُميزَة للأدب الصُوفِيّ المُعَاصِر، عَلى مقدمةٍ مُهِمَّة و ثَلاثة محاور رئيسِيَّة . حيثُ استفتَحت الكاتِبة منازِل الكتاب بمقدمةٍ جاءت بعنوان (مِنْ وَحْيِ الرَّسَائِل) لَخَّصت فِيها اسبَاب تَدوين تلك التّجربة المنبثِقَة عن خُلوة روحيَّة ، حيث حَرِصَت عَلى نَقلِهَا بِحَرفيتها دون زيادَةٍ أو نقصَان، مشِيرَةً الى انّها موجَهَة "لِلقِلَّة النَّادِرَة " للاستئنَاس في رِحلة الأرواح.

و تؤكّد المؤلفة للِقَارئ على أنَّ هذه "الرسَائل " مَحضُ تَجْرِبَة فَرْدِيَّة خَالِصَة خَاصَّة لا تُسْتَنْسَخُ وَ لَا تَتَكَرَّر، و لَا تَندَرِج ضِمنَ آدَابِ سُلُوكِ التَّصَوّف، وَ لَيْسَت كَرَّاسَة وَصَايَا لِمُرِيدِي التَّحَقُّق ، مشِيرَةً الى ان تلك المَعاني لَا يُدْرِكهَا القَارِئ إلَّا بِالوَعْيِ الحيِّ الذَّائِق فِي رِحْلَةِ اكْتِشَافٍ ذَاتِيَّة، عَلَيه أن يَختَبِرَها بِنَفسِه تَمَامًا .

أمَّا عَن لَقَبِ " بِنت النُّور " فتُشير إلى انّه الاسم الذّي بَشَّرَهَا بِه الشيّخ الأكبر محيي الدِّين بن العَربِي في أكثَر من رؤيَةٍ مَنَامِيَّة ، كَمَا تشيرُ إلى أنَّه الأبّ الروحيّ لها وَهو الذي أمدّها بالإشَارَات فَاتحًا لهَا آفاق النُّور .

وَ تَتَمَحور فُصول الكِتاب حَولَ ثلاثة مدَارِج تَتَضمن كلّ منها سَبَعة معارجَ خاصة .

المحور الأول جَاء بِعنوان ( فَيْض الشَّرَاب فِي مِحْرَابِ الأقطَاب) وتَضَمّن سَبعة مَعارج التَقت فِيهَا الكاتبَة بأهم اقطابِ الصوفيَّة عَبر العصور ، لتبدأ رِحلَتها فجرًا من دمشق مع الكبريت الأحمر ابن عربي، ثمّ تتوجه إلى شَاعر المحبَّة الالهيّة والجَمَال جلال الدِّين الرّومي في قونية ، ثمّ في رِحَاب صَاحب الطَّرِيقَة أبو الحَسن الشَّاذلِيّ وَرِجَالِها فِي حُميثَرة، لِتسَافِرَ بَعدَها الى بُخَارَى في القفقاس حيث تَلتَقِي بَهَاء الدِّين شَاه نَقشَبَند، لِتَختتَم الفَصل الأول مُسَجَّاةً في صَحن الحَرم النبوي في طيبَة بصحبةِ الشَّاذِلي وابن عَرَبي .

المحور الثانِي وجاء بعنوان (رَحِيقُ الأَسْرَارِ فِي رِيَاضِ الأنْوَارِ) وتَضمنَّ سَبعَة مَعارِج كُلّها في حَضرة النَّبيّ المصطفى مُحمَّدٍ عليه السلام ، حيث تَدّرجَت المؤلفة في سَرد المواقف والمدارج الروحيّة، بدءًا من الوُلُوج الى طَيبة، ثمّ إلى لُجَةِ الحَرَم النَّبَويِّ الشَّرِيف، لتتناول بعدَها أصُول أبْجَدِيَّةِ الوُضُوءِ لِلدُّخُولِ عَلَى حَضرَةِ الرَّسُولِ ، والآداب في حضرة صَاحِبِ الأمْدَادِ ، ثم مُنَاجَاةُ الرُّوْحِ فِي رَوْضَةِ البَوْحِ، لتَختَتِمَ هذا الفصل بالفَنَاء سُكرًا في رَحِيقُ الوِدّ فِي مَقْصُوْرَةِ العِشْقِ المُحَمَّدِي.

المحور الثَّالِث وَجَاء بعنوان ( مَعَارِجُ الضِّيَاءِ فِي حَضرَةِ الأنْبِيَاءِ) وَتَضّمّن سَبعة مَعارج روحيَّة في السَّماواتِ السَّبعِ تُقَابلها سَبعَة بُقع مقدَّسَة على الأرض، حيثُ أن العُروج لا يَتِمّ من سمَاءٍ لأخرى مبَاشرة، بل يَعقب العروج الى حضرة كل نبي في سَمَاءه عَودةً إلى البقعة المباركَة الخاصَّة برسالته على الأرض .

وَما يُميزّ هَذا الفصل الوَصف الدقيق لجمال كلّ نَبِيّ واشارات لوصَايَاه وَتَلقينًا مُعينًا لاسِمٍ من اسماء الله.

ففي السَّمَاء الأولَى تلتقي رُوحيَّةِ نَبِيَّ اللهِ آدَم ثُم تُلَقَّنُ وِرْد السِّرِّ الْأَخْفَى بَيْنَ الْصَفَا وَالْمَرْوَة؛ ثم في السَّمَاء الثَّانِيَة تَلتقي رُوحِيَّةِ نَبِيَّ اللهِ عِيسَى الذي يُعَلِّمها القُدَّاسُ الأنْفَس فِي بَيْتِ المَقْدِسِ؛ ثمّ في السَّمَاء الثَّالِثَة بِحَضرَة رُوحِيَّةِ النَبِيَّ يُوسُف يُلقنها وِردِ الخَفَاء فِي لَيْلَة الإسْرَاءِ في وادِ الطميلات بمصر؛ أما في حضرة السَّمَاء الرَابِعَة فتلتقي نَبِيَّ اللهِ إدرِيس الذي يبتهل بالابتِهَال الأعلَى فِي حَرَمِ الأقصَى المبَارَك،؛ و في السَّمَاء الخَامِسَة بحَضرَة النَبِيَّ هَارُون يُحَمَلّهَا مَزَامِيرُ اليَاقُوتِ عِنْدَ جَبَل هَارُون في مدينة العقبة، وفي السَّمَاء السَّادِسَة تجتمع برُوحَيَّةِ نَبِيَّ اللهِ مُوسَى فيُلقي نَشِيدُ النُّورِ فِي جَبْلِ الطُّورِ بِسِينَاء أما السَّمَاء السَّابِعَة فِي حَضرَة النَبِيَّ ابرَاهِيمَ فتُلَبي تَلْبِيَة الأسْرَار فِي كَعبةِ الأنْوَار في مكة المُكَرَّمة .

وَتَختِم بنت النور رِحلتها السرياليَّة تِلك لَيلَة القدرِ بِتَلقيها الورد الأنفس عِند العَرش الأقدس .

أخِيرًا ، يَجِدُ القَارئ نَفسَه أمَامَ صِنفٍ أدَبِيّ شَّائِك أسلُوبًا ومَضمُونًا ، لا سِيمَا وَأنَّ مُحتوىً كهذا يَفتح بَابًا وَاسِعًا لجدَلٍ لا ينتهي، كونه يَدور حولَ المقَدَّسات والغيبيات فِي طقوسٍ تشبِه الوَحيّ ، كَمَا أن القارئ العَادِي لن يَستسيغهُ مَا لم يَكن مُلِمَّا بِإشَارات المتصّوِّفَةِ وَ مَعَانِيهم ومَبَانِيهم اللغويَّة، و َعَلى الرَّغمِ مِن تَأثّر الكاتبة الوَاضِح بِإبن عَربي الذي هو بِحدّ ذاتِه مثار جدلٍ كبير في تارِيخ الفلسفة الاسلاميّة، إلا أنه مما لا شَكَّ فيه أنّ التَّجربة الروحِيَّة للمؤلفَة بَصمَةً فَريدة خَاصّة اسْتَطاعت ان تُترجِمها في نَصٍّ وَ بِنَاءٍ عضويٍّ واحدٍ مُتمَاسك يَصعب عَلى كَثيرين ممن مرّوا بتجَارب مُمَاثِلة تَدوِينهَا .

الجدِير ذكره أنّ د. مَرْوَة كَرَيدِيّة تُقيمُ في الولايات المتحدّة الأميركِيَّة، و هي باحِثَة في المجال الانسَانِي، حيث تطرَحُ مِنْ خِلَالِ إصْدَارَاتِهَا الفِكرِيَّة رُؤية كَوْنِيَّة للقَضَايَا الإنسَانِيَّة المُعَاصِرَة، تَرْتَكِزُ عَلَى فَهمِ العِلمِ بِوَصْفِهِ أدَاةً إِيجَابِيَّةً لِتَحْقِيقِ المَزِيدِ مِنَ الانْسِجَام يَكون فِيهَا الانْسَان ذو وَعْيٍ كَونِيٍّ وَ هَوِيَّة عَابِرَة لكل التَّقسِيمَات مُنْطَلِقًا فِي عَالَمِ يَتطوّر ويَتغَيَّر، وَ مُرتَكِزًا عَلَى اسْترَاتِيجِيَّاتٍ عَمَلِيَّة انسَانِيَّةٍ جَامِعَة ، يَتِمُّ بِفَضلِهَا انتَاج القِيَم وَ تَحدِيد نِظَام الخِطَاب وَسِيَاسَاتِ الدول.

مِن مُؤلفَاتِهَا : عَلَى دُرُوبِ الصَّفَاءِ ، عَوَاصِف النِّسيَان ، حِوَارَات وَ آفَاق ، رِهَانَاتِ السَّلَاَمِ أسْئِلَةَ الْعُنْفِ وَآفَاقِ الكون.

الكِتَاب: رَسَائِل بِنت النُّور

المؤلِّفَة: د . مَروَة كَريدِيّة

الطَبْعَة الأولَى : 2024 بَيروت – لبنَان

الرَّقْمْ الدَّولِي: 978-614-505-030-8

ISBN 614-505-030-8


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى